«العين» في لوحات الفنانة سعيدة فاتي

> بقلم: د. حميد لشهب
 “بُليت” سعيدة فاتي، المزدادة عام 1982 بالبيضاء، بالفن التشكيلي وهي في الحادية عشرة من عمرها. شاركت في العديد من المعارض الوطنية والدولية ومنها بالخصوص الدورة الثالثة لربيع السلام بأكادير عام 2015، كما اختيرت لوحتها: “موناليزا البربرية” لمعرض روما لسنة 2015.
 تشد عيون لوحات التشكيلية المغربية سعيدة فاتي الناظر لها، بل يحس وكأنها تخاطبه وتحاوره، بل قد “تفشي” أسرار اعتناء الفنانة بها إذا ما أحسن الإصغاء إلى ما تقوله بأذنه الباطنية. وما يساعد على هذا الإنصات هي الألوان التي خصصتها الفنانة لعيونها، والتي ترن في أذن المشاهد كأنغام صامتة، لحنتها ريشة بارعة وعزفت سينفونياتها، لترقص وتتداخل وتتقاطع بإيقاعات مختلفة ومنسجمة.
 تيمة “العين” موجودة عند الكثير من التشكيليين المغاربة، لكن ليس هناك أي فنان أو فنانة -حسب علمنا- استطاع إلى حد الآن الاشتغال عليها بانتظام، كما نجد ذلك عند الفنانة فاتي. فكما تفنن شعراء كثيرون في ثقافات مختلفة في قرض الشعر على العين، تفننت فاتي في تشكيل لوحات، تعتبر العين محورها الأساسي، بكل ما تحمله من دلالات وجدانية ومعرفية. فاللوحة الأولى مثلا هي تعبير ووصف لرمش العين وجفنها وحواجبها لامرأة ما. وإذا كانت العين نافذة للنفس كما يُقال استعارة، فإن عيون هذه اللوحة تلخص بامتياز كل رموز العين تقريبا: وديعة، قوية، متحدية، ساحرة، فاتنة، وهي المس الكهربائي والمغناطيسي، مرآة الأمل إلخ. قد لا يتحرر المرء وهو يتأمل اللوحة الأولى من رنين أبيات نزارق قباني وهو يتغنى بالعين:
“لا أطلب أبداً من ربّي/ إلّا شيئين/ أن يحفظ هاتين العينين/ ويزيد بأيامي يومين/ كي أكتب شعراً/ في هاتين اللؤلؤتين”.
 أما اللوحة الثانية فإنها تحمل في طياتها سوريالية ميتافيزيقية بامتياز، فقد نجحت الفنانة في تقديم ميتا-عين، أي عين في عين، وبهذا بقيت وفية لوظيفة أخرى للعين، بربطها منطقيا بالمعرفة والمراقبة والاهتمام والرغبة. وما هو فائق الأهمية في هذه اللوحة هو هذا النوع من التوافق اللوني، المؤسس على الإدراك الحسي باللون والانفعال بالعلاقات اللونية المختلفة، وعيا منها بأن للون مستويان من الناحية النفسية، أحدهما إدراكى-معرفي والثانى إنفعالى عن طريق إثارة الجوانب النفسية المرتبطة باللون. ولربما تلخص هذه العين أحد أهم الأمثلة الشعبية، عندما يريد المرء التعبير عن حبه ومعزته لشخص آخر عندما يقول له: “دايرك في مومو ديال عيني”، يعني استعارة التأكيد على أهمية هذا الشخص بالنسبة للمتكلم.
 يلمس المرء سمو رمزية العين عند الفنانة فاتي في اللوحة الثالثة، ويتعلق الأمر بالعين الواحدة، الحمالة لدلالات متعددة وعميقة. تحيلنا إلى “حيروس”المصري، إلاه الكتابة والخير والعدل والتضحيّة والشفاء؛ وإلى “العين التي ترى كلّ شيء”، التي تتمثّل عادة كعين محاطة بشعاع من النور داخل مثلّث، كما نجد ذلك على الدولار الأميركي حاليا وكما استعملته الثورة الفرنسية. وهي عين مقتبسة من عين “حيروس” الآنفة الذكر، تبناها العبرانيّون القدماء والمسيحيّون في القرون الوسطى، كرمز للخالق الذي يرى كل شيء. إلا أن عين فاتي تقترب أكثر، بما أنها مفتوحة، من البوذيّة كدليل على اليقظة والحماية الإلهيّة. أكثر من هذا تكتنف المتأمل لهذه اللوحة رعشة صوفية خاصة، لأن هذه العين تحمل مفاتيح حقيقة مخفيّة، سرّ الوجود نفسه. وللوصول إلى هذا، على الناظر للوحة، تجاوز محدوديّة العمليّات الذهنية والفكر والشعور وكل الثنائيات التي تهيمن على نظرتنا للعالم. ففي لحظة صمت، في غمرة لطيفة في بحر الحياة، في نفس منتشية خارج المكان والزمان، تتجلى في ذهن الناظر هذه العين المراقبة والتي لا يمكن مراقبتها، تكشف ارتباطنا الوثيق بكلّ ما هو قائم وما لا يمكن أن نراه على الرغم من أنه موجود: إنها عين الروح، العين المقدّسة بذاتها، التي قال عنها خليل جبران: “العين التي أرى بها الله هي نفس العين التي يراني بها الله”. تسمو إذن هذه اللوحة إلى مستوى صوفي عميق، لا يمكن أن يتوفر إلا في ريشة فنانة، يتهيأ للمرء وكأنها كانت في شبه غيبوبة وجودية، مركزة روحيا وعقليا على ما لا يمكن للعين المجردة رؤيته، بانية قنطرة بين المشاهد وعالم رمزي، غالبا ما تحرمنا انشغالات الحياة وغطسنا في مجتمع استهلاك باهت من الارتباط به روحيا كما يجب. وما يعطي للوحة أهمية خاصة رمزيا هو إثبات الفراشة على طرف العين، ومعلوم أن رمزية الفراشة، لأنها تتحول بعملية طبيعية من يرقة إلى فراشة، هي التحول والنمو الروحي والعقلي الإيجابيين. وبهذا تكون هذه الفراشة دعوة المتفرج على اللوحة لبداية تحول وتطور ذاتيين.
 خلاصة القول، تتعزز تيمة العين في اللوحات المختلفة للفنانة فاتي باستعمالها لألوان يُعتمد عليها كثيرا في الكثير من طرق العلاج النفسي بمساعدة الفن التشكيلي حاليا كالأزرق والأحمر والأصفر والقهوي والأبيض والأخضر إلخ. وفوق كل هذا يمكن اعتبارها دعوة ضمنية أو صريحة “لتصالح” المرء مع عالمه الرمزي وحثه على العودة إلى التركيز والتأمل وإعادة السيطرة على تيهه الوجودي في عالم “مجنون”، له أعين لكنه لا يرى.  فالعين التي ترى ولا تُرى هي رمز لأمل ممكن في رجوع الإنسان إلى ذاته، والخروج من سجن كل المؤثرات السلبية التي تحرمه من إدراك واقعه والعمل على تغييره نحو الأحسن.

Related posts

Top