لن يكون أبدا بإمكان مراكش أن تتنكر لهذا الإسم الذي أعاد تلك الصلة التي فقدت بين مدينة ابن رشد والفلسفة. فقد امتزج تاريخها المعاصر بالمجهود الفلسفي لعبد العزيز بومسهولي الذي تواصل لثلاثة عقود على الأقل من التأليف والتفكير والتساؤل. ليشكل لحظة يقظة تستضيف الكوني في عمق الخاص وتدفع المحلي إلى ذروة العالمي، وتكشف في عمق المفهوم لحظة اشتداد الحدث.
سيظل عبد العزيز بومسهولي اسما لتجربة فريدة في التفلسف الذي قرن روح المدينة باستضافة حركية المفهوم. وجعل منها تأويلا لحدث فلسفي استوطن المكان وأعاد تنظيمه وفجر منابع خلق معانيه، وأعاد صياغة أفقه باعتباره تجربة للجسد. وهنا بالضبط تمكن باقتدار من تحويل مفاهيم الجسد والرغبة والغيرية والمدينة والأخلاق إلى منظومة مترابطة لا تستهدف الانشداد إلى المفارق الذي يحول الأفكار إلى مكان بديل، وإنما إلى تعيين صيغة متحررة في بناء الوجود الخاص للذات، أي فن العيش باعتباره إعادة ابتكار للعلاقة الملحة مع الغير.
فقد طرق عبد العزيز بومسهولي، هذا الفيلسوف الكبير الذي يحق لمراكش أن تحفل وتفتخر بجدارة اسمه، منذ كتابه الأول “الشعر والتأويل” سؤال اللغة والزمن، معلنا فيه خياره الفكري الأهم، المتمثل في كون اللغة ليست تورطا أصليا في المعنى، وإنما استدعاء للحدث. هذا الاستدعاء الذي عثر عليه في مصاحبته الفكرية لشعر أدونيس، في صيغة نداء للوجود، متاح من تلك الفتحة التي تمزق الزمن وتفرز من خلاله حركية المضي التي لا تتحقق أبدا كتراجع في الزمن والتفاف على نواته الأولى، وإنما كرغبة في المستقبل. واكتملت رؤيته، في كتابه” الشعر، الزمان والوجود” بتحديد هذا التمزق المبدع لحركية الزمن كحاضر، لتتخذ صيغتها القصوى في أعماله اللاحقة بإعلانها أن الزمن هو الرغبة.
لقد سمحت اجتهاداته الفلسفية المتلاحقة في أعماله المتوالية، بفتح الباب نحو مواجهة السؤال الأهم، الذي حدد فيه حقل المحايثة الذي تشكل المدينة امتدادا تأويليا له؛ وهو سؤال الجسد الذي بناه بإتقان لم يتنازل فيه أبدا عن حرصه الفلسفي بأن يجعل منه لحظة للتفكير في كل المآزق التي تعترض الكائن الإنساني في تجربته المعاصرة بحدودها التقنية وبنزوعه المتناقض الذي يدفع في نفس الوقت في اتجاهين متعاكسين، هما الانفتاح على العالمية والانغلاق وإحكام الحدود. فقد منحنا بعمله الفلسفي فرصة الانتباه إلى أن كل جسد هو شكل متحقق من الكونية. لأن كل جسد ليس فقط تجربة في العالم وإنما أيضا تجربة للعالم. وعند هذا المستوى تنعقد تلك الجدلية التي تجعل من الجسد المكان الأشد كثافة للانقطاع الذي يفرز الفردية، وفي نفس الوقت يعزز الارتباط بالغير باعتباره ضرورة لكل تحقق جمالي للحياة.
ظل عزيز بومسهولي في كل أعماله فيلسوف الرغبة والزمان، لكنه كان دائما فيلسوف المدينة، دافع عن العيش بمقتضى “عقل المدينة ” حيث إرادة المفهوم تخترق ممكنات العيش، لتقوي طاقته الجمالية، مثلما جعل المدينة مشروطة بحكمة “المدينية” بوصفها فن تقاسم العيش مع الغير. ليكشف مبدأ هذا الفن: التعايش أساس العيش، ولا معنى للمدينة من دون هذه الفلسفة.
الذين اقتربوا من عزيز بومسهولي، يعرفون جيدا أنه لم يكن قط مجرد مداد يملأ صفحات الكتب، وإنما ظل دائما فيلسوفا في ممارسة حياته الخاصة، في روح الصداقة التي يصر على إشاعتها حيثما يوجد، في الفرح الذي لم يتوقف قط عن تمجيده باعتباره الاستحقاق الأعدل لكل من قبل الرهان من أجل مغامرة الحياة، في المحبة التي بادل بها الأعداء قبل الأصدقاء، في استماتته الشرسة ليكون النصر الأخير للحب والموسيقى. إنه فيلسوف.. فيلسوف المدينة و الحياة و الأمل.
هامش:
ينظم مركز عناية للتنمية والأعمال الاجتماعية بالمغرب في إطار الملتقى الربيعي الثقافي السادس تحت شعار :” القراءة والكتابة صورتان للأمل” ندوة وطنية احتفائية تكريمية على شرف الفيلسوف المغربي عزيز بومسهولي بمشاركة الأساتذة الباحثين والمفكرين :إدريس كثير ومحمد الشيكر وحسن لمودن وعبدالصمد الكباص ومحمد آيت لعميم وحسن أوزال وحسن لغدش وإسماعيل زويريق ومصطفى غلمان، وذلك يوم غد السبت، بالقاعة الكبرى للمجلس الجماعي شارع محمد السادس بمراكش انطلاقا من الساعة الرابعة مساء، وبالمناسبة أعد الأستاذ الباحث عبد الصمد الكباص هذه الورقة التقديمية.
بقلم: عبد الصمد الكباص
عزيز بومسهولي: الفيلسوف في المدينة
الوسوم