التواصل المعرفي دعامة لإصلاح منظومة العدالة 2/2

باعتبار المعرفة تراكم وتواصل، فإني سوف أقتصر، تفعيلا لهذه المقاربة،على إقتراح ثلاثة مداخل مندمجة لهذا التواصل بمثابة توطئة خام :

-المدخل الأول : التعايش في ظل النزاع بواسطة

 التواصل المعرفي .

– المدخل الثاني : الحوارالمعرفي  كتمرين لدمقرطة التواصل .

– المدخل الثالث :التسامح  كبيداغوجيا 

 للاعتراف بالآخرين

المدخل الأول : التعايش في ظل النزاع بواسطة التواصل المعرفي .

بغض النظر عن التربية التي تلقينا، وهي تجسيد لقيم الإنسانية الايجابية التي استطاع آباؤنا وأمهاتنا وعائلاتنا ومعلمونا أن يلقنوننها لنا؛ فإن ما تلقيناه في منظومتنا التعليمية وخلال وقتنا الحر / الثالث ومثاقفتنا وتكويننا الفكري والقانوني جعل منا أناسا غير عاديين، فوق المجتمع، كنخبة تتماهى مع السلطة العمومية، باعتبار أن المجتمع لايولي عناية للقضاة والمحامين إلا بقدرما يستطيعون أن يكونوا قدوة، في النزاهة والتباث. هاته القدوة التي ينبغي أن تلمس في طريقة الحياة المعيشة الجلية – كما يقول نتشه – في حق الفلاسفة، وكما يقول ميشيل فوكو في حق الفنان، ألا يمكن أن تغدو حياة كل فرد تحفة فنية ؟ ..ويحق لنا أن نقول معه ألآ يمكن أن تغدو حياة المحامين والقضاة عدالة تمشي على رجلها 

بدل رأسها أو بطنا، فكيف لهم أن  يجسدوا تلك العدالة الوطن الفاضل إذا هم لم يسقوا فطرتهم وسلوكاتهم بالتكوين المعرفي ؟ 

لنا في حياتنا المهنية بعض النماذج البشرية، والتي لعبت بابداعاتها وإنتاجها واجتهادها وسلوكاتها دورا مهما في حياتنا وسلوكاتنا  تربية وفكرا ونضالا، كانت بمثابة النبراس الذي ينير الطريق، فكل واحد منا مثالا وقدوة يهتدى به ويقتدى . ولكن هل يكفي في زماننا تمثل سلوكات غيرنا، أي هل يكفي أن يعتز كل واحد منا بنفسه دون أن يعمل على التفاعل مع الآخرين؟. فهذا هو المقصود عمليا من الحياة  الجمعية وما نسميه فن تدبير الحق في الحياة السعيدة . وأعتقد أن عصرنا يقتضي تطوير هذه السلوكات الى ما هو أكثر فائدة في التواصل  وتبادل الخبرات واقتسام المعلومات، أي بلوغ التفكير في العيش معا، أو ما يدعوه الفلاسفة والإجتماعيون والتربويون فن التعايش .لأن التفكير في العيش مع 

الآخر وتدبير المجال معا كفضاء يحضن الجميع،لا يمكن أن يتم دون تفعيل قاعدة البوح الايجابي من أجل التعبير الجماعي . فكيف سيتم هذا التعايش ؟ 

المدخل الثاني : الحوارالمعرفي

 كتمرين لدمقرطة التواصل

يعتبر الحوار أنجع وسيلة لرفع اللبس وتجاوز سوء التفاهم ولاستحضار الحكمة وتكريس الائتلاف بتقريب أوجه الاختلاف وملء البياضات. فهل تكفي  المحادثة العادية  لتقوم بهذا الدور، خاصة فيما بين أطراف مفترض فيهم “الوعي” والفهم العميق لما يجري، أم لابد من حوار بمواصفات وخصائص محددة ؟

