لا ريب أن الخطاب السردي القصصي القصير جدا اليوم، أصبح يستقطب جل المبدعين، سواء الشعراء منهم، أو الروائيين، أو كتاب القصة القصيرة، وغيرهم. وذلك لما لهذا الجنس الإبداعي من صفات تميزه إن على مستوى البناء التركيبي، أو على المستوى الفني والجمالي والسياقي.. وكذا لما يتمتع به حجمه القصير جدا، المتماشي والمنسجم مع سياق الحداثة، وما تطرحه من مستجدات واقعية واجتماعية مكثفة تحتاج من المبدع اليوم أن يعبر عنها بسرعة ودقة في خطاب سردي، مكثّف لغويا، مشحون دلاليا، ومختزل تركيبيا. مدهش وواخز معا، في نهاياته السّردية الحكائية، مثير لاستجابات القارئ/المتلقي، لميوله وحاجياته ورغباته سواء النفسية أو الوجدانية، والفكرية أو الاجتماعية، والحضارية وغيرها، قصد محاورته ومقارعته والنبش معه حول القضايا المطروحة عليه.
وفي هذا السياق تأتي المجموعة القصصية القصيرة جدا الموسومة بـ (أضغاث يقظان)(1) وليمة حروف شهية للقارئ اليقظان، لتلامس فكره وتقارب همومه وانشغالاته الفكرية والاجتماعية والنفسية، بأسلوب أدبي رفيع المستوى، شكّل نسيجا حكائيا بديعا ومنسجما، إن على مستوى التوليف اللفظي، أو على مستوى العمق الدلالي.
سَبكَ القاص صبير الإدريسي متون مجموعته من خيوط النسيج الاجتماعي والنفسي والأخلاقي والسوسيو ثقافي.. فيما يربو عن ستّين نصا محبوكة اللغة، مرصوفة المعاني والإيحاءات، تدعو بأسلوبها الفني الشيّق المتلقي إلى الالتذاذ بمتعة القراءة حتى الثمالة.
وانسجاما مع أيقونة عنوان المجموعة / العتبة (أضغاث يقظان) يأتي هذا الانفتاح على بنية المتن السردي الحكائي، لذلك نجد القاص زاوج في بناء نصوصه فنيا وتركيبيا بين بنيتين أساسيتين: بنية منفتحة ركزت على البعد الدلالي العميق للنص بأبعاده النفسية والجمالية، واحتمالاته التأويلية الممكنة على آفاق المعنى المخبوء خلف ستارة المعنى، وبنية سطحية مباشِرة اعتمدت اللغة في بنيتها التركيبية المتناسقة، وأسلوبها المثير لشغف القراءة، قنطرة واقية لولوج المتلقي دهاليز متون المجموعة.
تشكل هذه الأيقونة المزدوجة (أضغاث يقظان) على مستوى المتن تحولا صادما، لوعي المتلقي عند تفاعله مع اللغة وتفكيك بنياتها التركيبية والدلالية، حيث يأخذ الفعل التأويلي للنصوص أبعادا جديدة لمقاربة الأيقونة / العتبة في علاقتها بمضامين النص القصصي.
خصوصا إذا علمنا أن أيقونة هذه المجموعة (أضغاث يقظان) تميزت لغويا بطابعها النفسي والاجتماعي لما تحمله من دلالات توحي (بالتأمُّلات الخياليّة والاسترسال في الرُؤى أثناء اليقظة، وهذا يعدّ وسيلة نفسيّة لتحقيق الأمانيّ والرَّغبات غير المُشْبَعة وكأنَّها قد تحقَّقت)(2).
فبعد تخطّي العتبة بوابة المجموعة والدخول إلى عوالم النصوص المبثوثة ضمنها، تصادفنا خمس قصص قصيرة جدا وهي: (أمنية، حلم، صرخة، توبة، تمني…) كاشفة النقاب من خلال عتباتها / عناوينها عن الخيط الناظم، أو الشعاع المتصل بأيقونة العنوان أضغاث يقظان، إذ تتأرجح معاني الحلم واليقظة بين بنيتين أساسيتين نفسية واجتماعية وبالتالي انعكاساتهما على أبطال القصص ضمن المجموعة. كما جاء في القصة القصيرة جدا (حلم، وأمنية، وتوبة…)، وكأن القاص يمدّ جسور نصوصه السّردية مع عنوان المجموعة أي البوابة /أيقونة المجموعة، ليساهم في تقريب متلقيه من رسالة خطابه القصصي، وبالتالي استكناه المضمرات المطمورة الكائنة / الحاضرة، على المستوى السطحي، (النص الحاضر) أو الممكنة / الغائبة على المستوى البنيوي العميق،(النص الغائب).
