الحلقة الثالثة
في يناير، حاولوا اغتيال الحرية في التعبير والرسم والتخييل والضحك والابتكار. في الثالث عشر نونبر، هاجموا أسلوبنا في العيش وممارسة الرياضة والروك والموسيقى بصفة عامة، وربط صداقات ومتعة الأكل والشرب معا، هاجموا الشبيبة التي تبتسم للحياة.
الموت هو مهنتهم، عشقهم، هويتهم.
لقد بدلوا غريزة الحياة بالحقد والموت. هم، ماتوا سلفا. لم يعودوا يحسون بأي شيء، لا الخوف ولا العار.
كيف يمكن محاربة هؤلاء وجوه النحس؟ في مواجهة دراكولا، يتم رسم الصليب. في مواجهة هؤلاء السفاحين، لا يمكن مواجهتم سوى بالثقافة والجمال وسحر العواطف أمام عمل فني، الخفة، الرقة، الحركة، الرقص حيث الجسد يتلوى برشاقة على إيقاع الموسيقى، صخب الفرح بالحياة، ضوء الأرواح الكريمة والمتضامنة.
الكتابة، الرسم، ممارسة الموسيقى، الصعود إلى الركح وتخيل روميو أو فيدير، إعادة الحياة لهما بفضل اللعب والإبداع.
إعادة قراءة “موبي ديك” أو “روبانسون كروزوي”، قراءة كافكا أو جيونو، الدخول إلى العالم المركب والمجنون لإيطالو كافينو، متابعة هموم موديانو أو الرحيل مع لوكليزيو بدون التساؤل حول الوجهة التي يحملنا إليها، بسط اليد وحمل أول كتاب يميل نحونا، فتحه وقراءته، قراءته حتى التعب، التعب اللذيذ الذي يغمرنا بالصور والكلمات. ثم لا ننسى “دون كيشوت” الذي يكون دوما ميالا نحو مغامرة ما. في المساء، فتح ألف ليلة وليلة والإصغاء إلى الصوت اللطيف للشابة الجميلة شهرزاد، وضع الرأس على ساقيها والاستسلام لحكاياتها. ثم هناك الشعر، كل الشعر منذ فرجيل، منذ هوميروس. قريبا من كل شعر محمود درويش أو أبو نواس.
في الليل، الاستماع إلى ماريا يودينا وهي تعزف السامفونية الثالثة والعشرين لموزار. التفكير في حياة عازفة البيان هاته، اليهودية التي تحولت إلى الأرطودوكسية، تحمل حريات بما تعزفه، القراءة في خفاء لباسترناك (كان ممنوعا). الاستماع بعد ذلك لماريا غرينبرغ وهي تعزف السوناتا الكاملة لبتهوفن، وخاصة، بمحبة (الثالثة عشر). الإصغاء إلى الصمت الذي يعقب الموسيقى، لحظة هادئة وغامضة. النوم والاستسلام لأرجوحة هذا الصمت.
في اليوم الموالي، السير في الشارع، النظر إلى الخريف وهي يقيم بكل هدوء في باريس، الوقوف أمام المعالم التي لا ننظر إليها بتاتا بما يكفي. الدخول إلى المقهى وشرب القهوة بالقشدة أو عصير البرتقال، قراءة الجريدة الموضوعة على الكونتوار، لا، ليس هذه المرة، لا ينبغي لمسها، الأخبار تغمرنا من كل مكان، إذن في هذا الصباح، ننظر إلى مكان آخر. لكن بعض الصور تطاردك، وهناك، من المستحيل احتواء شعورنا بالكآبة. الدموع تسيل. وجوه شبان سعداء، عشاق، غير مهمومين، ابتسامات وأضواء ساطعة، كل ذلك لم يعد له وجود. هذه الوجوه قد أصابها الذبول اليوم، تجعدت، تحولت إلى غبار. تتصورها مكومة في ثلاجة الموتى. وترى، تسمع صياح الألم.
تفكر من جديد في ماتيس وفي زرقته. تمر مرة أخرى داخل رأس فان جوخ. نستمع إلى مللس دافيس، ثم جون كلوطران، كلهم يذوبون في السماء عن طريق سعار موسيقاهم، أنفاسهم، حياتهم.
تمشي في المدينة. باريس توهم بأن الحياة تستمر. ينبغي أن تستمر وأنت، لا تعرف أين تتخلص من كل هذا الحزن، لأن بعض الأوغاد يجدون متعة في سفك دماء الأبرياء.
بقلم: الطاهر بنجلوم
ترجمة: عبد العالي بركات