كثيرا ما يقال بصدد النزاعات، ينبغي تحكيم العقل، وكما يقول الفلاسفة ” ان العقل السليم هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس” .إذن العقل موجود فينا بالتساوي ولكن إعماله وتحكيمه يحتاج الى قوة مادية، تؤطره وتفعلهإ ايجابيا. طبعا لا بديل عن المعرفة، وبالتالي فالتواصل المعرفي أداة لتجاوز الذاتيات والنرجسيات المعبرة عن المصالح الضيقة، وهنا يحضر القانون والأخلاق والوازع العقائدي والديني والمبادئ والقيم في شكل حكمة شمولية  ـ اي فلسفة خاصة ـ كمناقض جوهري وعدو عنيد للخزعبلات والايديولوجيا التي تتعمد تجاهل التناقضات وشرعيتها وطبيعتها الكونية كقانون؛ فنحن كقضاة ومحامون أي النخبة المفترض فيها بحكم المستوى التعليمي والكفاءة المعرفية، على علتهما 

وحجمهما، لابد وأن نحتكم للعقل المؤطر بالمعرفة وعلى الخصوص علم الاجتماع القانوني وفلسفة الحق من أجل إستنباط الحكمة من التشريع، وبأنه لا حق إلا وراءه صفة  تلازم الطالب ومتلازمة مع مصلحة مشروعة واضحة ، فالحكمة العاقلة بالمعرفة أو الوعي العالم إن صح التعبير، تسعى إلى الكشف عن الاختلاف فيما وراء الائتلاف المقنع وعن التعدد فيما وراء الوحدة القسرية، والاتصال المصطنع، فالاتصال من جهة واحدة “على وزن انفعال” يتخذ صيغ آمرة ويشتغل عموديا من أعلى إلى أسفل ، ليس كالتواصل بين طرفين “على وزن تفاعل” فهو أفقي وحتى إن كان أحيانا عموديا، فغالبا ما ينطلق من أسفل إلى أعلى . صحيح أن الحوار يتعثر بصفة كبيرة عندما يتعلق الأمر بنقاط الالتقاء 

، لكن لابد من أن نؤمن بأن التاريخ يؤكد بأنه كلما ازدادت المسافة قربا بين القضاة والمحامين في الأمور التقنية البسيطة ازداد بعدهم بفعل الاحتكاك اليومي، لكن ولأن المعرفة كالشرطي الضابط لعملية الجولان وتسهيل المرور، فإن للعملية التحاورية بمحتوى علمي، نتائج بعدية مهمة، وهي أنه كلما ازداد أحدهما بعدا عن نفسه عن ذاته الجاهلة، وذلك بالانفتاح والحوار نحو حاجاته الثقافية والخبرات المجتمعية، ازداد 

قربه من الآخرين، من هنا لابد من العمل على تحويل النزاعات والخلافات،على الأقل، إلى صراع صريح فكريا وثقافيا، ولما لا إلى صراع سياسي يتجاوز الذاتيات وشخصنة الصراع ، الصراع المؤطر بالتواصل المعرفي هو الذي يقيم ويقوم الذوات ويقوي مشروعية مطلب الاستقلال عن كل جهة لها مصلحة في الانشقاق والانفصال ،وتجاوزا لكل انكفاء على الذات وتفاديا لكل غرور واحتضار ذاتي ، فالقضاة لا يمكنهم العيش بمفردهم، يواجهون كل المصائر المجهولة في العلاقة مع استقلالهم على الخصوص ،كمكتسب وطني أدينا عنه جميعا الثمن بالتضحيات غير الهينة،  فهم كما قلنا وكما سنفصل عند الحديث عن آلية التسامح ، هم ضحايا الدولة والمجتمع معا ، لذلك فنزعة اللمبالاة بالآخر ـ أوما نسميه نحن بالنقيض الثانوي ـ تجر الى العزلة وسهولة السقوط في التبعية بما يعتبر ارتدادا وانتكاسة لمطلب التحرر والاستقلال. 

