محور العلم الإلهي هو العلة المطلقة والمعلول المطلق، لأن الله تعالى على ما اتفقت عليه الآراء كلها ليس مبدأ لموجود معلول دون موجود معلول آخر، بل هو مبدأ للوجود المعلول على الإطلاق، ولذا يكون هو العلة المطلقة أيضا، إذن لا لوم علينا إذا افتتحنا عرضنا عن إلهيات الشيخ الرئيس ابن سينا بالحديث عن الارتباط بين العلة والمعلول.
يقول ابن سينا: «فإنه إذا كان شيئان وليس وجود أحدهما من الآخر، بل وجوده له من نفسه أو من شيء ثالث، لكن وجود الشيء الثاني من هذا الأول، فله من الأول وجوب الوجود الذي ليس له لذاته من ذاته، بل له من ذاته الإمكان على تجويز من أن يكون ذلك الأول مهما وجد لزم وجوده أن يكون علة لوجوب وجود هذا الثاني، فإنه الأول يكون متقدما بالوجود لهذا الثاني».
ويقول أيضا: «الشيء قد يكون بعد الشيء من وجوه كثيرة: مثل البعدية الزمانية، والمكانية. وإنما نحتاج الآن من الجملة إلى ما يكون باستحقاق الوجود، وإن لم يمتنع أن يكونا في الزمان معا، وذلك إذا كان وجود هذا عن آخر، ووجود الآخر ليس عنه، فما استحق هذا الوجود إلا والآخر حصل له الوجود، ووصل إليه الحصول. وأما الآخر فليس يتوسط هذا بينه، وبين ذلك الآخر في الوجود، بل يصل إليه الوجود لا عنه، وليس يصل إلى ذلك إلا مارا على الآخر. وهذا مثل ما تقول: حركت يدي فتحرك المفتاح، أو ثم تحرك المفتاح، ولا تقول تحرك المفتاح فتحركت يدي، أو ثم تحركت يدي. وإن كانا معا في الزمان. فهذه بعدية بالذات».
ومعنى ذلك أن تقدم واجب الوجود العلة على واجب الوجود المعلول ليس هنا زمانيا أو مكانيا، وإنما معنوية تؤول إلى نسبية كل من العلة والمعلول، مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له، وكحركة اليد مع حركة الخاتم، وحركة اليد في الماء مع حركة الماء، فبعضها علة وبعضها معلول.
فإذن «وجود كل معلول واجب مع وجود علته». وهذا من جانب المعلول. «ووجود علته واجب عنه وجود المعلول». وهذا من جانب العلة. وهما عند الشيخ الرئيس، أي العلة والمعلول «معا في الزمان أو الدهر».
نصل بهذه الخطوة إذن، إلى تقرير أزلية هذا الوجود (العالم). فإنه ما دام “المبدأ الأول” واجب الوجود بالضرورة، فلا يمكن أن يكون زمن لا يوجد فيه، فهو إذن قديم أزلي. وما دام معلوله، وهو هذا العالم، لا يمكن أن يتخلف عن وجوده – أي عن وجود “المبدأ الأول” – فمعلوله هذا، وهو هذا العالم، قديم أزلي مثله بالضرورة.
ولنقرر هذه النتيجة المنطقية بصيغة أخرى: إن وجود المعلول، إذا كانت أزليته بمستوى أزلية علته، فإن ذلك ينتج عنه بالضرورة، أن الارتباط بين العلة ومعلولها، ارتباط اعتباري محض.
ولقائل أن يقول: «إنه إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجد الآخر، وإذا ارتفع ارتفع الآخر، فليس أحدهما علة والآخر معلولا، إذ ليس أحدهما أولى أن يكون علة في الوجود دون الآخر».
يعتبر الشيخ الرئيس أن هناك اختلافا وتفصيلا فيما يتضمنه مفهوم هذه القضية، أي قضية “إذا وجد وجد الآخر، وإذا ارتفع ارتفع الآخر”. وذلك «لأن معنى “إذا” لا يخلو إما أن يعنى به أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود نفسه أن يحصل الآخر، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود أن يكون قد حصل وجود الآخر، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل في العقل يجب عنه أن يحصل الآخر في العقل، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في العقل أن يكون قد حصل الآخر في الوجود أو حصل في العقل». وهكذا فإن لفظة “إذا” في مثل هذه المواضع مشتركة ومغلطة للسامع.
