الاجتماع التشاوري الجهوي الموسع حول الجهوية المتقدمة

في إطار التحضير للنسخة الثانية من المناظرة الوطنية حول الجهوية المتقدمة التي ستحتضنها مدينة طنجة يومي 20 و 21 دجنبر الجاري، عقد يوم الثلاثاء 10 دجنبر 2024 اجتماع تشاوري جهوي موسع بمدينة أكادير.

وبالمناسبة، ومساهمة في النقاش، بهدف بلورة توصيات وخلاصات اللقاء التشاوري، بادر الأستاذ عبد اللطيف أعمو، باسم مجموعة التقدم والاشتراكية بمجلس الجهة، إلى تقديم ورقة في الموضوع، نورد أسفله نصها الكامل، تعميما للفائدة:

مــدخــل

نحن على بعد سنة من مرور عقد من الزمن من الممارسة الفعلية للجهوية المتقدمة. ويحق لنا الوقوف، بعد ما بلغته هذه التجربة من نضج، عند أهم التحديات والإكراهات التي تعيق تنفيذها السليم والحكيم.

كما يعتبر هذا اللقاء الجهوي التشاوري، المنظم تحضيرا للمناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة المزمع عقدها في مدينة طنجة في الفترة الممتدة بين 20 و21 دجنبر 2024، تحت شعار “الجهوية المتقدمة بين تحديات اليوم والغد”،فرصة لمناقشة القضايا المتعلقة بالجهوية المتقدمة وكيفية التفاعل مع التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجه الجهوية في المغرب بين مختلف الفاعلين المحليين والإقليميين بجهتنا.

وهي كذلك مناسبة لاستعراض التجارب المحلية، وتحليل التحديات المرتبطة بتطبيق الجهوية المتقدمة على أرض الواقع، وتقديم مقترحات وحلول من شأنها تعزيز فعالية هذا النموذج التنموي على مستوى جهة سوس ماسة.

وقد اقتٌرحت للنقاش خلال هذا اللقاء التشاوري العديد من المحاور المرتبطة بالجهوية المتقدمة:

1 –        النهوض بجاذبية المجالات الترابية

2-         الاستثمار المنتج، رافعة أساسية لتقوية التنافسية الاقتصادية للجهة

3-         تحديات تمويل البرامج الاستثمارية للجهات

4 –        مواجهة الإجهاد المائي مدخل أساسي للتنمية الترابية المستدامة

5 –        تطوير منظومة النقل والتنقل لتحقيق التنمية الجهوية المندمجة

6 –        التحول الرقمي بالجماعات الترابية من أجل إدارة فعالة وخلاقة

وقد سبق لنا بمناسبة انعقاد الدورة العادية لشهر أكتوبر 2024 لمجلس جهة سوس ماسة أن أشرنا إلى العديد من التحديات المرتبطة بجل هذه المحاور، في  مداخلة باسم مجموعة التقدم والاشتراكية بمجلس الجهة  تحت عنوان: الإخفاقات وضعف الإنجازات ومظاهر الاضطراب ستؤثر على الدينامية الجهوية.

ولا مجال هنا للإطالة في عرضها، لكننا سنركز على بعض التحديات المرتبطة أولا بالاستثمار المنتج وبجاذبية المجالات الترابية في شقها المتعلق بالصناعة والتصدير، وتمويل البرامج الاستثمارية للجهات ثم دور التكنولوجيا الحديثة والابتكار في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بجانب مجال البيئة والانتقال الطاقي في علاقته بالتنمية الجهوية. وكلها جوانب تلتقي حتما مع الجانب الاجتماعي.

– التحدي الأول: النهوض بجاذبية المجالات الترابية

إن ضرورة العمل، في أفق النهوض بالمجالات الترابية، وإرساء أسس تخطيط ترابي متجدد واستشرافي مرتكز على قواعد ترابية للتحكم في الامتدادات الحضارية والتحكم في العقار والحركية والتنقل وتطوير فضاءات للعيش الكريم، أدخلت إلى قاموسنا مفاهيم جديدة، مثل: جاذبية المجالات الترابية والنجابة الترابية والذكاء الترابي والاستشراف الترابي… إلخ،

وعلينا أن نتساءل حول الحلقة المفقودة في منظومة الحكامة الترابية في النموذج التنموي الجديد”.