فالممارسة التحررية لن تتأتى إلا بترتيب الأولويات والتناقضات وتدبير التحالفات، فالتعايش لا يعني في آخر المطاف سوى حسن تدبير الائتلاف والتحالف مع احترام الخصومات الضرورية والعرضية  كأمر واقع، من هنا فالتواصل المعرفي وسيلة لبلوغ هذه الوسائل في التحليل والتمكن منها، وقد تعلمنا إن لكل تعاقد مصلحة مشتركة مشروعة فبالتالي يظل المحامون والقضاة مرآة لبعضهم البعض تقييما وتقويما ،لأن الإختلاف فيما بينهم ضرورة  يحكمها الماضي والمستقبل و يتحكم فيها، وإذا كان مفهوما بأنه للحنين للماضي مبرراته وهي أن القضاة لم يكونوا مستقلين بما يكفي عن الإدارة دستوريا وواقعيا، والمحامون (النخبة) تخندقوا بقوة الوقائع السياسية والاجتماعية  مع ضحايا سنوات 

الرصاص، فكيف يمكن تبرير استمرار  التوتر في ظل حاضر يؤسس لمستقبل استقلال الجميع عن السياسة وعن الايديولوجيا ؟ أليست دولة الحق والقانون والمؤسسات مطلبا للجميع ؟ فكيف لنا أن نتوافق ونتراضى حول ما نحن بصدد الإختلاف حوله ، ذلك الماضي الذي لا يريد أن يمضي ؟ 

المدخل الثالث: التسامح 

كبيدا غوجيا  للاعتراف بالآخرين

نحن أسرة واحدة، لكن هل الحروب الصغيرة بين مكوناتها تماثل المناوشات داخل الأسرة؟

هل يحصل عندنا أحيانا الطلاق للشقاق ( رغم انها مسطرة لتفادي الشقاق) كما يحصل داخل الأسرة النووية ؟ 

قلنا إن التعايش والحوار يفضحان الاتصال الوهمي وبالحقائق السيوسيولوجية التي يقدمها الإعلام عن القضاة والمحامين ، كشريحة منزهة عن العبث ومعصومة من الخطأ ، لا يمكن أن يطالها الفساد وكأنها معزولة عن المجتمع وثقافته وسلوكاته؟ فكيف نتخلص من هذه التمثلات والحروب القاتلة للتعايش والحوار وإمكانياته ؟

 أعتقد انه يمكن اعتماد “معبر” التسامح الذي لا يمكن تمثله سوى في سياق معرفي مترفع عن الحزازات، لأنه حسب العقائديين والدينيين لا يمكن اعتباره سوى وسيلة للنيل من وحدة الأمة، كتصالح مع العدو، ولأننا ارتأينا أن نخوض منذ البداية بالتركيز على ” المعرفة “، لأنها هي التي تعطي الأولوية لأهمية التعايش ثم الحوار كآلية ممهدة لما بعدها من تسامح . فالتسامح لا يمكن أن يتأتى إلا بعد التعايش الاضطراري. فالاختياري/الطوعي /التلقائي/الواجب، ثم الحوار اللازم لكل تواصل وتعايش أو العيش معا. فقد قلنا بأن التعايش لا يكفي وكذلك الحوار إذا لم يفضيا الى الوعي بالمصلحة المشتركة، أي بضرورة تبادل المصالح، وأول مصلحة هي الإعتراف بوجود الآخر، والذي لا يستقيم إلا إذا كان 

