تواصلت فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لموسم أصيلة الثقافي بتنظيم المحور الثاني من ندوة ” النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة”، الذي تركز حول آليات التأثير السياسي لهذه النخب.
وأوضح رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام فهد الحارثي، أن النخب تمثل منظومة لتسيير المجتمع، منظومة متعالية في المجمل، لها صلاحية تقرير المستقبل. وقام بمراجعة تجربتين للانقلاب العسكري، إحداهما مصرية كانت ناجحة والأخرى تركية منيت بالفشل وبالتالي تعزيز مشروع الديمقراطية. واستنتج من خلال هاتين المقارنتين، أن نجاح الانقلاب العسكري في مصر ساهم في فضح هلامية النخب العربية، ووجود ليبراليات عربية مزيفة، أما في تركيا حيث مني الانقلاب العسكري بالفشل، يبرز أن الساحة هناك مفتوحة للاصطفاف الإيديولوجي.
ومضى فهد قائلا في نفس الإطار، أن المثقف العربي تخلى عن دوره القيادي في المجتمع، ففي ظل حكومات هشة، يكون المجال رحبا لمشاريع جديدة للتقسيم، وبروز هويات صغرى، وجعل المنطقة مزرعة خصبة لكل المحن والفتن، وبالتالي إفراغها من مقوماتها الحضارية. واستنتج فهد أن الدين يعد مركزا لحركات الصراع في الداخل والخارج على حد سواء، وتهديدا لمستقبل الحضارة البشرية.
وبين مؤسس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير بمصر مراد وهبة، أن النخبة مصطلح لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر وكان ذلك في بريطانيا، وكان يعني تلك الأقلية التي تحكم ما تبقى من أفراد المجتمع، إنها النخبة الحاكمة أو بتعبير آخر: الطبقة السياسية التي تعمل على إحداث التغيير في القرارات السياسية، وهي بذلك تعتبر حسب المتدخل، نقيضا للطبقات الاجتماعية.
وتوقف عند دور النخبة المثقفة مشيرا إلى أنها تنقد ثقافة المجتمع لتغييرها وابتداع غيرها، مع العلم أن التغيير يستلزم وضعا قائما مأزوما ووضعا قادما يزيل الأزمة. واعتبر أن هذا التغيير لا يمكن أن يتم دون فهم الزمن، بما هو مركب من ماضي وحاضر ومستقبل وتحديد ما له الأولية بين هذه العناصر الثلاثة. وفي اعتباره أن الأولوية تكون للمستقبل، بالنظر إلى أنه مشحون بإمكانيات قابلة للتحقق، كما أن المستقبل محايد للإنسان. وأضاف أن التأويل الخاطئ للنص الديني، أفضى بالعالم الإسلامي إلى مفترق الطرق، وهو ما يتجسد بالملموس في نشوء الحركات الإسلامية المتطرفة والمتشددة، من قبيل الوهابية وحركة الإخوان المسلمين وغيرهما. فهذه الحركات حسب تأكيد المتدخل، تعيش في القرن الثالث عشر وليس في القرن الحادي والعشرين، ومن ثم فالإشكاليات القائمة، تتمثل في كيفية القفز من مرحلة زمنية متجاوزة إلى أخرى تستشرف المستقبل، مقترحا فتح حوار، تكون غايته ليس مقارعة الحجة بالحجة، بل البحث عن مشروع مشترك.
وأضاف أن انتهاء دور النخبة راجع إلى أنه ليس لديها رؤية مستقبلية، فهي تركز على نقد السلطة السياسية، في حين أن عليها أن تقوم في الأساس بالنقد الثقافي على اعتبار أنه محكوم بالأصولية الإسلامية ممثلة في الإرهاب، من منطلق أن حق الحياة يأتي في المقدمة. واستنتج المتدخل أن النخبة الثقافية توجد خارج الصراع الديني في العالم الإسلامي، في الوقت الذي يتطلب المشروع الأصولي دراسة ومناقشة من طرف النخب الثقافية.
وارتأى أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجزائر عبد الناصر جابي، الوقوف عند الكيفية التي يتم بها إنتاج المثقف ليكون مصدر قرار وتأثير، ففي اعتباره أن الإشكال يتجسد في كون هذا الإنتاج لا يترجم التحولات التي تعرفها المنطقة العربية، فالوزير على سبيل المثال، غير مؤسساتي، لا يقرر سياسات بقدر ما أنه يكتفي بتطبيقها، وهذا راجع إلى كونه في واقع الأمر مجند من قبل النظام السياسي، إنه مجرد موظف لدى هذا النظام، ومن ثم فهو يشكل في جوهره مركز قرار باهت.
وأكد الباحث المغربي بلال التليدي على أنه منذ ما يربو على ستة عقود، ظل الإصلاح رهينا بالنخب، في مقابل تراجع الجماهير. وعقد مقارنة بين النخب في العالمين العربي والغربي، محددا درجة المغايرة القائمة بينهما، وتتجسد هذه المغايرة على وجه الخصوص في بنية السلطة، وهو ما يفسر كيف أن النخب لدينا عادة ما تشارك في السياسة بمنطق الخسارة على خلاف مثيلتها في العالم الغربي.
هذا الوضع – يضيف المتدخل- ساهم في بروز نخب أخرى غير سياسية، تتجسد في منظمات المجتمع المدني، باعتبار فاعليتها في إحداث التغيير.
وتوقف المتدخل بعد ذلك عند علاقة النخب بالسلطة، حيث أبرز أنها تحكمها ثلاثة خيارات أساسية، هي: خيار الإطاحة بالسلطة من خلال تبرير عدم شرعيتها، أما الخيار الثاني فيتجلى في التوافق التكتيكي معها، ثم الخيار الثالث وهو المتمثل بالخصوص في تفكيك البنية السلطوية.
وبين رئيس تحرير جريدة الحياة غسان شربل، مدى محدودية تأثير النخب العربية في الحياة السياسية، ولخص هذا الوضع في ثلاثة محاور: الإكراهات المتمثلة في الاستبداد والتخلف الاجتماعي، إلى جانب توظيف الدين لممارسة السلطة وقمع الفكر الحر، وإكراه غياب إرادة الفعل لدى النخب في حد ذاتها نظرا لهشاشة الحياة الاجتماعية.
وانتقل المتدخل بعد ذلك للحديث عن المداخل الأساسية من أجل التأثير في الحياة السياسية من طرف النخبة وبالتالي المرور نحو البناء الديمقراطي. وتتجلى هذه المداخل في:
- العمل على بناء توافقات سياسية من خلال عقد اجتماعي جديد.
- بناء دولة القانون والمؤسسات في مواجهة الشخصانية.
- بناء دولة المواطنة.
- مبادرة المجتمع المدني.
- الاشتغال من خلال مؤسسات البحث العلمي والفكر الاستراتيجي.
وتركزت مداخلة الأستاذة الباحثة ثورية السعودي على النخب النسائية الإسلامية بالمغرب، مبينة أنها برزت على وجه التحديد عند الصراع الذي دار حول خطة إدماج المرأة في التنمية، وتشكلت هذه النخب -حسب المتدخلة- من رافدين، أحدهما ممثل في القطاع النسائي لحزب العدالة والتنمية الذي يهدف إلى نموذج حضاري لتحرير المرأة والدفاع عن حقوقها والارتقاء بمستواها الفكري والاجتماعي. ورافد آخر هو المتمثل في القطاع النسائي لحركة العدل والإحسان الذي يقوم نظامه السياسي على قاعدة إسلام ركيزته الشورى والاحتكام للحوار وسلطة الشعب اعتمادا بصفة أساسية على سياسة القرب والمنهج الدعوي.
وخلصت المتدخلة، إلى أن الإسلام في حد ذاته لا يمثل إشكالا بالنسبة للقطاع النسائي، وأن معاناتهن تتجسد بالخصوص في الجهل بالإسلام، وعدم إنتاج خطاب جديد يتجاوز الإشكاليات التقليدية من قبيل الإرث وزواج القاصرات وما إلى ذلك.
كما أشارت المتدخلة في ثنايا حديثها عن روافد النخب السياسية النسائية، إلى بروز تيار مغاير يرفض الحركة النسائية بالأساس من منطلق كونها وافدة أو مستوردة من الغرب.
وأبرزت الأستاذة ثورية السعودي في ختام مداخلتها حاجة مجتمعنا إلى وجود تيار يوافق بين الرافدين المشار إليهما آنفا، تيار يؤمن بمبدأ المساواة.
وتحدث مدير قناة الغد العربي عبد اللطيف المناوي، عن دور النخبة السياسية في شقيها المتشدد والتنويري، وطرق اشتغالهما لتمرير الأفكار في غاية السلاسة والإقناع، حيث لم يقف الأمر عند التعبير عن الإيمان بالقلب، بل كان مسنودا بالفعل.
فكان هناك تحول في مسار النخب، هناك من تعسكر وهناك من تأسلم أو انعزل أو أقصي. وخلص المتدخل إلى أن النخبة لها إنتاج فكري زاخم، ولم يقتصر هذا الإنتاج على الكتاب الورقي المطبوع، بل تم اللجوء إلى استخدام وسائل الاتصال الحديث، وهو ما كان له تأثيره الواضح والجلي.
مع ذلك يلاحظ المتدخل أن هذه الديناميكية كان مآلها الفشل، وفسر هذا الوضع بأن نخبنا لم يكن لها مشروع مدروس، وبالتالي كان من السهل على النظام أن يخترقها. وأتى بمثال على ذلك المصير الذي آل إليه ما يسمى بالربيع العربي، حيث تحول إلى كارثة.
وأشار الأستاذ الباحث حسن مسكين إلى وجود فراغ نخبوي، يتمثل في غياب النخب البديلة، فبعد أن توقف عند خصوصيات النخبة ومتطلباتها، باعتبارها تمتاز بقربها من مراكز القرار وقدرتها على القيادة والتأثير في المجتمع. أوضح أن السبب في المآسي التي تعانيها المنطقة العربية يعود في جزء أساسي منه إلى الإرث السياسي والثقافي الذي خلفه الاستعمار، بموازاة مع ذلك أن النخب الجديدة لم تقدم أي إضافة، وهو نتيجة طبيعية لوضع قائم مأزوم، يتجسد بصفة أساسية في الخلافات العرقية وعدم وجود أولويات وكذا عدم التفرغ لبناء الذات. فالنخب – يضيف المتدخل- تعرضت لعدة مضايقات طيلة مسارها، فهي إما مغيبة أو مقيدة أو منفية، وبالتالي لا يمكن أن نتوخى منها إحداث تغيير فعلي.
وفي هذا الإطار أثار الحديث عن النخب البديلة التي تعلن عن مرجعية إسلامية، معتبرا أنها لا تعدو كونها متعطشة للسلطة باسم الدين، وإن اقتضى منها ذلك التحريض على القتل.
لكن في الوقت الحالي – يوضح المتدخل- رغم الفراغ النخبوي الماثل للعيان، فإننا بدأنا نلمس ظهور نخبة جديدة تعتمد بالأساس على وسائل الاتصال الحديثة وباتت تتصدر القرار وتمتلك الحلول.
وأكد في ختام مداخلته على أن المستقبل يتجسد في تبني النخب الجديدة لوسائل التواصل الاجتماعي، نخب حازمة منتقدة، نخب تحمل رسالة التسامح الديني والحكم السليم.
مبعوث بيان اليوم إلى أصيلة: عبد العالي بركات