1 – الذكاء “بشري” أولا، قبل أن يكون “ترابيا”

إن الانكباب على الورش الإصلاحي الكبير وتفعيل النظام الترابي الجديد وتوجهات النموذج التنموي الجديد تضع التنمية البشرية في صلب اهتماماتها.

ويأتي على رأس الأولويات، التي ترهن عناصر الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية إلى مستوى لائق، والقضاء على التفاوتات التي تحول دون تمتع المواطنين المغاربة بحقوقهم الأساسية، كاملة ومكتملة.

وعلى رأس هذه الحقوق : الحق في التعليم والصحة والتشغيل … فلم يعد خافيا على أحد أن مقياس تقدم الأمم هو فيما تقدمه وتنتجه لشعبها أولا، وأن اعتماد الدول في نهضتها يقوم على ما تملكه من موارد بشرية مؤهلة ومسؤولة، وتوجيه جل طاقاتها ومواردها في خدمة البشر والاعتناء بالرأسمال البشري: تعليما وتكوينا وتطبيبا وتشغيلا…

ويحق لنا بمناسبة هذه الوقفة، أن نطرح أكثر من سؤال : 

“كيف يمكن التوفيق بين الجاذبية والاستدامة والتنمية البشرية؟”،

هنا يكمن الرهان الحقيقي للتنمية الجهوية المستدامة. فأهمية الجهوية المتقدمة تكمن في كونها تضع الجميع في صلب العمل الترابي، مع ضرورة الوعي بالمقاربة الاجتماعية بجانب المقاربة الترابية، التي لها أهميتها على جميع المستويات.

وأن السعي إلى تقليل الفجوة الاجتماعية، وتحقيق توزيع عادل للموارد، وتوفير فرص العمل للجميع، خصوصاً في المناطق النائية، وتطوير البنى التحتية لضمان خدمات صحية وتعليمية متساوية وفي مستوى جيد هو رهان جهوي آني ومستقبلي، لا محيد عنه. هذا، بجانب التقدم في مجال حماية البيئة الطبيعية التي تعتمد عليها قطاعات رئيسية مثل الزراعة والسياحة البيئية، حيث تُعتبر الموارد الطبيعية عاملاً أساسياً لديمومة هذه القطاعات.

– التحدي الثاني: الصادرات الصناعية، جهة سوس ماسة في مراتب غير مشرفة

1 – التفاوتات الجهوية عائق أمام السيادة الصناعية الوطنية

على هامش انعقاد النسخة الثانية لليوم الوطني للصناعة المنعقد في شهر أكتوبر 2024، أثيرت إشكالية التفاوتات الجهوية في توزيع الجهد التصنيعي الوطني.

حيث تتمركز الصناعات الوطنية بقوة في محور طنجة – الجديدة الذي يستحوذ لوحده على 68 % من الصناعات الوطنية، في حين تتشتت وتتفرق 32 % من القوة الصناعية الوطنية على باقي الجهات.

وهذا اللآتكافئ في التوزيع الترابي للجهد التصنيعي ينعكس كذلك على نسبة خلق فرص الشغل وعلى القيمة المضافة المحدثة بالجهات، حيث تصل القيمة المضافة إلى 330 ألف درهم لكل منصب شغل في محور طنجة – الجديدة، مقابل 160 ألف درهم فقط في باقي الجهات.

إن إعادة التوازن للتوزيع الجهوي للصناعةالوطنية في المغرب رهان جهوي بامتياز، يقتضي استغلال الطفرة الديمغرافية المتمثلة في انكماش التشغيل في القطاع الفلاحي، مما يفرض على القطاع الصناعي جهدا إضافيا لامتصاص هذا الفائض.

2 – جهود تصنيعية جد محتشمة

تشير المعطيات الرسمية الأخيرة لكتابة الدولة للتجارة الخارجية إلى أن الصادرات الصناعية لجهة سوس ماسة، التي تبلغ 4,7 مليار درهم، والتي تهيمن عليها الصناعات الغذائية الزراعية لا تمثل سوى 1,3% من الصادرات الصناعية على المستوى الوطني. مما يجعل جهتنا تحتل المرتبة الثامنة وطنيا بالنسبة للصادرات الصناعية.

