الحزب السياسي الحقيقي

يحضر الحديث هذه الأيام، وفِي فترات سابقة أيضا، عن الأحزاب السياسية، وتتوجه إليها الضربات والانتقادات من أكثر من جهة، وأحيانا حتى من لدن بعض منتسبيها، ومرات تكون هذه الانتقادات إطلاقية وغارقة في التسطيح، وتقارب الموضوع كما لو أن كل الأحزاب هي واحدة ونسخا لبعضها، أو كما لو أنه لا توجد مقارنات بهذا الخصوص، ولم يعرف أحد سوانا في الدنيا وجود أحزاب.
الحزب السياسي الحقيقي لا يقاس بأنشطة ينظمها بغتة أو في مناسبات انتخابية أو غيرها، ولا يقاس، في سياقنا المغربي، بتجميع المستمعين أثناء إقامة تجمعات أو جولات عبر المدن والأقاليم، ولا يقاس حتى بحجم ما يجيشه”الشناقة”من داخل المعادلات التي ندركها كلنا…
الحزب السياسي الحقيقي ليس هذا فقط، ولا تجسده هذه الخرجات الموسمية المحدودة، وإنما يجب أن يتجسد في أهداف كل هذه الأنشطة ومنطلقاتها وشروط تنظيمها، وأساسا في الامتداد الميداني المستمر، وفِي قوة الالتفاف حول الحزب، وحول فكرته السياسية والثقافية، وذلك سواء من طرف أعضائه المقتنعين بمبادئه وهويته أو من طرف الجمهور.
وتبعا لما سلف، لا تشبه الأحزاب بعضها، سواء عندنا في بلدنا أو في كل العالم، وحتى في السياق الزمني الحالي حيث تضعف الأفكار والالتزامات، ويخفت زخم النضال والتضحيات، فإن”ولاد عبد الواحد ليسوا كلهم واحد”.
الأحزاب الحقيقية تبقى واقفة ويمتد أثرها، حتى عندما تحيط بها كيانات مصطنعة تمتلك بين أيديها وأمامها وخلفها كل خزائن الدنيا، وكل أدوات الضغط والإغراء، وهي تستمر لكونها قائمة على الأفكار والقناعات، وتعيش في العقول والضمائر.
من المؤكد أن أي حزب سياسي يعمل ويناضل داخل مجتمع بشري يشبه مجتمعنا بكل التعقيدات والتركيبات السوسيولوجية والأنتربولوجية والعلائقية المعروفة حوالينا، لا بد أنه يتأثر بما يفرزه الواقع المجتمعي من أزمات وأعطاب، إن في السلوك البشري أو في العلاقات أو في الأنانيات المفرطة، ولكن الحزب الحقيقي يستطيع التدارك دائما، وينجح في تصحيح الاعوجاجات، ويتخلص من كل الاستهدافات والاختراقات، ثم يستمر في مشيه المستقيم، ويكرر المحاولات لتمتين امتداده وانفتاحه في المجتمع، لأن هذه هي مهمته الرئيسية.
على المستوى العام، الحزب السياسي الحقيقي ينشغل بالتطوير المستمر لواقع المجتمع والناس، وفِي نفس الوقت بتطوير حياته الداخلية، وهاتان المهمتان هما دائمتان، والعلاقة بينهما جدلية ومتفاعلة ودائمة.
وعلى صعيد العمل بشأن الدينامية الداخلية وبناء التنظيم والعلاقة بين مكوناته، تكون أنظمة الحزب وقوانينه الداخلية هي المؤطر والحكم ومنظم كل الإيقاعات الفردية والتنظيمية والمؤسساتية، ما يعني أن كل المناضلين يجلسون تحت هذا السقف المتفق عليه، والمجسد لقناعاتهم المشتركة، ويحتكمون إلى اشتراطاته، وخارج كل هذا لن يبقى للعمل الحزبي والعلاقات الحزبية أي معنى.
الالتزام الجماعي والفردي بالسلوك المشار إليه داخل كل حزب حقيقي يعتبر ضروريا لكونه هو الضامن لاحقا لإنجاح مختلف الديناميات الأخرى المتصلة بعمل الحزب وأثره وامتداده في المجتمع، كما أن السلوك الحزبي هو شرط النجاح في بناء المضامين الفكرية والسياسية، وشرط الارتقاء بالشخصية الحزبية المتسمة بسحنة فكرية تحيل على هوية الحزب ومنظومة تفكيره.
يمكن للحزب أن يستحضر أهمية تدبير مهارات أعضائه وطموحاتهم الشخصية المشروعة، ويجب أن تتوفر لديه خطة عمل تدبيرية واستشرافية لموارده البشرية وللطاقات النضالية المنضوية ضمن صفوفه، وهذا الجانب ربما يتغير ويتطور وتكبر الحاجة إليه بحسب تبدل الأزمنة والسياقات في المجتمع، لكن السقف في هذا يبقى هو خدمة المجتمع والتنافس من أجل ذلك، وليس تصريف الأنانيات الفردية المبالغ فيها أو تلبية حاجيات انتهازية، وجر التفكير والتنظيم الجماعيين لخدمة رغبات الأفراد وتحكمهم.
وفِي التصدي لمثل هذه الأعطاب المنتشرة في أوساط بمجتمعنا، يبرز الاختلاف بين حزب سياسي حقيقي وآخر غير ذلك.
قد تتسبب مثل هذه الأعطاب لأي حزب في عثرات طريق أو في إحداث بطء في المسير، لكن، في نهاية الأمر، الحزب السياسي الحقيقي يستطيع طي صفحتها بسرعة ومواصلة طريقه بلا أي ارتهان للحديث عنها أو التفات إليها.
الأحزاب السياسية الحقيقية الممتلكة لهويتها ومصداقيتها، والتي يتوفر لها وضوح النظر وممارسة مؤسساتية منظمة، هي التي تبقى وتستمر في الحضور، مهما واجهتها العثرات أو لفتها الكيانات المصطنعة، لأنها وحدها لديها القناعات والأفكار والرؤى و… الانتماء. ووحدها تبقى إلى جانب البلاد والناس، كما يقع في كل الدنيا وفِي كل التجارب المقارنة منذ عقود.
سياق اللحظة السياسية والمجتمعية يؤكد اليوم أن بلادنا في حاجة فعلا إلى هذه الأحزاب السياسية الحقيقية، أما الأوهام التي روجها البعض في السنوات الأخيرة، فقد ارتطمت بالجدار، ولم ينفعها لا”تخراج لعينين” ولا جر عنتريات فردية لصفوفها ولا إغراءات صناديق المال وممارسات التخويف، والبلاد لن تستفيد شيئا اليوم من تكرار ذات الممارسات البليدة، ولن تؤثر  هذه الممارسات في الأحزاب الحقيقية التي تحيا بمناضليها ومناضلاتها، وبمصداقيتها السياسية والتاريخية، وأيضا باحتكامها الداخلي الدائم إلى السقف التنظيمي الديمقراطي المتفق عليه.
البلاد في حاجة إلى السياسة.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top