عرف السرد المغربي طفرة نوعية مع نهاية القرن الماضي، إذ راكم أعمالا روائية وقصصية متعددة ومتجددة في أسلوبها وحبكتها وتقنياتها، ومتمردة على القوالب السردية الكلاسيكية مع ظهور الكتاب الشباب الذين أثروا السرد بأعمالهم. وقد تعززت هذه الطفرة بهجرة بعض الشعراء والباحثين والنقاد إلى الكتابة السردية وخاصة الرواية، مما أسهم في إغناء عوالمه وتعدد مشاربه وتطوره من حيث الكم.
لا تشكل هذه القراءة إحاطة كلية بالوقائع المسرودة والموصوفة في هذا النص، كما لا تدعي تقديم تأويل شامل ونهائي له. إنها قراءة جزئية. وهي كذلك لأنها لا ترغب في الوصول إلى دلالة كلية ونهائية للنص (ولن تصل إلى ذلك ولو أرادت). إنها تقف عند حدود بعينها: يتعلق الأمر بمساءلة مجموعة من “الوقائع النصية” وتحديد موقعها ووظيفتها ضمن البناء العام للنص الروائي.
“سكسوكوليكس” لعزيز ريان، رواية محور حكايتها الذات المأزومة بسبب وضعيتها مع ذات أخرى ترتبط بها عن طريق علاقة غالبا ما تكون علاقة زواج، وفضاء الحكي مدينة شفشاون التي تصبح هي الأخرى ذاتا مأزومة، والشكل السردي الذي تتم به عملية حكي الذات هو الشكل المونولوجي، حيث تحاور الذات ذاتها، والذات الأخرى مما جعل الأحداث تعيش الثبات، ولا تعرف الحركة إلا في تنقلات السارد داخل الذاكرة، أو بين الأمكنة.
قراءة في عنوان الرواية
منذ أن عد جيرار جينيت العنوان نصا رمزيا يندرج ضمن المحيط، ومن شأنه الكشف عن أغوار النص العميقة، أصبح العنوان المولد الحقيقي لتشابكات النص، بل هو مفتاح النص، ولا يمكن الدخول إليه إلا بالمرور على عتبته.
والعنوان هنا “سكسوكوليكس” لا شك في أنه مثير، ويطرح سؤالا جوهريا حول دلالته وعلاقته بنص الرواية، خاصة وأن هذا العنوان مكون من لفظة واحدة لا نجد لها وجودا في معاجم اللغة العربية، ولا في المعجم الشفهي للغة الدارجة، ولجوء الكاتب إلى شكل العنوان هو محاولة منه لدرء أي شرح أو تفسير أو تأويل خاطئ، وكأنه أدرك أن القارئ والمتلقي قد ينصرف ذهنه إلى دلالات وإيحاءات ترتبط بتمثلات جنسية، خاصة إذا ما زاوج بين العنوان وغلاف الرواية، فينصرف إلى وضع فرضية غير صحيحة انطلاقا من المؤشرين معا.
وفي تقديري أن اختيار الكاتب لهذا العنوان لا يخلو من توسيع لفضاء الإثارة في بعده الإيجابي التي تحقق لذة القراءة وفضول الانتماء.
هكذا يلج المتلقي النص/ المتن الروائي، وهو مكبل بغموض دلالة العنوان وبتأويلاته المتعددة، لكن مع الغوص في ثنايا الرواية يجد السارد وقد بدد له كل إبهام وغموض، فيصادف في أكثر من موضع في الرواية شرح وتفسير لدلالة العنوان، ففي الصفحة 177 تبدي أسماء تخوفها من فكرة الطلاق في هذه المدينة، لأن سياط الألسن ستلاحقها وتلاحق أبناءها، تقول:”لأنني ببساطة أخشى فكرة الطلاق… لأن خبر طلاقك يظهر فوق شاشة كل الشفشاونيين الافتراضية، كما تقول أختي سناء في خبر يفوق تسريبات وكيليكس، سمتها سكسوكوليكس شفشاوني لا ينجو منه أحد”.