مما يدل على أن الرهان والتحدي الجهوي التصنيعي بعيد المنال، ولم يتحقق بعد، رغم الجهود المبذولة خلال السنوات العشر الماضية.

ويبقى قطاع الصناعات الغذائية هو القطاع الوحيد الذي تمكن من إخراج رأسه من عنق الزجاجة وتثمين جزء من مؤهلاته وإمكاناته كجزء من النسخة الجهوية لمخطط تسريع التنمية الصناعية (P.A.I)، حيث حصل هذا القطاع على نصيب الأسد من فرص العمل التي تم إحداثها في الجهة (79٪) خلال الفترة ما بين 2015–2022.

لكن على جهة سوس ماسة أن تحاول اليوم التوجه إلى تنويع نشاطها الصناعي، مع ضرورة مراجعة الاعتماد المفرط على المحركات الاقتصادية التقليدية (الفلاحة – السياحة – الصيد البحري)، بإطلاق دينامية صنع القرار العمومي في اتجاه تفعيل التزام صناع القرار العمومي والفاعلين الاقتصاديين المحليين بدعم تنويع النشاط الاقتصادي منذ إطلاق النسخة الجهوية لخطة التسريع الصناعي في يناير 2018.

هذا التوجه نحو تنويع النشاط الصناعي، تمت ترجمته عمليا بالشغف والإقبال على المناطق الصناعية الجديدة التي تم توزيع واستغلال 90٪ من قطعها الأرضية. ووفقا لأرقام المركز الجهوي للاستثمار سوس ماسة، فإن حجم الالتزامات المسجلة سنة 2022 تجاوز 10 مليار درهم مع احتمالات خلق أزيد من 10 آلاف منصب شغل، وارتفاع نسبة القطاع الصناعي، الذي يستحوذ على 51% من مجموع البقع الموزعة في هذه المجالات الجديدة. إلا أن النتائج تظل لحد الساعة محتشمة وضعيفة (ضعف المواكبة والمراقبة والتقييم وتصحيح المسار … إلخ).

وبطبيعة الحال، فإن النشاط في هذه المجالات الجديدة لم ينطلق بعد فعليا. فالعديد من المستثمرين ما زالوا في مرحلة التهيئة. وقد شرع 80% من المستثمرين في بناء مصانعهم، لكن المنعشين الاقتصاديين يتوقعون المزيد من الاستجابة والدعم من البنوك ومن الجمعيات المهنية القطاعية للمضي قدما.

وجدير بالذكر أن جهة سوس ماسة تحتل مركزا متوسطا وثابتا، باعتبارها الجهة السادسة الخالقة والمنتجة للثروة على المستوى الوطني، وتساهم بانتظام بنسبة 6,6% في الناتج  الداخلي الخام، وفقا لأرقام المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2022.

ولا تزال الآلة الاقتصادية والصناعية الجهوية تواجه تحديا مزدوجا يتمثل في غياب المرونة، ثم، خصوصا، في عدم القدرة في تحويل نموذجها الاقتصادي الحالي، من أجل الترقي في تصنيف المساهمين الوطنيين الرئيسيين في الثروة.

3 – فرص غير مستغلة اليوم قد تصبح فرصا ضائعة غدا

ويبقى من الأهمية بمكان، في ظل هذه الظروف، أن تبادر الجهة إلى تعزيز القطاع الصناعي، ولا سيما من خلال الرفع من حصة الجهة من القيمة المضافة الصناعية ومن الصادرات الصناعية. مما سيسمح بتحسين القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي، ولكن سيساهم أيضا في الحفاظ على معدل نمو منتظم.

كما يبقى التحدي المستقبلي الرئيسي رهينا بــالتموضع والتموقع في سوق جنوب الصحراء الواعد. فخريطة المملكة تغيرت، وأكادير أضحت هي الوسط الحقيقي للبلاد .

وتقدر الفرص غير المستغلة في مجال الصادرات بقرابة 12 مليار درهم (من إجمالي 120 مليار درهم للأسواق الأخرى) والتي وردت في خارطة طريق جديدة للتجارة الخارجية.

