في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
عيسى إيكن .. حكايا وأبجديات غابرة
انفتحت التجربة الإبداعية التي خاض غمارها الفنان التشكيلي عيسى إيكن (1937 – 2016) على مغامرات الرسم والنحت والشعر وتصميم الحلي منذ عام 1974. راكم منعطفات نوعية بوزارة الشباب والرياضة كمدير مركزي لمديرية الشباب والطفولة، في رحاب ورشات الفنون التشكيلية والموسيقى وحركة مسرح الهواة والأنشطة التربوية الموجهة للطفولة..، كما تولى مهمة مدير المعهد الملكي لتكوين أطر الشباب والرياضة، وعمل مستشارا لوزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري، إلى جانب ترؤسه لجنة دعم الفنون التشكيلية لسنتي 2014 و2015. حول معالم هذه التجربة المنفردة، يقول الفنان المحتفى بمساره الثقافي في عز حياته في شهادة بالفرنسية بادرنا إلى ترجمتها، فيما يلي مقتطف منها:
العلامة سيدة التشكيل
“تتأسس مقاربتي الفنية كلها على العلامة. أية علامة؟ العلامة الحاكية، العلامة التزيينية، العلامة السوسيولوجية، العلامة الميتافيزيقية، العلامة الرمزية، العلامة الأبجدية؟ كل هذا. من الأهم تحديد مجال هذه المقاربة من أجل استيعابها جيدا. لماذا لم أعرض هذه المقاربة في اتجاهات أخرى؟ لماذا سكنتني العلامة منذ طفولتي؟ تم التلفظ بالكلمة، الطفولة. كتبت صحيفة بعد زيارتها لمعرضي: “أعمال إيكن تبدو وكأنها تستخرج حكايا منتمية للتقليد الشفهي الذي يترجمه إلى علامات وألوان متوهجة. هيروغليفات؟ أوشام؟ قطع اللعبة المركبة؟ أبجديات من الصعوبة معرفتها؟ قد تكون لغة حلمية أو لغة ذات بعد آخر؟ تثير الرموز السرية في أعمال إيكن الخيال والشعرية وتفتح بشكل حميمي مسلكا مرتبطا باللاوعي”. بعيدا عما يمكن لذاكرتي استحضاره، أجد نفسي دائما وسط ثلاثة عناصر وسمت طفولتي وتشكل أساس نشاطي الفني: حكايا جدي، قراءة مؤلفات حول عنترة، سيف بن يزل، ألف ليلة وليلة…إلخ، إضافة إلى الخرافات الشفهية التي تروى أبا عن جد. أوشام جدتي التي استأثر بي سرها الخفي. لم أفهم الدلالة. في ذلك الإبان، لم أكن أدري بأن بعض العلامات المثبتة على الوجه أو في مقدمة الذراع تمثل حروفا أبجدية. نسيج الحنابل. أثناء فصل الشتاء تمارس جدتي مهنة النسيج داخل ما يسمى بالصالون وخلال السهرات الطوال تنسج هذا النوع من الأغطية. الخطوط بالألوان، العلامات تبرز على صوت الأناشيد التي ترددها النساء أو على إيقاع الحكايا، حيث تخلق الأساطير والحب جوا انفعاليا غنيا بالأحاسيس. شرعت في الاهتمام بهذه العلامات: أوشام، أبجدية تيفناغ، علامات الزرابي، أسوار الجنوب، أشكال الزليج، الأرابيسك، الحلي…
تحرر العلامة من أبوية كل فكر تشكيلي
في مرحلة أولى، أعدت تشكيل هذه العلامات مثبتا إياها من جديد على أسندة صباغية. تتابع هوى الإبداع. كانت حينها مصغرة ومندمجة داخل مجموعة. كانت فترة متميزة جدا، فأعمالي كانت ذات حجم صغير ضبطت المساحات الكبيرة. كانت لوحات هذه الفترة في شكل تجمع، حيث اللون والتركيبة يشعشعان على نحو خفيف وكامل. رويدا رويدا، تأخذ العلامة في بعدها الصغير أشكالا. نجد أشكالا إنسانية، حيوانية، نباتية… في ذاكرتي الجماعية، تبدو هذه العلامات وكأنها تعطي انطلاقة الأشكال الأولى لأصلها وأرضية تعبيرها الأولى. على هذا المستوى من المقاربة وإلى حدود الآن كذلك، تحررت العلامة من أبوية كل فكر تشكيلي لتؤكد تعبيرها الخاص. في الحال تطرح أسئلة: أليست العلامة والشكل في معناه الواسع والكتابة والإيديوغرام ثمرة تحول طويل عبر القرون؟ ألا تثير في الخيال الخصيب للفنان الصور والحكايا والخرافات؟ تاريخ تتجذر شذراته جيدا في الذاكرة. ظهور الشخوص، فرادى وجماعات، يشكل التجلي الأول لتحول العلامة بعد هجرتها في مختلف القارات بتقارباتها مع علامات أخرى كالهيروغليفيات أو الأشكال الأزتيكية. توحي هذه الشخوص حد السريالية بأحاسيس متباينة.