وفي الصفحة 197، تكشف أسماء عن وجه آخر، غير الذي كانت عليه، وجه ثالث أوضح ومكشوف وأكثر جرأة وعبثية، لم يعد يهمها أن تبرر خيانتها وفعلها في هذه المدينة، لم تشأ أن تغلف خيانتها بهروب معلن من عش زوجية منكسر، بل ستفعل ما يحلو لها، وستعترف أنها شيطانة وليست ملاكا، إنها تتحدى المدينة وسكسوكوليكس:
المدينة كحاسوب مخابرات أمريكية، ما أن يذكر اسم حتى تنزل في شاشته الافتراضية كل المعلومات الخاصة وتاريخه وأخطاؤه، وأحداثه، وأكاذيب مختلفة حوله. كأننا في تسريبات سكسوكوليكس المحلية، كما تقول أسماء. تتوسع في الشرح: “سكسو” لفظة معناها باللهجة المحلية: كسكس ومعناها بالقشتالية: “جنس”. “كوليكس”: كواليس غامضة وسوداء وتنفجر في قهقهة جنونية. تقول إن سناء من ابتكرت اللفظة ذات احتراق من ألسن المدينة المسننة “.
وعند مقتل حميد بواد لاو رفقة امرأة عشيقة، بدأت التسريبات والأقاويل والإشاعات تلوكها ألسنة أهل المدينة، حتى قبل بدء التحقيقات الأمنية..
“الكل صار محققا محترفا. قيل كل شيء، تكهن الجميع بكل ما هو ممكن وما ليس ممكنا، سكسوكوليكس بلباس شفشاوني، سكسوكوليكس الجرائم يشتغل، بطله زوجي الذي سمعت عن فضائحه الليلة بعد رحيله..” ص: 270
وحتى وإن رحل جيل وجاء جيل آخر جديد سيمارس نفس أخطاء الأجيال السابقة، سيبقى نفس الفضول والمراقبة، نفس التجسس، نفس النهش في السير، يقول السارد:
“نفس التجسس، نفس النهش في السير. نفس الكلام، والإشاعات، سكسوكوليكس مُزمن” ص: 295.
لقد أعفى الكاتب القارئ من عمليات التأويل التي يمكن أن يباشرها وهو يحاول فك رموز ودلالات العنوان، فقدم له الدلالة بشكل واضح ومباشر عبر هذه الوقفات التي سيقف عليها القارئ وهو يساير أحداث الرواية، وبذلك يكون العنوان بمثابة توصيف لحالة المدينة، مدينة شفشاون التي تراها شخوص الرواية أشبه ما تكون بمنظمة دولية، أو موقع إلكتروني ينشر تقارير سرية وتسريبات إخبارية مجهولة.
قراءة في الغلاف:
اللوحة مأخوذة من متحف الرسام سالفادور دالي هناك توجد لوحة “غالارينا” وضعية المرأة بصدرها الأيسر المكشوف ونظرتها وطريقة يديها كما “قفة خبز”. غالا كانت الزوجة الروسية للفنان سلفادور دالي.
لوحته تمثل مزيجا غير عقلاني من الأشياء الحقيقية، مشوهة بشكل متناقض، أصبح دالي تجسيدا حقيقيا للسريالية مع حرية الروح المتأصلة في هذا الاتجاه من الفن. فما علاقة هذه اللوحة الفنية بمضمون الرواية؟
أعتقد أن قراءتي لمضمون الغلاف لا يخرج عن مجموع التأويلات والقراءات الممكنة لفهم طبيعة العلاقة بين اللوحة الفنية ومضمون الرواية، فالمرأة “غالا” الجالسة بنصف جسدها العاري تمثل البطلة أسماء التي تنظر عبر مرآة خيالية إلى جسدها الذي تشكل وتحول إلى قصر من الأحلام، إنها تمعن في التأمل والنظر لاكتشاف جسدها المُلغى فتستغرق في غربتها وعزلتها، لكنها ترتبط بالوجه الأنثوي الآخر الذي يتواجد بجانبها، هذا الوجه يمثل الواقع الذي تعيشه أسماء بتشققاته وتصدعاته البارزة على جدران الحائط، والخيط المتصل بينهما. إن أسماء تتطلع إلى تشييد قصر من الأحلام في المستقبل، لكنها ترتبط بخيط رفيع بالحاضر المؤلم بمآسيه وخطوبه. في حين يرمز الجسد العاري إلى الانعتاق والحرية والانطلاق من هناك بلا أشلاء تعطل نشوة الانفلات، إنه إعلان عن تحرير جسدها من قيود المجتمع بأعرافه وقوانينه وبتسريباته وإشاعاته. جسد عار هو إعلان عن التخلص من سياط الألسن ومن سكسوكوليكس محلي.