كما يعد تطوير اتصالات الجهة وبنيتها التحتية اللوجستية ضروريا أيضا للنجاح في التنويع الاقتصادي لجهة سوس ماسة. كما يجب تطوير الفرص الاستثمارية التي توفرها هذه المنصات الصناعية الجهوية، وخصوصا في قطاعات الطاقة المتجددة والابتكار والصناعات الموجهة للسوق المحلية، والتجارة والخدمات اللوجستية الموجهة للخارج l’offshoring بحكم أن مؤهلات الجهة الهائلة كفيلة بتحويلها إلى قطب اقتصادي حقيقي ذي تنافسية وجاذبية، قادر على رفع رهان الجهوية المتقدمة وتدعيم إشعاعها الوطني والقاري، بشكل سيساهم في جعل أكادير مركزا إفريقيا.

وفي هذا السياق، فإن إنجاز مشروع الميناء الجاف بالمنطقة الصناعية بجماعة الدراركة بأكادير، هو مشروع ينتظره الجميع بفارغ الصبر، إذ سيمكن هذا المشروع من تسهيل الخدمات المينائية وتقريب الخدمات التصديرية من مختلف المؤسسات الإنتاجية المتواجدة بالمناطق الصناعية الثلاث الموجودة بأكادير، بالإضافة إلى الشركات الفلاحية الموجودة بإقليمي شتوكة – آيت باها وتارودانت، وكذا وحدات الصيد البحري بالمناطق الجنوبية.

ويعد تطوير البنية التحتية ضمانة لجاذبية أكبر. ففي الواقع، لا يمكن لمنطقة ما أن تدعي أنها تجتذب استثمارات جديدة وتعزز الاستثمارات القائمة دون تنفيذ مشاريع هيكلية تضمن للجهة انفتاحا أكبر وأوسع، ولكن أيضًا بدون مناطق مخصصة لكل نشاط.

-التحدي الثالث: تمويل البرامج الاستثمارية للجهات

نلاحظ من خلال الورقة التأطيرية للمناظرة الوطنية أنها استبعدت، أو على الأقل، لم تشر إلى الاختصاصات المنقولة التي تعتبر إحدى الوسائل التي تساهم بشكل قوي في تمويل الاستثمارات الجهوية. وإلى حد الآن، لم يتم الحديث عن كيفية تفعيلها، خصوصا، بعد الحديث عن إمكانية توسيع الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص لتشمل الجماعات الترابية، وبالخصوص، مجال المشاريع الكبرى ذات الطابع الهيكلي، وتفعيل إمكانيات الجهات في مجال التعاون الدولي اللآممركز بين الجماعات الترابية وقريناتها الإقليمية والدولية.

وبقي الحديث يدور دائما حول التمويل المرتبط بالاختصاصات الذاتية، والذي يكون في الغالب ضعيفا، فيما الاختصاصات المشتركة التي ما زالت تتعثر، في الوقت الذي يمكن فيه دعم الأدمغة الجماعية واستنفار الذكاء الجماعي، ولم لا التفكير في خلق بورصات جهوية لتوسيع مجال خلق صناديق جهوية للاستثمار.

إن الممارسة تفيد بأن هناك إمكانية واسعة ومتوفرة لرفع تحدي تمويل البرامج الاستثمارية الجهوية، إلا أنها لم تفعٌل. مما أدى إلى تقلص روح المقاولة وثقافة الاستثمار، لفائدة المقاولة الريعية التجارية.

التحدي الرابع: تطوير منظومة النقل والتنقل بهدف تحقيق التنمية الجهوية المندمجة

على جهتنا أن ترفع الرهان المحوري لتعزيز البنيات التحتية الأساسية وتقوية موقعها اللوجيستسكي، بجانب تثمين كل ما تكتنزه وما تتوفر عليه الجهة من طاقات وإمكانات. فــإلى جانب المشروع البنيوي الضخم لتحديث مدينة أكادير، تعد التنمية الاقتصادية لأكادير ومحيطها، خاصة من خلال السياحة والصناعة، رهانا تنمويا أساسيا،

واليوم، لدى جميع مكونات الجهة والمدينة سبب وجيه لإظهار المزيد من الدعم والتصميم على استكمال هذا المشروع الملكي في الوقت المحدد. ويجب أن تكون مدينة أكادير، التي من المفترض أن تستضيف الأحداث الدولية الكبرى، مثل كأس الأمم الأفريقية وكأس العالم، جاهزة لهذه المواعيد الحاسمة والمحفزة.

