الأديب المغربي الميلودي شغموم: عندما أتهيأ للكتابة أستمع إلى تعريجة أمي

>  بقلم: يوسف كرماح
الأديب الميلودي شغموم واحد من ألمع نجوم الأدب الذين أسسوا صرح السرد المغربي الحديث، من الأسماء اللامعة التي لا تحتاج إلى نبذة تعريفية، يكفي ذكر الاسم للتوافد على الذاكرة أول مجموعة قصصية في السبعينيات من القرن الماضي “أشياء تتحرك”، وأول عمل روائي ” الضلع والجزيرة”، وعشرات الإصدارات التي تتشعب نحو ضفاف الدراسات النقدية والأبحاث الأكاديمية والمقالات الصحفية، أديب يكتب القصة والرواية لأزيد من خمسة عقود، يزاوج في كتابته بين الفكر والحكي  وبين الواقعية والتخييل، تُعرف أعماله بالنهل من الذاكرة المتشعبة بين الصوفي والعجائبي والأسطوري، وتتميز أيضا بالرمزية التي تكسوها هالة من الغموض والسيميائية، وهذا الطابع ليس بغريب على المتتبعين للشأن السردي الشغمومي، فالكاتب يقر في كثير من الحوارات بأنه لا يكتب للناس الذين يقرأون الأدب ليناموا، بمعنى آخر، إنه يكتب للقارئ النموذجي /الأكاديمي، ولا يكتب للذين يجلسون في شرفتهم لاحتساء الشاي ولا للمسافرين للتلهي في الطريق، وإنما يوجه عمله إلى قارئ ذكي يستطيع فهم مرجعية واديولوجية ورسائل الكاتب المشفرة.   
   وبهذه المناسبة، كان لجمهور مدينة طنجة بفضاء مكتبة “الفاصلة”، بدعوة من جمعية ثقافات المتوسط، موعد مع جديد الأديب الميلودي شغموم، رواية بوليسية موسومة بـ “أرانب السباقات الطويلة”، تلاه لقاء  مفتوح مع الحضور بعد غياب طويل عن الأضواء، استثمره المحتفى به بالنبش في الذاكرة الموشومة، التي تحفظ مراتع الطفولة، وذلك في يوم عيد ميلاده الذي يوافق عيد المولد النبوي، ما أتاح له الفرصة ليتحدث عن جذور اسمه “الكيميائي”، ولقبه الذي يفيد المديح الطويل ويطلق على الرجل والمرأة والناقة، لأن كل كاتب كبير قطع أشواطا في غمار الأدب، يحب أن يتحدث عن نفسه وعن تجربته الأدبية، سيما الرجوع إلى الطفولة والنهل من مخزونها، فقد تحدث الميلودي شغموم عن شذرات من سيرته الطفولية التي لم ينصفها في كتابته، ولم تسمح بها ظروف التخيل الذاتي، لأنه يؤمن بالمزج بين المتخيل والواقعي في الكتابة، وأنه لا وجود لعمل سيري خالص، وإنما توجد أعمال تخيلية مطعمة من الواقع الذاتي، مع استثنائه لمحمد شكري، وإن كان هذا الأخير، لم يكتب نصا مقدسا، ويشكك كثيرا في مصداقية أعماله.
 وبهذه المناسبة، فقد كانت الفرصة متاحة في هذا اللقاء ليتحدث عن شيطنته الطفولية في “ابن احمد” وولعه بالسينما منذ الصبا، كما استطرد في حكيه بكل جرأة وتواضع عن أمه المناضلة والصبور، التي كانت تتاجر في الدواجن، وكافحت بجهود “عشرة رجال” في التجارة التي لم تلهيها عن رعاية ودعم الطفل الميلودي في دراسته، فضلا عن خاصيتها الأساس التي عرفت بها وهي الطرب في الأفراح، وهذا السياق هو الذي قاد الكاتب للحديث عن طقوسه في الكتابة، وهكذا لخص على الحضور سؤال طقس الكتابة، فكل كاتب له طقوسه الخاصة، هناك من يكتب على إيقاع ناس الغيوان وهناك من يكتب على إيقاع الأمداح وطرب أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، على ضوء الشموع أو على إيقاع مباريات كرة القدم والبرامج الوثائقية في المقاهي أو يكتب واقفا كالمجذوب، كما كان يحدث مع ارنست همنغواي. أما الميلودي شغموم فقد صرح للمرة الأولى بأنه عندما