المتن الحكائي:
“سكسوكوليكس” حكي ينساب مع خطوات الساردين وخصوصا أسماء في أزقة وأحياء شفشاون، ومع خطواتهم باتجاه التذكر لأيام الطفولة والمراهقة. نبعان إثنان يحددان مرجعية الحكي في النص هما: المرأة/ الزوجة والمدينة / شفشاون. نبعان يتحول الواحد فيهما إلى مرآة عاكسة للآخر، فما تعرضت له أسماء في مسار حياتها وخاصة من زوجها حميد، يشبه كثيرا ما تعرضت له المدينة من إساءة من الكائن البشري أيضا.
يشكل المقطع السردي الافتتاحي للنص، إطلالة على الجو النفسي للذات الساردة (الهواجس، الصمت، الوحدة، الفراغ…) “أتجول كنحلة من مكان إلى أخر، أغالب هواجسي، أصارع ضعفا، البيت فارغ كما كل صباح، صمت ينمو أمام ناظري، تهاجمني الوحدة، أنا هنا كأثاث بيت خرب، أهجسُ بصوت عالي، أخشى أن أدخل مع حميد في متاهات متعبة….”، إلى جانب تحديد فضاء الحكي الذي تنطلق منه الذات لكي تدخل في حوار مع ذاتها والآخر (المدينة)..
ينقلنا السرد مباشرة بعد المقطع الافتتاحي الذي تسرده الساردة ـ الذات المحكية، إلى مقطع سردي يؤشر عليه عنوان المقطع (أنا المدينة.. والمدينة أنا. شفشاون، أو الشاون) يعبر عن انتقاله إلى سياق تلفظي مختلف.
يبدأ المقطع / الملفوظ بالجمل التالية: “مدينة لا تتسع إلا لبعض أحلامهم، كي ترسم فوق أزقتك بعض قصص وحكي. الحكي بوح. الحكي لغو. الحكي انبعاث، آهات تحت رماد الألم. تحت لوك الفضيحة…”.
تشخص هذه الجمل في ترتيبها وتسلسلها، طبيعة الأزمة التي حلت بالذات (أسماء)، وذلك بسبب استحالة التوافق مع ذات أخرى هي (زوجها حميد) مما جعل ذات الساردة تشعر بالفراغ والوحدة القاتلة. نتقدم في التواصل مع هذا المحكي في اكتشاف حالة أسماء التي تعرضت خلال مسار حياتها لهزات عنيفة جعلتها مثل مركب صغير يقاوم أمواجا عاتية من أجل الوصول إلى بر الأمان، وخلال مسارها الذي بدت فيه سناء امرأة خنوعة مستسلمة لخيارها ومضحية، حريصة على الحفاظ على عش الزوجية بصمتها إلى امرأة متمردة صلبة مقاومة، عنيدة ومتحدية إلى درجة ارتكاب نفس خطيئة زوجها وهي الخيانة الزوجية، لتتوقف في النهاية عن عبثها، وتعود إلى نفس هدوئها وبناء أحلامها المتعددة. لكن مع استحضار عنصر آخر لعب دورا كبيرا في نسج هذا المحكي وهو المدينة/ شفشاون، تحكي المدينة: “كأني أسماء وكأنها أنا. تراني عجيبة وأراها أعجب. كأني أحكي حكايتها، وكأنها تحكيني”.
التشكيل السردي في الرواية:
تتميز الرواية بخاصية التشكيل السردي الذي يقوم على تنويع المحكيات وتداخلها، (حكاية أسرة أسماء، حكاية هشام، حكاية أولغا وابنتها باو، حكاية سناء، حكاية أم كلثوم، والعربي، ونوال ويوسف…..) بما يوحي للقارئ بتشظية الأحداث ولملمتها داخل النسيج السردي، وحيث تقوم بطلة الرواية أسماء بتبئيرها وتجميع تفاصيلها حول تجربتها في الحياة وعلاقاتها مع زوجها حميد ومع أبنائها ريم وعلي وأختها سناء، وصديقها هشام، وشخصيات أخرى تحضر في الرواية.