وبخصوص تطوير منظومة النقل والتنقل بجهة سوس ماسة، تكفي الإشارة إلى مؤشر دال، على ذكر موعد كأس العالم، حيث أفادت التقارير الأخيرة الخاصة بتقييم المدن المغربية المستضيفة لكأس العالم 2030 من طرف لجنة الفيفا بأن تنقيط أكادير هو أضعف وأسوء تنقيط بالنسبة لمؤشر التنقل والمواصلات (2.00) وراء فاس وطنجة، وبعيدا عن الدار البيضاء ومراكش.

مما يبرز الحاجة لتحسين بنية النقل في العاصمة الجهوية. فما بالك بالمناطق القروية والجبلية بجهتنا.

التحدي الخامس:  الرهان البيئي الجهوي والانتقال الطاقي

يعتبر ورش الجهوية المتقدمة في جوانبه المرتبطة بالرهانات البيئية وبالانتقال الطاقي من أهم دعائم سياسة ترابية تتوخى التناسق والتكامل بين مختلف العناصر المؤثرة في السياسات الترابية في أفق إرساء تنمية مجالية متوازنة، تحد من التفاوتات وتساهم في تحسين ظروف عيش السكان.

تعتبر التهيئة المستدامة عنصرا أساسيا في خدمة الجاذبية الترابية، وهي مرتبطة بالخصوص بالحكامة الترابية في النموذج التنموي الجديد، وبجاذبية المجالات الترابية، وآثار التهيئة الترابية على الاستثمار، وكذا القيمة الترابية، الرمزية منها والمادية.

1) مواجهة الإجهاد المائي

تحتل استدامة الموارد المائية مركزا محوريا في هذه المعادلة التنموية، حيث يتأكد يوما عن يوم بأن المغرب لا يمكنه أن يحقق نسبة نمو تصل إلى 5 أو 6% بدون سيادة مائية حقيقية ومستدامة. مما يقتضي وضع آليات حكامة لترشيد استعمال الماء للشرب وللسقي، ووضع الماء في قلب الرهان التنموي والمناخي، باعتباره تحديا هيكليا يقتضي المواجهة الحازمة والتصدي الجدي لتحقيق استدامة الموارد.

ويبدو أن التحديات المائية المستقبلية، لا يمكن ربطها فقط بتوالي سنوات الجفاف، بل هي مرتبطة أساسا بعدم نجاعة سياستنا الفلاحية التي تستهلك أزيد من 80% من مواردنا المائية، مع استمرار الهدر المائي وهيمنة  السقي التقليدي، وأهمية المساحات الزراعية البورية التي تمثل 87% من مجموع المساحات المزروعة.

وهذا ما سبق أن أشرنا إليه في مداخلتنا بمناسبة انعقاد دورة أكتوبر 2024، منبهين إلى مجموعة من الاختلالات ومن ضمنها: التأخير الكبير في مرافقة السياسة الفلاحية  بسياسة  تنموية قروية تمكن من تخفيف آثار الهجرة القروية التي تجد المدن صعوبة في احتوائها، بالإضافة إلى الضغط الشديد على الموارد المحدودة للاستخدام الزراعي نتيجة لضعف تنويع الاقتصاد القروي.

وقد أكد البنك الدولي،في أحدث تقاريره حول علاقة التغيرات المناخية بالنمو الاقتصادي ، بأن تحولات المناخ قد تؤدي بحلول 2050 إلى نــزوح قـــرابة مــليونـي (2.000.000 مواطن مغربي)، أي ما يعادل 5.4 % من إجمالي السكان، إلى المناطق الحضرية. وهو ما سيشكل ارتفاعا قويا محتملا لظاهرة الهجرة القروية. ومن حقنا أن نتساءل: ماذا أعددنا لمواجهة هذه الإشكاليات الكبرى، وما هي تداعيات ذلك على جهتنا تحديدا؟

2 -النجاعة الطاقية

إن المغرب، ومعه جهتنا، يشهد تحولات عديدة، لا سيما على مستوى النمو الديمغرافي والتمدن الذي يشهد دينامية حضارية تكرس الفوارق الترابية بين المجالين الحضري والقروي. وأضحت المدن أكثر فأكثر قاطرة للتنمية والثروة ومستقرا ومجالا لعيش أغلبية السكان المغاربة، مما سيمكن من الإسهام في خلق فرص التنمية الاقتصادية والبشرية والرقي الاجتماعي.  والتحدي الأكبر يكمن، على الخصوص، في بلورة سياسة ترابية متجددة ومتجانسة تساهم في مواجهة الاختلالات الناتجة عن التفاوتات وتأمين التنمية الترابية المستدامة وضمان التنافسية والعدالة المجالية.

