البيان… الدار الكبيرة

لا ينازع أي كان في أن جريدة البيان، عبر مراحل عطائها الطويلة، كانت دوما لسانا صادقا وجريئا للمواطنين من كل الفئات الاجتماعية، مدافعة عن همومهم ومرافعة عن قضاياهم في مختلف المجالات. وعرفت بالخصوص بدفاعها عن الطبقة العاملة وعن الفئات الشعبية المقهورة، في فترة كانت ما تزال فيها حرية التعبير والرأي جمرة بين الأيادي، وكانت الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي مجرد ضرب من الخيال وحديث في الغيبيات، وهو الأمر الذي جر على الجريدة ومسؤوليها وطاقمها التحريري، الكثير من المضايقات والمساءلات التي لم تنل شيئا من عزيمتهم وإصرارهم على أداء رسالتهم النبيلة. 

الفضل في هذا التاريخ العريق للجريدة لارتباطها بالطبقات المسحوقة يعود أساسا إلى مؤسسها الراحل علي يعته، الذي كان مكتبه في الجريدة مفتوحا على مدار الأيام لجميع الوافدين من المواطنين الراغبين في عرض مظالمهم على الرأي العام وعلى المسؤولين. لكن حتى بعد وفاة سي علي، وعلى الرغم من تعاقب عدد من المدراء ورؤساء التحرير على الجريدة، ظلت هذه الأخيرة وفية لخطها التحريري الملتزم بقضايا وهموم الشعب، حتى أضحت بحق مدرسة لجميع الصحفيين الذين اشتغلوا أو تدربوا بها، في تجسيد منطق القرب الحقيقي من المواطنين، في فترات سبقت بكثير ما أصبح معروفا لاحقا بصحافة القرب. 

وأذكر أنني عندما التحقت بالجريدة في نهاية التسعينات، بعد تخرجي من المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، لم تخرج عملية تدريبي الصحفي داخل أسرة التحرير عن تقليد معروف في المؤسسة هو بداية التدريب من خلال الإنصات للمواطنين وتحرير شكاياتهم، وهو تمرين له الأثر الإيجابي الكبير في الممارسة الصحفية للوافدين الجدد على مهنة المتاعب، من خلال، أولا، الاطلاع عن قرب على المعيش اليومي للمواطنين، وثانيا تعزيز تقنيات الكتابة والتحرير التي ربما يكون الصحفي المبتدئ قد اكتسبها خلال تكوينه الأكاديمي.

ومع تطور المشهد السياسي والإعلامي في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وانفتاحهما على هوامش جديدة في حرية التعبير، كانت الجريدة في الموعد من خلال دخول مرحلة أخرى من تجدد العمل وتعزيز الحضور في المجتمع. فكانت بيان اليوم، التي أصبح يديرها محمد نبيل بنعبد الله بعد رحيل سي علي، أول جريدة تخوض غمار تجربة التحديث من خلال تغيير “الماكيت” وبعدها تجربة الطبع بالألوان الذي تطلب منها أيضا تجديد مطبعتها في شارع “لاجيروند”. كما تعزز طاقم التحرير آنذاك بصحفيين شباب غير منتمين للحزب الذي يصدر الجريدة. وكان لذلك أثره الكبير في منح صورة متجددة ومتألقة للجريدة بطبعتيها العربية والفرنسية، تميزت بجمالية الشكل وحيوية المضمون المنفتح على مختلف الأجناس الصحفية وعلى مكونات المغرب الجديد الطامح إلى تعزيز قيم الحداثة والديمقراطية، والمجسد لإعلام حديث يكرس منهجية التعددية والموضوعية. 

وهكذا سعت الجريدة في حلتها الجديدة إلى تعزيز خطها التحريري القريب من انشغالات المواطنين ومن رهانات المرحلة، من خلال الحضور والتغطية اليوميين لتجليات النبض المجتمعي، وأيضا ضمن صفحات وأعمدة يومية، وملاحق أسبوعية متجددة ومتخصصة في جل الاهتمامات والقضايا الاجتماعية الحيوية، من التعليم إلى الصحة إلى شؤون المرأة والأسرة والطفولة والمعاقين، وغيرها من الفئات التي كانت أوضاعها تحظى باهتمام ثانوي في وسائل الإعلام وأجندات المسؤولين.. مع تخصيص حيز مهم أيضا لشكايات المواطنين في مختلف الجهات والأقاليم، وفي المدن الكبرى والقرى والمداشر البعيدة. 

كما تميزت الجريدة أيضا، في مرحلة مبكرة من عهد الانفتاح الإعلامي، وحتى قبل بروز هذا الزخم الكبير من المنابر الصحفية والمواقع الإلكترونية الذي نشهده اليوم، في طرحها للعديد من القضايا الاجتماعية، حيث كانت سباقة وجريئة في تناولها لقضايا لا تخلو من طابوهات مثل تعديل مدونة الأحوال الشخصية وإقرار مدونة الأسرة، ومناهضة أشكال العنف ضد المرأة، ومعاناة الأمهات العازبات، ووضعية الشباب والأطفال المشردين والأطفال المتخلى عنهم، والأشخاص المسنين، والجمعيات الخيرية وأوضاع وجمعيات الأشخاص المعاقين، وملف المتعايشين مع داء السيدا، ومشاكل قطاعات الصحة والتعليم والتشغيل… وغيرها من المواضيع التي كانت تشغل بال المواطن المتعطش إلى إعلام يمحص واقع مجتمع يتطلع إلى التغيير مع بزوغ إشراقة عهد جديد.

عرف مجال الصحافة الورقية لاحقا، وما يزال، تغيرات عميقة مع ظهور عناوين جديدة لا حصر لها، بإمكانيات مادية كبيرة وبأهداف جديدة، ظاهرة وخفية. وشكل البعض من هذه العناوين الصحفية قيمة مضافة في المشهد الإعلامي فيما تهافت الكثير منها على الإثارة وخدمة المصالح المختلفة.. ومنها من ظل صامدا رغم التنافسية الشديدة وتراجع نسب المقروئية، فيما سارع البعض إلى الاختفاء بنفس السرعة التي ظهر بها. وارتفعت حدة المعاناة مع اتساع المشهد السمعي البصري، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي. 

لكن على الرغم من كل ذلك، ظلت البيان محافظة على مكانتها كمدرسة صحفية عريقة تخرج منها أعداد كبيرة من الصحفيين الذين استفادوا من العمل والتكوين فيها قبل الانتقال والتألق في منابر ومؤسسات إعلامية أخرى، ومسجلة حضورها المتميز في المشهد الإعلامي من خلال خط تحريري ملتزم وحريص على أخلاقيات المهنة واحترام التعددية والمهنية، مع وفاء وإخلاص دائمين لقضايا وهموم المواطنين بكل فئاتهم. 

كل ذلك، يجعلنا، في هيئة تحرير بيان اليوم، فخورين بالانتماء إلى هذه المدرسة، وبالعمل ضمن أسرتها التي يجمع بينها ليس فقط قاعة وميثاق للتحرير، بقدر ما يجمعها الحب الكبير للمهنة والوطن، والإيمان العميق بنبل الرسالة، وميثاق إنساني وارتباط عاطفي بهذه “الدار الكبيرة” التي تحتضننا والتي نتمنى لها أن تظل بهية شامخة على طول المدى. 

سميرة الشناوي 

Related posts

Top