متبادلا. فالاعتراف بالآخر ييسر الإعتراف بوجود الاختلاف والإقرار بالحق فيه، فلسنا مضطرين لكي نتماثل. فكل ميول نحو التواصل التاريخي لا يعني بالضرورة التعبير عن الإعتراف بوجود دين تاريخي في الذمة وكحق مطلق، وبالتالي فنحن مضطرون للاعتراف ببعضنا البعض وبالخصوصيات الثقافية والتربوية الملازمة لنا وكذا العمل على الاعتراف بالآخر كما هو، وبفعل التعايش والحوار نحول التسامح كالتزام اخلاقي (ببدل عناية) إلى تعاقد قانوني (ببدل نتيجة) ، فالتسامح هو قبول الاختلاف والتميز عن الآخر ايجابيا وسلبيا. والمقصود هنا ليس التسامح مع الآخر كتجاهل له وعدم المبالاة بحاجياته والتسليم بان الآخر عدو استراتيجي وتناقض تناحري، وبالتالي القبول به كأمر واقع مستحيل التحول أو التغيير، بل نقصد التسامح كانفتاح على الآخر في اختلافه واقتراب منه في ابتعاده، أي الانشغال به.فإذا كان التسامح الأول يضمر التعالي بالنظر الى أن العلاقة تكون عمودية كعلاقتنا مع الدولة والاستعمار والخارج بصفة عامة، فإنه في الحالة الثانية تكون العلاقة 

أفقية حيث الاختلاف متباين ومتصالح ندا للند. لذلك فالقضاة والمحامون مختلفون وليسوا متمايزين. 

اذن كخلاصة فالتسامح وسط بين رذيلتين كما يقول بن مسكويه، وسط بين التساهل وبين التغاضي. ومن سمة التسامح انه يبعدنا عن ذواتنا، فتحول بينها وبين التعصب للرأي والتشبت بمنظور والتعلق بنموذج، فهو تسامح مع الذات ، ضدا على الغرور والوهم بتضخم الذات، والاستلاب بتملك السلطة والقوة العمومية، فالأصل أننا ميالون الى الخطأ، فعلينا أن نكون مستعدين للاعتراف بأخطائنا وتقديم نقد ذاتي دون جلد للذات. وفي جميع الأحوال فالتسامح لا يمكن أن يكون بدون حدود ،فينبغي أن تؤطره المصلحة المشتركة وبالتالي يقتضي الأمر على أن يـتـأسس التسامح على مبدأ التبادل وفي إطار التعايش والحوار، انسجاما مع ارادة التواصل المعرفي التي تنبني على أساس التدبير 

السلمي للصراع إن كان له محل ، ومادامت المعرفة سلطة فالتكوين والتكوين المستمر يظل شرطا لمواجهة السلطة التنفيذية التي تحتكر القوة العمومية ، تعوض بها ما نقص في المجال الحقوقي وتملك الايديولوجيا تعوض بها خصاصها في العقل والقانون، وتسخر التقنية في مواجهة فقرها الثقافي والتزامها السياسي. فليكن وعينا الجماعي كرد فعل عقلاني ومعرفي على بؤس واقعنا المادي والمعنوي. وعلى سبيل الختم والاستنتاج العام يشكل التواصل المعرفي وعبر المداخل الثلاثة :التعايش ثم الحوار فالتسامح آلية مستدامة ومستمرة في الزمن والمكان يتغلب فيها البعد السيكولوجي على النزعة التقنية لفض النزاعات وتدبيرها بطرق حضارية وسلمية دون عنف  سواء مادي أو لفظي 

وهو كثير في حياتنا اليومية رغم أنه محرم ومجرم ، ويا للمفارقة العجيبة ، ونحن حماة القانون والسلم  والحق في الأمن .

ملاحظة: على هامش ما يجري  من توتر، بعضه طبيعي والبعض الآخر يبدو أنه مفتعل، فيما بين مكونات النظام السياسي وبين المجتمع المدني، وداخل كل المربعات والتكتلات نفسها؛  أعيد نشر مداخلة  شاركت بها  في ندوة نظمتها جمعية القضاة التي كانت تترأسها  الدكتورة  رشيدة احفوظ بتاريخ 28 يونيه 2013  بالدار البيضاء

<إعداد: الأستاذ مصطفى المنوزي * *الرئيس المؤسس للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والانصاف 

Related posts

Top