من جانب آخر، فالرواية تستدعي تعدد المداخل إلى قراءتها، فهي لا تفرض على القارئ موضوعا معينا، أو قضية معينة تتناولها، بل إنها تسعى إلى أن تكون نصا روائيا مفتوحا على جملة من القضايا والموضوعات، صحيح أن التجربة الحياتية لأسرة أسماء شكلت البؤرة المركزية للرواية، إلا أنها انفتحت على الكثير من التجارب الحياتية الأخرى لشخصياتها، وكذا مجموعة من الظواهر الاجتماعية والنفسية والثقافية التي تعشعش داخل المجتمع الشفشاوني من قبيل التحرش الجنسي، والشذوذ الجنسي، والبرود الجنسي والعاطفي في العلاقات الزوجية، وانتشار الإشاعات والأقاويل، والشأن الثقافي والسياحي بالمدينة، ومعمار المدينة وما يعتريه من أوضاع وتحولات، و,,,,,,بهذا المعنى فالرواية تنفتح على كل الموضوعات، لتجعل من الشأن العام شأنا خاصا يهم الشخصيات وهي تعيشه وتسائله وتعبر عن مواقفها منه. إن تعلق بطلة الرواية بولديها ريم وعلي الذي كادت أن تفقده في لحظة (,,,,,,علي / الرجل الشاذ) يفتح الباب على واحد من الموضوعات التي تعرض لها الرواية بكثير من الخوف والحذر…. والشهادة على واقع جديد يعيشه الجيل الجديد، كما أن انفتاح الرواية على الخيانات الزوجية في مجتمع صغير ومحافظ سهلت التكنولوجيا الحديثة انتشارها وتعددها يشكل منطقة جذب حكائي لها سحرها الخاص.
تقوم الرواية بكثير من التوليف بين هذه المكونات والعناصر، وهي تسمح للقراءة بأن تبني شبكتها القرائية على جملة من المظاهر التي تخص التشكيل السردي، ومن بينها:
1 – بنية الشخصيات الروائية وشبكة العلاقات التي تربط بينها والوظائف النصية التي تقوم بها، فإن كانت الرواية تعتمد على بطلين مركزيين هما أسماء وحميد، فإنها تبني نسيجا من العلاقات الواسعة بينه وبين العديد من الشخصيات التي عوالمها الخاصة، مما يؤدي إلى توسيع المحكي الروائي (مثال من النص)
2 – تشابه فضاء شفشاون مع فضاء تارية، بحمولتيهما الدلاليتين المتطابقتين، وحضورهما القوي في حياة أبطال الرواية (مثال).
3 – يبدو فضاء شفشاون بمثابة مولد للتداعيات التي تعرفها الأحداث، ليشكل امتداده بالنسبة لحميد نحو تارية وواد لاو، أسماء نحو مارتيل، وسناء نحو الخارج، وهشام نحو الدار البيضاء، وريم وعلي نحو باريس، ونوال نحو تطوان ومارتيل. ثمة ما يعني توسيع الفضاء الروائي وتنويعه والوقوف عند دلالاته ورموزه ومعانيه. في هذه الرواية لا يظهر الفضاء الروائي كمجرد مكان لمسرح الأحداث، بل إنه يحيا حياته الخاصة، بما يعتريها من ذاكرة للمكان وتحولات جوهرية.
التقطيع: (البناء الروائي)
ينحت الانتظام النصي لرواية (سكسوكوليكس) بنيته الخاصة والمتميزة، التي تشحذ كل إمكاناتها التسريدية لنسف نمطية السرد الروائي، المستند إلى تنامي الوتيرة بتطور الحدث البنيوي وتشكل العقدة التي تستدعي الحل.
ولغياب نسقية الحدث تتوالى المقاطع السردية ضمن أربعة أقسام ارتبطت بشكل متوالي بفترات زمنية متسلسلة 2018 ـ 2019 ـ 2020 ـ 2021)، وبحدث كوني كان له حضوره المعتبر داخل الرواية وهو حدث الجائحة كورونا، هكذا إذن ينتقل بنا السارد من مقطع إلى آخر وهو يرصد مختلف التحولات والتطورات المتشابكة التي تتعرض لها شخصيات روايته بدءا من المقطع الأول الذي اختار له من العناوين: 2018 الغيبوبة، مرورا بالمقطع الثاني: 2019 آثار جانبية، ثم المقطع الثالث: 2020 الحجر العاطفي، وانتهاء بالمقطع الرابع والأخير: 2021 ملحمة الحياة أو سر الممات. وفي كل مقطع من هذه المقاطع الأربعة تحكي شخصيات الرواية عن حياتها ومشاكلها وأحلامها وعلاقاتها مع المحيط والمجتمع الذي تعيش فيه، في سيرورة تمتد لأربع سنوات تستحضر فيها ماضيها، وتسترجع صورا من ذكريات وأحداثا من طفولتها ومراهقتها وريعان شبابها. ويعتمد الاسترجاع منظورا تأمليا قصد إعادة الحياة للحظات ماضية منسربة. فالرواية وإن كانت تتحدث عن تجارب حياتية مختلفة لشخصياتها داخل فضاء مكاني موحد هو مدينة شفشاون، فهي تتقاطع فيما بينها في الكثير من القضايا والمواضيع لتعبر وبشكل قاطع عن قضايا المدينة والمجتمع الشفشاوني بكامله.