إيحاءات تذكارية
القراءة الأولى. عند النظرة الأولى، تبدو خارجة عن المألوف، فهي تلاحظ بخصوصية الهيأة ذات المظهر الشعري، ملتمسة في أغلب الحالات ذرة حب، واضعة اليد على الصدر بالنسبة إلى القلب أو فعل منفصل للتدليل على إحباطها أو تمردها على عدم تمكنها من الحصول على ما كانت تطمح إليه. لا يفيد غياب ملامح الوجه حول عمر الشخصية. يمكن أن تفعل كشاب بقوة العمر الذي تعرض بقسوة لقدر جرده مما شغل فكره رغم التصريحات المتعددة للحب على ظل شجرة التين الكبيرة التي غطته بأوراقها خلال حيز زمني.
أليست بالأحرى رجلا في أفول العمر يبحث في عزلته العميقة عن بريق أمل. محمي بملمح في شكل تابوت. حضور الموت مرئي بلونه، قاس، ومحتم لكنه شديد العزم، في مكان ما، بمنفذه المقدر. لا يبدو أكثر بعدا عن الشخصية. إنه في المكمن، ينفخ نفسه بتحليق طائر.
القراءة الثانية. أليست هذه القراءة رمزية، ألا تمثل جزء الذاكرة المكبوت الذي يرفض المحو أو بكل بساطة الجهل؟ تكامل الشخصية لا يتم في المجزأ. إنه في حاجة إلى شمولية الذاكرة القصيرة التي تجذب الحنين الصامت وفقدان الكلمة. إنها تؤلف شذرات صور أتلفت بالزمن لتعويض معاناتها الأليمة. الإدماج لا يختزل المنفى، لا يفضي إلى النسيان رغم المظهر الخداع والاستبدال.
تدوم الحرية، مقولة عابرة مرتبطة بالظرفيات وبشجب السائد وبالمصادر التي تعج بالأحداث. الذاكرة قادرة على التقاطعات العميقة للفكر والمعيش والعلاقات. تتوق الشخصية الغرافيكية إلى تفكيك هذا الخليط. إنها تقايض ألمها ضد العلامة. إيحاءات تذكارية أو تقاربات مع الأشكال الهيروغليفية أو مع علاقات الحضارة الأزتيكية.
عندما أرسم، الذاكرة حاضرة في كل لحظة. إنها تحيرني. هل علي أن أنسج علاقة مع الصور والعلامات والخطوط والذكريات التي تهيمن علي في هذه اللحظات؟ يقود الشكل المعزز بلون أو بألوان متعددة ريشتي. تبرز في ذاكرتي صور فضاء وحدث لا يبدو ظاهريا أن له ارتباطا بالعمل. مع ذلك، الانطباع المحسوس قوي ويتملكني. أسعى إلى فك أو فهم هذا السر. لا أستطيع أبدا. هل هنا سر التعبير الفني الذي لا يخضع لأي تفسير عقلاني؟ بعد الغد، أباشر مبادرة للفهم بمعاودة اللوحة بعد أنشطة مختلفة وقراءات لا علاقة لها بالتصوير الصباغي. باللمسات الأولى للريشة، تجتاحني الصور وتواصل رغبة اكتشاف دافع الانبثاق ثانية لهذه الذكرى الثابتة والعنيدة التي ترفض مغادرة فضائي الواعي. يمكن إعطاء مثل باللوحة التي أنجزها حاليا. إنها تتابع هيآت خطية على السطح الكامل للقماشة (90 سم/70سم). عدد الهيآت ذات الشكل الآدمي في معظمها 85 (بعدها 15 سم/5سم تقريبا). تتداعى صور مدينة فكيك التي أقمت بها بمناسبة مهرجان على نحو تناوبي. أعيد مباشرة صحيفة الورقة التي رسمت عليها التخطيط الأولي. أحتسب 47 هيأة، يمكن أن يكون تفصيلا ما دام بعد القماش لا يشبه بعد الورقة”.
“التنوع الثقافي” و”الثراء اللامادي”
في معرضه الفردي بفيلا الفنون بالدار البيضاء عام 2012، كتب المنظمون: “ليس من المصادفة في شيء إذا كانت من بين المواضيع الأساسية التي تميز حركية الفكر البصري تلك المتعلقة بـ “التنوع الثقافي” و”الثراء اللامادي”. استضافة فنان من طينة عيسى إيكن تبرز تماما هذه الازدواجية الموضوعاتية. فعلا، يتجلى التنوع في نبل الفعل المتحكم فيه والمشكل على نحو مذهل من قبل الشاعر والمصور الذي يحاور كنحات الكلمات في أبيات محملة بالوجدان والحس المرهف على غرار الأشياء الجمالية. بالنسبة للثراء اللامادي، رغم كونه يكمن أساسا في سائر إبداعات الروح، فهو يقيم خصوصا في ثنايا الأعمال المنبجسة من يدي الفنان. تدعو الإبداعات المثبتة على القماش إلى الحوار أكثر من العرض البصري! باحتضاننا لعيسى إيكن، نحتفي بالموهبة المغربية ونؤكد، عند الاقتضاء، مفخرة هوية معيشة كعنصر مكون للتنوع”.
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن