يوم 9 شتنبر 1994 توفي الشاعر المغربي أحمد بركات عن سن الرابعة والثلاثين، بمصحة الحكيم بعد أن نقل إليها من جناح السل بمستشفى 20 غشت بالدار البيضاء، في حالة ميؤوس منها.
الهوايات الأولى
قبل أن يعرف في الوسط الأدبي، بصفته شاعرا. كان قد مارس مجموعة من الفنون والرياضات:
حراسة المرمى، والجيدو، والعزف على آلة الطمطام ضمن فرقة غنائية، والتمثيل المسرحي في فرقة حوري الحسين وفي فرق هاوية أخرى..
كانت حراسة المرمى لكرة القدم بالنسبة إليه اختيارا محسوما فيه؛ فلم يسبق أن شوهد-أن شاهدته أنا على الأقل- في الملاعب غير المعشوشبة طبعا، إلا وهو حارس لمرماه، قامته الفارعة إلى حد ما كانت تسعفه في أن يكون حارس مرمى مهيبا، وكان يود أن ينخرط في فريق الوداد البيضاوي ويصبح لاعبا أساسيا فيه، كان عاشقا لهذا الفريق الأحمر وظل كذلك طيلة حياته، وكان يواظب على الذهاب إلى الملعب الشرفي للتفرج على فريقه المفضل الوداد، كان يصحبني معه ويقول لي:
“نمشيو نسقيو العوينات (لنذهب لأجل غسل عيوننا)
عندما نكون مستقلين الحافلة، كان يلفت انتباهي أنه يتحدث بصوت أعلى من الركاب الآخرين؛ مما كان يخلق لي حرجا كبيرا، ولعله اكتسب عادة التحدث بصوت عال في الأماكن العمومية، من ممارسته للمسرح، حيث أن أداءه المسرحي كان يقوم به بصوت مرتفع.
“يا الله نمشيو نسقيو العوينات”
وبالفعل عند الذهاب إلى الملعب، لا بد أن ينتاب المتفرج الإحساس نفسه، حيث أن منظر العشب الأخضر بالخصوص، يكون له أثر إيجابي على البصر.
كان من عادته، عندما يكون حارسا للمرمى، أن يصرخ أثناء التقاط الكرة من فوق رؤوس اللاعبين، مرددا كلمة “ليص” بمعنى: دع الكرة ولا تحاول لمسها، الطريف أنه كان يوجه هذا الأمر لأفراد فريقه ولخصومه كذلك.
كان عندما يضطر إلى توجيه شتيمة أو لوم إلى أحد من إخوته، كان يقول:
“الله يلعن حسك”
كان الإحساس بالنسبة إليه هو المسؤول الأساسي على كل تصرفاتنا الطائشة، وبالتالي فهو الجدير بالشتائم.
انخرط في نادي لرياضة الجيدو، غير أنه لم يجتز الحزام الأبيض، على اعتبار أنه لم يطل المكوث في هذا النادي؛ فقد كان يمقت العنف، ولم يحدث أن ذبح فرخا، كانت جدتي تلومه كثيرا، عندما يرفض ذبح الدجاج، وتوجه له سؤالها الاستنكاري:
“إلى ما ذبحت لنا انت، شكون اللي غادي يذبح؟ “
مارس في سن المراهقة كذلك العزف على آلة الطمطام، ضمن مجموعة غنائية هاوية، تحت تأثير المجموعات الغنائية التي ظهرت في تلك المرحلة، أي مرحلة السبعينات: جيل جيلالة وناس الغيوان ولمشاهب.. وكانت فرقته الغنائية تؤدي بالفعل أغناني تلك المجموعات، وعبر عن رغبته في أن تؤدي فرقة لمشاهب على وجه الخصوص إحدى نصوصه الشعرية.
في فترة متقاربة، دون أن يكون قد غادر مرحلة المراهقة واليفاعة، مارس المسرح، انخرط فيه بكل جوارحه، كان يذهب راجلا من عين الشق إلى دار الشباب بوشنتوف بالرغم من بعد المسافة، ارتبط بالخصوص بفرقة حوري الحسين. شاهدته على خشبة مسرح قاعة الأفراح بشارع الجيش الملكي، وفي مشهد حميمي مع ممثلة، تساءلت كيف يجرؤ على ذلك؟ وفي المسرح البلدي شاهدته في مسرحية “لعجاج” لفرقة الحوري الحسين، وهو يشخص أكثر من دور، إلى غير ذلك من المسرحيات.
وفي تأهبه للذهاب لأجل المشاركة في عمل مسرحي، كان مطالبا بإحضار إحدى أكسسوارات الديكور من البيت، وكنت شاهدا على حدث فظيع وعنيف؛ فقد حاول أن يحمل معه غطاء السرير ليؤثث به خشبة المسرح، غير أن الجدة رحمها الله، التي كانت الآمرة والناهية في البيت، منعته من إخراج تلك القطعة من الأثاث؛ فثارت ثائرته وأخذ يضرب خزانة الملابس برأسه بهستيريا، وهو ما جعل الجدة تستسلم لرغبته وتسمح له بحمل تلك القطعة التي استعملها في العرض المسرحي بمثابة لحاف؛ لأنها لو لم تفعل ذلك، لكان قد هشم رأسه بالتأكيد، لأنه كان مجنونا في عناده.
بداية النشر
سنة 1976 تعد تاريخا هاما في مسيرته الأدبية؛ لأنها السنة التي نشر فيها لأول مرة، وسنه لم يكن يتجاوز السادسة عشر، ولم يكن ما نشره قصيدة أو أي شيء من هذا القبيل كما قد يعتقد الكثيرون، بل كان ما نشره عبارة عن مقال قصير ذي نفحة فكرية إذا شئنا القول، وكان محوره الأساسي يدور حول مفهوم الاشتراكية، نشر هذا المقال بجريدة البيان الناطقة بالعربية ولسان حال حزب التقدم والاشتراكية، لم يحمل المقال بنفسه إلى مكتب هذه الجريدة، بل أحد أبناء الجيران الذي كان يعمل بالقرب من هذا المقر، ولا شك أنه هو الذي شجعه على النشر لما وسم فيه نبوغا على مستوى التعبير الأدبي، دون إغفال دور خالي محمد الجباري، الذي كان يعمل في سلك التعليم بأولاد تايمة جنوب المغرب، والذي كان يمتلك خزانة كتب، ويعلق صور بعض رموز الأدب العربي، من قبيل: ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وغيرهما، وفي كل زيارة لبيت خالي كان يحمل معه مجموعة من الكتب التي كانت مكدسة لديه.
جائزة اتحاد كتاب المغرب
شكلت سنة 1990 محطة بارزة في مسيرته الأدبية، حيث شارك في الدورة الأولى لجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، ونالها في الفئة الخاصة بالشعر عن ديوانه البكر: أبدا لن أساعد الزلزال. هذا الديوان كان ينوي نشره في دار توبقال ولم يكن يفكر في ترشيحه لأي مسابقة أدبية، حيث كتب رسالة إلى الناشر الذي لم يكن أحدا آخر غير محمد بنيس نفسه، يقول له فيها:”يسرني أن أبعث إليك بنص من آخر ما كتبت: لن أساعد الزلزال، راجيا أن تضمه إلى المجموعة التي بين يديك. أؤكد لك مرة أخرى، أن لك كامل الحرية في اختيار العنوان، إن هذه التجربة التي بين يديك تثق فيك كثيرا، لأنك تثق في الشعر، في الملح السري الذي اقتسمناه، صديقي الشاعر، لدي رغبة قوية الآن، في أن أصدر ديواني الأول، وأعرف جيدا أن الشعر سيد الكلام، لكنها نفس الرغبة التي تدفعنا في البداية إلى أن نصدر ما قبل الكلام..”.
غير أن ديوانه الثاني: دفاتر الخسران، لم يصدر إلا بعد وفاته، وبالضبط خلال ذكراه الأربعينية، وكان ينوي طبع هذا الديوان بدار النشر توبقال كذلك، حيث ظل الناشر محتفظا به، إلى أن قرر اتحاد كتاب المغرب أن يتسلمه منه ويطبعه ضمن منشوراته.
حين شارك في لجنة تحكيم مسابقة شعرية، كان انحيازه إلى المفاجئ والمدهش في النصوص المتبارية، يقول في تقريره حول النصوص التي اختار تتويجها: “لفت انتباهي الحرص على الاهتمام بما هو مفاجئ وبصدم البنية التوقعية للمتلقي، وخلق حالة غير متوقعة إطلاقا، إن الاهتمام بالمفاجئ وحده كقيمة مكتسبة قد يجعل الشعراء الجدد يكتبون قصائد غير متوقعة إطلاقا..”.
آخر أيام حياته
في السنة التي تزوج فيها، كان الهاجس الذي يؤرقه هو الحصول على سكن؛ فقد كان يقضي بعض الليالي في بيت زوجته بحي الصخور السوداء بالدار البيضاء، غير أنه حدث أن غاب أياما عديدة، ولم يكن معهودا فيه أن يغيب عن البيت مدة أطول. إلى أن اتصلت بنا زوجته وأخبرتنا بأن المرض اشتد عليه.
حين زرته في بيت زوجته، صدمتني الحالة الصحية التي كان عليها، كان شاحبا جدا وهزيلا ولا يقوى على الكلام، أخبرتني زوجته بأنه لم ينم منذ مدة طويلة.
كان بحاجة إلى الشمس، هو الذي يشكو من داء السل، حيث تقرر في صباح اليوم الموالي حمله إلى مستشفى 20 غشت، وتم الاحتفاظ به في القسم الخاص بمرضى السل، قسم الجحيم، هذا هو الاسم الذي يليق به؛ فهناك كنا شهودا على وضع شبيه بالكابوس، حيث أن الطبيب نادرا ما كان يزوره، وحيث أن أرملته هي التي كانت تقوم بمهام التمريض، كانت ظروف التمريض عبثية؛ فلم يكن يكف عن التقيؤ والتأوه، ويوما بعد يوم كان يفقد الكثير من وزنه، إلى أن انحدر الوزن إلى عشرين كيلو، ومع ذلك تم الاحتفاظ به في الحجرة ذاتها، وسط قيسارية قسم داء السل، في الوقت الذي كان بحاجة ماسة للعناية المركزة، سيما وأنه بات شبه مؤكد أن علاجه صار ميؤوسا منه، إلى حد أنني فكرت في رفع لافتة أمام الباب الرئيسي للمستشفى، مكتوب عليها:
“أنقذوا الشاعر أحمد بركات”
وظهر خبر في إحدى الجرائد الوطنية، تحت عنوان:
“الشاعر أحمد بركات بين الحياة والموت”
وهنا تحرك اتحاد كتاب المغرب خلال ولاية محمد الأشعري، وحمل ملفه الطبي إلى وزارة الثقافة التي كان على رأسها آنذاك علال السي ناصر، وتقرر عندها نقله إلى مصحة الحكيم التي تقع بجوار تلك المستشفى المشؤومة، حيث ظروف أفضل للعلاج، غير أن الأوان كان قد فات، ولفظ آخر أنفاسه هناك.
بقلم: عبد العالي بركات