ويشكل الانتقال الطاقي جزءاً محورياً من الرؤية الاستراتيجية الوطنية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

ومن المهام الجهوية الرئيسية في هذا المجال: تطوير البنية التحتية للطاقات المتجددة بجانب التخطيط البيئي والاستراتيجي، إضافة إلى البحث والتطوير والابتكار وتعزيز مكانة الجامعة ومراكز البحث جهويا، هذا بجانب تنظيم وتأطير حملات التوعية البيئية و تعزيز الشراكات مع جهات دولية تجعلنا نستفيد من الدعم المالي والتقني لتنفيذ المشاريع الطاقية الكبرى.

التحدي السادس:  دور التكنولوجيا الحديثة والابتكار في تحقيق أهداف التنمية المستدامة

يلعب مجال التكنولوجيا والابتكار دورا رئيسيا فـي تحقيـق أهداف التنميـة المستدامة، لاسيما تلك التـي تتعلق بتحقيق رفاهية الإنسان، مثل الصحة والمياه النظيفة والصرف الصحي ومواجهة التغيرات المناخية والطاقة النظيفة والعمل اللائـق ً والإنتاج المسؤول، من بين أمـور عديدة.

كما تمكن التكنولوجيا الحديثة مــن تسهيل الولوج إلى المعرفة والقدرة على إنتــاجها ونشــرها واســتخدامها، فهي كذلك تنطــوي علــى القدرة على توسـيع الأدلـة المتاحـة لتقييـم التحديـات المرتبطـة بـكل هـدف مـن أهـداف التنميـة المسـتدامة، وتحسين المؤشرات ومراقبة تطورها.

وقد كثر الحديث اليوم عن ” المدن الذكية المستدامة “بسبب الطفرة النوعية التي أوصلت التكنولوجيا في عصرنا الحالي، على الصعيد الدولي، إلى مرحلة من النضج، الذي تبدو مؤشراته على الصعيد الوطني بالخصوص إيجابية، حيث يمكن الاستدلال بعدد المشاركين المنخرطين في شبكة الانترنيت، والذي وصل إلى نسبة 93 % من الساكنة، حسب تقرير الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات ، هذا يدل على وجود شبكة اتصالات قوية ومنتشرة.

لكن هذه الأرقام المطمئنة، لا يجب أن تنسينا الهوة والفجوة الرقمية الحاصلة داخل الجهة بين المجالات الحضرية المحظوظة بشكل عام، والمجالات القروية والجبلية المحرومة من فرص الولوج للتكنولوجيا الحديثة.

وقد وضع مؤشر التحول الرقمي العالمي لسنة 2024 المغرب في المركز الأول مغاربيا والـ57 عالميا من أصل 77 دولة شملتها الدراسة، وضمن خانة “الدول المبتدئة”؛ وذلك بعد حصوله على 34,3 نقطة.

وقد اعتمد هذا المؤشر على أكثر من 40 مؤشرا فرعيا لوضع التصنيف النهائي استنادا إلى أربعة مستويات من التحليل: الاتصال الشامل، الأساس الرقمي، الطاقة الخضراء، والسياسات والنظم البيئية؛ وقام بتغطية 77 دولة تمثل ما مجموعه 93 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتضم 80 %  من سكان العالم.

كما وضع مؤشر الحكومة الإلكترونية (EDGI) لسنة 2024، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، الذي يقيس كفاءة الحكومات الإلكترونية للدول الأعضاء في المنظمة، المغرب في المركز 90 من أصل 193 دولة يقيسها المؤشر.وحسب ذات المؤشر، فقد حل المغرب في الرتبة الرابعة إفريقيا، بعد كل من جنوب إفريقيا، التي حلت أولا قاريا والمركز الـ 40 دوليا، مبتعدة ب 50 مركزا عن المغرب، متبوعة بجمهورية موريشيوس (المركز 76)، ثم بـتونس ثالثا (المركز 87).