يتهيأ للكتابة يستمع إلى تعريجة أمه حتى تطرب أذنه وتتفتق سريرته الإبداعية في نسج زخم إبداعي ينهل من الفلسفة التي تشبع بها ومن الأعمال الأدبية الرائدة التي سلبت لبه في صباه، ففي صغره كان يقرأ كتبا كثيرة أكبر من سنه، ويذكر أن أول عمل شد انتباهه كان “سارة” للعقاد، الذي أحاله بدوره إلى أعمال أخرى مشرقية، لكنه تأثر منذ صغره بالأدب العالمي، سيما الروسي والفرنسي، تأثر بتشيخوف وتولستوي، أما ألبير كامو فقد كان له معه حكايات ومحطات وأبحاث كثيرة،  لدرجة أن أستاذة العلوم الطبيعية في المرحلة الإعدادية كادت أن تتسبب في طرده من الفصول الدراسية لما ضبطته يقرأ “الغريب” بلغته الأم. هذا إلى جانب أنه صرح بكونه عكس كثير من الأدباء، لأنه كان منذ صغره  يتنبأ بشموخه الأدبي، ويعرف أنه سيصبح كاتبا لمَّا أنشأ يقرأ الكثير من الكتب، متأثرا بجماليتها وبراعة حبكتها، كما كان يتكهن بأنه سيتشبع بالعلوم الفلسفية حين شغله هم الجوع الثقافي، وانهمك بنهم في فهم “عبثية” كامو وسارتر، فكانت وجهته لما التحق بالجامعة، مسالك الفلسفة.
  فضلا عن أن الكثير من المتتبعين لا يعرفون أن الميلودي شغموم، شأنه شأن الكثير من الأدباء في بدايتهم، فعدد كبير كانت بدايته مع الشعر أو مع الخواط، والميلودي شغموم ليس استثناءً، فقد جرب كتابة الشعر وكانت أول قصيدة له غزلية، أراد أن يجذب كطائر التعريشة، فتاة، فكان الرد مصيريا في مسيرة الكاتب، حين قالت له: ” من أين أتيت بهذه القصيدة”، فعرف بأن قدره سخره ليكون قاصا وروائيا ومهموما بالبحث الأكاديمي والنقد الأدبي، يبرع في عشرات المنجزات الأدبية: “عين الفرس، مسالك الزيتون، شجر الخلاطة، خميل المضاجع، نساء آل الرندي، الأناقة، أريانة، المرأة والصبي… الليالي القمرية، سرقسطة..
   هذا، بالإضافة إلى ميزة أخرى صرح بها الأديب الميلودي شغموم، بعيدا عن الانتقادات التي تقول بأنه يكتب برمزية فلسفية وفكرية تتطلب عصا موسى لفهمها وتخفي ما كتمه هدهد سليمان، والذي عبر عنها بتفكهه الساخر كالعادة قائلا بأنه حين كانت سنوات القمع والخوف من الجدران، تلهب الكثير، كان الكاتب الفطن يسخر من الحكام ومن السلطة بذكائه، هذا أفضل من قضاء 30 سنة في أقبية السجون، وأعمال الميلودي شغموم شهب ملتهبة موشحة بالسخرية السيميائية،  فهو يشبه الأديب الكبير نجيب محفوظ في ترويض الكتابة، لا ينتظر الإلهام ككثير من الأدباء، وإنما يحرض كل الحواس على ترويض الإلهام من أجل الانطلاق في مواصلة مشاريعه الأدبية، فضلا عن أنه لا يصمم مشاريعه الإبداعية، وإنما يطلق لها العنان لتسبح في عوالمها إلى حيث يجب أن تنتهي، كناقة تجارية مروضة.
   وقد ختم لقاءه بنفث بشرى للحضور الذي يسأل عن مشاريعه الأدبية منذ مطلع الألفية الثالثة التي تغيبها مواقع التواصل الاجتماعي بسبب نشرها في دور نشر عربية، أن قلم الكاتب ما يزال زاخرا، لم يتقاعد بعد، أما الذين يسألون عن تطليقه للقصة القصيرة بعدما جذبه بوح الرواية فقد بشرهم بوجود أعمال قصصية في موقعه الخاص بالإنترنيت، وانه يحاول المزاوجة بين الجنسين .
باختصار، هذا هو الأديب الميلودي شغموم ببساطته وتواضعه ونكته الطريفة، يمتع الحضور دائما بأفكاره الغنية والمثمرة، ويشجع الشباب الواعد بسماحة وتقدير. إنها شمعة الأديب الأصيل التي تنير مسارنا بحب وسخاء.

Related posts

Top