ويعتبر الشيخ الرئيس أن الأول كاذب غير صادق، لأن العلة هي التي إذا حصلت يجب عنها حصول ذلك الآخر بعد أن يكون ممكن الحصول دون الممتنع. وأما المعلول فليس حصوله يجب عنه حصول العلة، بل العلة تكون قد حصلت حتى حصل المعلول.
وأما القسم الثاني فلا يصدق في جانب العلية، فإنه ليس إذا وجدت العلة وجب في الوجود إن كان المعلول قد حصل من تلقاء نفسه أو بغير علة، أي بعلة أخرى دون تلك العلة. وذلك «لأنه إن كان قد حصل فلم يجب في الوجود من حصول العلة إذا وجدت العلة وكانت تلك قد حصلت مستغنية الوجود، إلا أن لا يعني بـ “حصلت” ما مضى». أي أنه لا يعني بـ “حصلت” المعنى السابق وهو التقدم. ويستدرك الشيخ الرئيس بالقول إنه حتى وإن عنى بالمقارنة فيصح ولا يصدق من جانب المعلول من وجهين: «وذلك لأن العلة وإن كانت حاصلة الذات فليس ذلك واجبا من حصول المعلول. والوجه الثاني أن الشيء الذي قد حصل يستحيل أن يجب وجوده بحصول شيء يفرض حاصلا إلا أن لا يعنى بلفظ “حصل” مفهومه».
وهكذا ينتهي الشيخ الرئيس إلى اعتبار أن القسم الأول كاذب غير مسلم، واعتبار القسم الثاني لا يصدق من جانب العلة، ومن ثم فإنهما مضللان للسامع.
وأما بالنسبة للقسمين الأخريين، وهما باعتبار العقل، فالأول منهما صحيح، إذ يجوز القول إذا وجدت العلة في العقل وجب عند العقل أن يحصل المعلول الذي تلك العلة علته بالذات في العقل، وأيضا إذا وجد المعلول في العقل وجب أن يحصل أيضا وجود العلة في العقل.
وأما الثاني منهما وهو القسم الرابع فيصدق منه أنه إذا وجد المعلول شهد العقل بأن العلة قد حصل لها وجود لا محالة مفروغ عنه حتى يحصل المعلول، وربما كانت في العقل بعد المعلول لا في الزمان فقط، ولا يلزم أن يصدق القسم الآخر من هذين القسمين الداخلين في الرابع.
يقول ابن سينا: «وكذلك في جانب الرفع فإنا إذا رفعنا العلة رفعنا المعلول بالحقيقة، وإذا رفعنا المعلول لم نرفع العلة، بل عرفنا أن العلة تكون قد ارتفعت في ذاتها أولا حتى أمكن رفع المعلول، فإنا لما فرضنا المعلول مرفوعا فقد فرضنا ما لا بد من فرضه معه بالقوة، وهو أنه كان ممكنا رفعه. وإذا كان ممكنا رفعه فإنما أمكن بأن رفع العلة أولا، فرفع العلة وإثباته سبب رفع المعلول وإثباته، ورفع المعلول دليل رفع ذلك، وإثباته دليل إثباته».
وهكذا نصل إلى حل هذه الشبهة، فالمعية ليست هي التي أوجبت لأحدهما العلية، حتى يكون ليس أحدهما أولى بالعلية من الآخر لأنهما في المعية سواء، بل إنما اختلفا لأن أحدهما فرضناه أنه لم يجب وجوده بالآخر، بل مع الآخر، والثاني فرضناه أنه كما أن وجوده مع وجود الآخر فكذلك هو بالآخر. وهذا هو الارتباط بين العلة والمعلول.
بقلم: بادر الحمين
طالب باحث/ ماستر الفلسفة والعلوم في العصر الوسيط
إقليم تاونات