الكتابة الروائية والوعي بالكتابة في رواية “روائح مقاهي المكسيك”

>   بقلم: محمد اكويندي

بعد كلمة الإهداء، تأتي قولة لقائل مجهول ، تقول: ” إذا أردتَ أن تكتب، فعليك أن تسافر في الدرجة الثالثة من القطارات التي تجوب الأصقاع كل يوم، حتى تتحقق من نفسك أنك فعلا تخالط الحياة الحقيقية”.
(إذا)  هنا، تفيد ظرف لما يستقيل من الزمان متضمنة معنى الشرط.
ففعل الكتابة هنا، مشروطٌ، بشرط السفر في الدرجة الثالثة.. ولا تكون هذه الدرجة الثالثة في بعدها الدلالي والرمزي إلا تراتبية الطبقة الدنيا، الذي ينتمي اليها الكاتب،في هذا العالم الثالث كذلك.  
يمتح عبد الواحد كفيح عرق مادته من قاع المجتمع،و بالذات الهامش…الهامش إذن ليس هو تلك القوى الاجتماعية المرغمة على التحرك ، على قارعة الطريق، بل هو أيضاً تعبير عن مسائل ثقافية وحضارية بالغة الغنى والتعدد، فالبادية والفلاح والعامل والطبقات المتوسطة والفقيرة، والمرأة، قوى هامشية، عمل الإمكانيات المكبوتة والمنسية ، مما يجعل أمر قياس عنفها أمرا صعبا.
 فالمركز بهذا المعنى شيء وهمي، لذلك يتعين مساءلة المركز بالهامش ..فالكاتب يصور هذا الهامش بوعي حاد، ليأخذنا في رحلة عبر القطار إلى عوالم القاع للمجتمع المغربي، وبالأخص الهامش منه، المقصود ( أربعاء الفقيه بن صالح) وذلك في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وهذا التحقيب التاريخي لا تفصح عنه الرواية بطريقة مباشرة، وكما سبقت الإشارة إلى الوعي الفني والجمالي للكتابة عند عبد الواحد كفيح، نجده
يوظف لهذه الحقبة بقضية (شيخ العرب) ص 42. لتحيلنا على تاريخ الأحداث دون الإفصاح المقيت الذي نجده في بعض الكتابات، هذا الوعي بالكتابة، هو ما يجعل جمالية الحكي تشق طريقها معززة بلغة القاع، لتضفي عليها شرعية الصدق الذي يجعل شخوصها تنبض بالحياة، وكذلك المتداول اليومي من لغته لتجعله ( سلطة الرأي العام) كما يقر بذلك رولان بارت:( اللغة الأكثر تداولا تصبح سلطة الرأي العام). إلى جانب هذا نجد أنفسنا في رحلتين مع السارد/ والقارئ للرواية ، في رحلة القطار، ثم رحلة القراءة، وهي حيلة فنية التجأ إليها الكاتب، لسرد روايته، بحنكة المتمكن من أدواته الفنية الواعية بالهم الكتابي لجعله يتحكم كذلك في زمن
السرد بكل الحيل عندما يقطع القطار مسافة الأربعين كيلومترا ، نكون قد وصلنا إلى الصفحة 70.
 وعليه تكون مجمل صفحات الرواية، هو زمن الرحلة. ثم يلي هذا زمن الحكي الذي يتحكم في توقيفه أثناء الوصف وهذا يتضح جليا في الصفحة26 ( هي مقهى ولا مقهى، بناية قديمة، كانت في الحقبة الاستعمارية مستودع لجمع الحبوب، كُوبراتف )، وكذلك تقنية تكسير خطية السرد، أو ما يصطلح عليه بكرونوجية السرد التقليدية، عن طريق التداعي، والتذكر، كما في الصفحة 64 بحيث يدخلنا السارد إلى رحلة أخرى عبر التذكر.. (ذكرني برحلتي تلك، يوم امتطيت القطار كما لو كان اليوم أو ليلة السبت الماضي، من صقلية، أرض الأغالبة في اتجاه البر الثاني من إيطاليا )هذا اللعب بالزمن والتحكم فيه لا يتأتى إلا بالتمرس المكتسب من القراءة والمثابرة والجهد المبذول.
 وإذا كانت تجربة كفيح الروائية هي الأولى، فهي تنم عن وعي حاد، بخبايا وأسرار الكتابة الفنية المتحكم في أدواتها الفنية، ويبدو ذلك من اختياره رحلة عبر القطار، هذا الاختيار كتقنية أغوى كبار الكتاب كما هو ( قطار الصعيد) ليوسف القعيد، وفي رواية
(دم الوعول ) لمحمد عزالدين التازي بحيث كل أحداث الرواية تسرد/ تقرأ من داخل القطار، وليس من المبالغة، إذا كانت هذه التجربة تتفوق على التجربتين المذكورتين من الناحية الفنية العالية، واختيارها لتقنية قراءة رواية داخل القطار، واختيار أحداثها داخل ( مقهى الشعب) كفضاء لمسرحة الأحداث كإطار، أو تابوت يحوي جثة على حد قول خوان مياس، وتذكرنا هذه الرواية برواية محمد ديب ( الدار الكبيرة ) وكذلك ( وكالة عطية) لخيري شلبي، ونعني بهذه الإشارة لرواية المكان بامتياز، تبقى رواية روائح مقاهي المكسيك حكاية لطفل وشمت حياته بحدثين، أولهما الختان،
كجرح أو وشم لن ينمحي أبدا من ذاكرة الطفل، وكذلك جلوسه على هذا القضيب من طرف الفقيه وهو في سن التلقين للقرآن الكريم، وكأن هذا القضيب المتمثل في القلم، والذاكرة في الصفحة البيضاء التي تمثله هو، ليروي لنا هذا الوشم، أو ما خط عليها من مجريات أحداثه منذ ولادته التي تسببت له في( عقدة الذنب) على وفاة أمه الأصلية كما كان يتوهم بكبر رأسه، ويبقى جرح خثانه كجرح نازف بالإحداث المتعاقبة، هو جرح كل عربي كما جاء في مؤلف عبد الكبير الخطيبي، ومؤلف المستشرق الألماني ، أبناء ابراهيم في عهد الله، كون الخثان ميثاق بين الله وإبراهيم في خثان أبنائه.
 تبقى تجربة عبد الواحد كفيح الروائية إلى جانب تجارب أخرى فرضت نفسها في الآونة الأخيرة، موفقة بوعي الكتابة الواعية في كتابة الرواية فنيا وجماليا.

Related posts

Top