ويشير تقرير مؤشر التحول الرقمي العالمي إلى أن الاستثمار العالمي في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بلغ في سنة 2023 قرابة خمسة تريليونات دولار أمريكي، وأن جميع دول العالم تتسابق حاليا نحو التحول الرقمي، إذ إن استثمارا بقيمة دولار أمريكي واحد يؤدي إلى عائد بأكثر من 8 دولارات في الاقتصاد الرقمي لأي بلد.

وعن أهمية التحول الرقمي على المستوى الترابي تشير التقارير الدولية إلى أن صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تساهم في ابتكار أدوات جديدة يمكن استخدامها لدفع عجلة التنمية المستدامة، مثل إمكانية استخدام التقنيات الرقمية للتنبؤ بتغير المناخ، والمساعدة على الاستعداد بشكل أفضل للكوارث الطبيعية، والتخفيف من المخاطر. وكلها مواضيع تهم جهتنا في المقام الأول، إذا ما وضعنا في الحسبان آثار زلزال الحوز (8 شتنبر 2023) وفيضانات الجنوب الشرقي (7 شتنبر 2024) .

وطالب تقرير مؤشر التحول الرقمي العالمي الحكومات والفاعلين الترابيين بـ ”إعطاء الأولوية للبنية الأساسية الرقمية في مجال النقل والكهرباء وتدبير الموارد المائية”، مع زيادة الاستثمار ودعم السياسات في هذا المجال، وضرورة التسريع في رقمنة الصناعة.

وباعتبار أن عملية التحول الرقمي وطنيا وجهويا هي عملية تدريجية تتضمن اختيار مسارات التحول الصحيحة، وبناء الأسس الذكية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات باستخدام نهج متعدد المستويات، فإن الدعم العمومي ضروري وأساسي في هذه العملية.

وبالرغم من تطور المنظومة القانونية والتشريعية الوطنية نسبيا لتتماشى مع الركب وتواكب وتؤطر التحول الرقمي في مجموعة من القطاعات، كمؤشر إيجابي عن أهمية هذا المجال، إلا أن جهتنا تظل متأخرة عن الركب وطنيا. حيث أطلقت مؤخرا مجموعة من المبادرات على صعيد الجماعات الترابية، مثل بن جرير وشفشاون وبركان والدار البيضاء والرباط … فيما تبدو أكادير متأخرة عن الركب. وحسب المؤشر الدولي للمدن الذكية الذي نشر من طرف المعهد الدولي، فالعاصمة الإدارية الرباط تتصدرالمدن الافريقية للمدن الذكية، 

واعتبارا بأن التحول الرقمي هو أداة للرفع من جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، ويعد ركيزة أساسية لتطوير فعالية الجماعات الترابية، فلا يفوتنا هنا أن نؤكد على ضرورة وضع مخطط توجيهي جهوي في مجال التحول الرقمي، مع الدعوة إلى الاجتهاد الكبير من أجل تجويد الخدمات المقدمة للمواطنين وتحسين الخدمات بشكل عام على المستوى الجهوي،  حيث تبقى الرقمنة إحدى الوسائل الناجعة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة.

خــاتمــة

إن مشاركة جميع القطاعات وفق مقاربة أفقية والتقائية سيكون له أثر في المستقبل في أفق إنعاش جاذبية الجهات، وينبغي التركيز، بالخصوص، على العناصر المتعلقة بالتخطيط المستدام، وتحفيز الاستثمار والحفاظ على الثقافة المحلية.

ولهذه اللقاءات التشاورية حول الجهوية المتقدمة أهمية بالغة لارتباطها الوثيق بالتنمية بشكل عام وبالتنمية المستدامة بشكل خاص، والمناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة في نسختها الثانيةستشكل مناسبة للوقوف على المجهودات المبذولة لرفع التحديات المتمثلة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المنشودة.

ونتمنى بالمناسبة لأشغال اللقاء الجهوي التشاوري هذا كامل التوفيق والنجاح، وأن يكون مناسبة للخروج بتوصيات هادفة ومفيدة لمسار الجهوية المتقدمة ببلادنا.

مجموعة التقدم والاشتراكية بمجلس الجهة

(عبد اللطيف أعمو – محمد لعوينة – العربي كانسي)

Top