يتشكل القسم الأول (2018 الغيبوبة) من أحد عشر مقطعا، والقسم الثاني (2019 آثار جانبية) من 11 مقطعا، والقسم الثالث (2020 الحجر العاطفي) من ثمانية مقاطع، والقسم الأخير (2021 ملحمة الحياة أو سر الممات) من ستة مقاطع.
ولا يقتفي السارد منحى محددا في التقطيع أو التبويب أو التسمية، ولا يُعينُ القارئ بفهرس كاشف للأقسام والمقاطع أو باستهلال تقديمي يُيسر اقتحام القراءة الساهية، بل يبني القارئ بمفرده اكتشافا لخصوصية التقطيع وهو يخوض فعل القراءة، فالمقاطع تحمل عناوينها حين يرغب لها السارد ذلك، ويغيب العنوان ويحضر في موقعه الرقم الترتيبي واسم الشخصية التي سيُتحدث عنها في ذلك المقطع (1 أسماء/ 2 حميد/ 3 أسماء / 4حميد….)، وأحيانا أخرى تغيب الأرقام وتحضر العناوين وأسماء الشخصيات (سناء: تزهر الزنابق، كلما حان الربيع/ أسماء: عود على بدء).
وهناك ما يشير في الرواية إلى ترابط أقسام الرواية فيما بينها، وهو توالي السنوات (2018 ـ 2019 ـ 2020 ـ 2021)، إضافة إلى تكرار أسماء الشخصيات الممثلة لأحداث الرواية كعناوين للمقاطع، مما ينبئ ويكشف على أن الأحداث وحدة متصلة لا انفصام بينها، ومرجع هذه الوحدة والاتساق، إلى أن المتن الحكائي قائم على نظام مركزي ثابت.
وقد جاءت الأقسام الأربعة المشكلة للرواية عبر وحدات مستقلة، ممثلة في الفصول، مثلت هي الأخرى لحدث بذاته، أو متممة لحدث سابق، كما أن الحدث يدور حول شخصية من شخصيات الرواية، إلا أن الوحدات التي تشعر بانفصالها جاءت وبطريقة قصدية في إطار الحلقات القصصية، حيث كل مجموعة في ذاتها وحدات تشكل تكوينا بنائيا لأشخاص مختلفي الأمزجة والطبائع، ثم تتصل الوحدات المستقلة (شكليا) مع بعضها البعض، لتكون في النهاية وحدة كبرى بها يكتمل بناء الرواية ككل.
على سبيل التأويل:
من المسائل التي تستوقفنا بعد إنهاء قراءة الرواية أن الساردة أسماء تقرر استئناف الحياة بعد مقتل زوجها الخائن. من هنا يتخذ قرار الاستئناف أهمية كبيرة لأنه يرتبط بضرورة ابتداع الحرية والتجرؤ على الاختيار في سياق مغاير هو سياق انتشار الأخبار الزائفة، وصناعة الإشاعات وتسريبات سماها الكاتب بـ “سكسوكوليكس محلي قح”، في مجتمع تقليدي، صغير، يدعي المحافظة والتورع، فالتحرر من سلطة ورقابة المجتمع المتناقض في أفكاره وسلوكاته، وفي عصر تنتشر فيه الأخبار والتسريبات بسرعة البرق عبر الفضاء الأزرق، في ظل هذه الظروف تصبح الحرية والاختيار هي نوع من المراهنة على الفعل من أجل التغيير.
ثم إن قيمة الرواية أيضا تعود إلى كونها ألقت ضوءا قويا على قيمة الفرد وخصوصيته رغم غلبة الغيرية وسطوة الرقابة الجماعية.
من خلال ما لامسناه في هذه القراءة وما لم نتطرق إليه لضيق المجال، نجد أن “سكسوكوليكس” قد أنجزت جزء من المعادلة الصعبة التي تنظر إلى الرواية على أنها فضاء للمتعة والمعرفة وتقديم عناصر ومحكيات، تتيح قراءة ملامح من الواقع المتشابك الذي يحتاج إلى التخييل واللغة النافذة ليُسلم بعض أسراره، وهو ما حققه عزيز ريان بحسه المرهف وقدرته على الرصد والتحليل وملاحقة التحولات المتناسلة.
< بقلم: عبد الطيف بن شبتيت