إن نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا يثير انتباه المتلقي إلى الحالات النفسية والاجتماعية التي يعيشها البطل، ومن خلاله الإنسان عموما، بين حالتين في حياته، هما الحلم واليقظة، لما لهما من صلة بحوادث الماضي والحاضر، وما لهما من صلة بما يصادف الإنسان في حياته ومجتمعه من مشاكل، وما يردده العقل الباطني من خواطر ووساوس وأفكار أثناء اليقظة باعتبارها(أضغاث)متداخلة ومختلطة لتتحول هذه وتلك جميعها إلى (إبداع) يسرده الكاتب، فيترجمه إلى حروف وكلمات وجمل على البياض.
وإذا علمنا أن كثيرا من كتاب القصة يحوّلون ما يتصورونه، أو يشاهدونه من أحداث تقع أمام أعينهم، من الواقع إلى أفكار وتصورات، وأخيلة ممكنة في أذهانهم تمتزج بما هو ذاتي ونفسي، اجتماعي وتخييلي، فتخلق من هذا وذاك أمشاجا متلاحمة، لتنسكب كشلال من الكلمات في صورة قصة متكاملة، بأحداثها وشخوصها، بأزمنتها وأمكنتها، بحركاتها وسكناتها، بأفراحها وأتراحها، مكوّنة من هذه الخميرة جسدا قصصيا متناغما يلامس بأبعاده الدلالية تلك الأحداث، مستدعيا متلقيه لاستقبال خطابه السردي للفعل فيه، أو التفاعل معه.
هذا ما لاحظناه من خلال قراءتنا لمجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدا للقاص (صبير الإدريسي). فها هو يقص علينا القصة (توبة) في سردية رائعة مزجت بين الخيال والواقع، بين النفسي والاجتماعي، بين الحلم واليقظة. يقول حكاية عن بطله: “أرهف السمع لإيقاع حذائه الجديد على الإسفلت وهو يتحسس لأول مرة طريقه إلى المسجد، حدّث نفسه بتوبة نصوح ينهي بها حياة الضلال والغواية. أمام رف الأحذية تسمّر مذهولا وهو يتحسس كيس حذائه، وقف حافي القدمين.. يتلفت يمينا وشمالا كأنما يتحسس أي الطريقين أهدى.”(3).
لقد برع القاص هنا في تصوير حالة البطل النفسية من خلال (المكون اللغوي) المتمثل في التعبير الرائع عن الحالة الشعورية للبطل وهو في طريقه إلى المسجد / طريق التوبة من الضلال.. بالأفعال (أرهف… تحسس…حدّث… انشرح…). (والمكون التركيبي) المتمثل في توظيف القاص، تركيبيا للجملة الحالية (…وهو يتحسس…) والتي تكرّرت مرتين في بداية القصة وفي نهايتها، لترجمة الحالة النفسية والشعورية وما يخالجها من انفعالات عاطفية وذاتية تتأرجح بين رغبتين متصارعتين، إقبالا وإدبارا. وهذه الحيرة النفسية الداخلية دلّ عليها في نهاية المشهد القصصي، التفات البطل يمينا وشمالا، متسائلا في نفسه أي الطريقين يتّبع. هذه النهاية التي تجعل المتلقي يتساءل مع بطل القصة عن مآل أفق الانتظار والتوقعات المحتملة.
كما أفرزت لنا هذه القصة وقصص أخرى على شاكلتها، تسير في نفس السياق الدلالي للأيقونة، أشكالا استعارية رمزية يمكن الكشف عنها بالتأويل والتحليل لرفع القناع عنها، متمثلة في حالات نفسية متعددة، ترتبط باللحظة الآنية لبطل القصة (كحالتي السعادة والانتشاء) (وحالتي الغضب والانكسار).
هوامش:
-1 “أضغاث يقظان”مجموعة قصصية قصيرة جدا للقاص المغربي أحمد صبير الإدريسي، قدم لها الناقد الدكتور مسلك ميمون.
-2 بتصرف عن قاموس ومعجم المعاني ولسان العرب: جذر (ضغث).
أضغاث يقظان / صفحة 14 / ط 1 / 2014 مطبعة طوب بريس/ الرباط.
-3 أضغاث يقظان / صفحة 14 / ط 1 / 2014 مطبعة طوب بريس/ الرباط
بقلم: عبد المجيد بَطالي