رواية “هوت ماروك” والبناء النصي للثيمات والعوالم

تقدم رواية “هوت ماروك” للكاتب والشاعر المغربي “ياسين عدنان”  مادة حكائية وثقافية مهمة تستند إلى مرجعيات مختلفة، سواء تلك الخاصة بالواقع السياسي للمغرب المعاصر كما يتجسد في سلوكات وتدبير الأفراد والمؤسسات، أو تلك المتعلقة بالواقع الإعلامي وما يشوبه من ضعف وانحراف وغيرها. وقد تم التمثيل السردي لما تطرحه من ثيمات معاصرة بجماليات الكتابة الروائية التي أخلص لها الكاتب باقتدار لافت، دون أن يسقط في التسجيلية أو محاكاة التاريخ الموسوعي لمراكش الحاضرة، و لكن بالبناء الفني لمراكش جديدة بوصفها فضاء تخييليا حاضنا، يتشكل بشكل دينامي ويتحرك في معتقدات السارد والشخصيات والقراء على حد سواء.                                     
 وتضم الرواية، على مستوى توزيعها الكاليغرافي، ثلاثة فصول أولها “الفراشة في طريقها إلى المسلخ” وهو اقتباس حرفي لاسم الديوان الأول لشخصية الشاعر “وفيق الدرعي”. أما الفصل الثاني فعنوانه “السنجاب يدخل العلبة الزرقاء” ويحيل على مغامرات “رحال العوينة” في دواليب العالم الافتراضي، لتُختتم الرواية بفصل أكثر دينامية وسخونة وهو “الكوميديا الحيوانية”، وهو يحاكي الواقع السياسي المغربي بعين ساخرة. ويضم كل فصل أقساما مرقمة بمثابة دفقات حكائية تحقق إيقاعا نفسيا وقرائيا متوازنا، ينتظم في إطار نسيج زمني تغلب عليه الخطية، باستثناء بعض التقطعات.           
 وبالنظر إلى مدلول هذا النص الروائي، يمكن القول بأنه يتبنين وفق ثلاثة مستويات:                     
1- مستوى ثيماتيكي يروج لمضامين سواء بشكل تصريحي مباشر مرتبط بالدال الخطابي السطحي، أو بشكل تضميني يعتمد استراتيجية ترميزية أو استعارية في طرح تناظرات دلالية عميقة.
2- مستوى سردي جدلي يضع المضامين في مهب الصيرورة الحدثية، من خلال أفعال ووظائف  تتعالق بين الشخوص إن بشكل توافقي أو بشكل صراعي، وتتنامى وفق زمن خطي، لا ينفك يسنن معطيات الموسوعة السياسية والتاريخية للمغرب الحديث، بحيث يمكن مفصلته إلى بنيتين بارزتين:  بنية العهد السياسي للملك الراحل، وبنية العهد السياسي للملك الجديد.
3- مستوى حواري ليس بالمفهوم الباختيني المؤدي إلى التناص، ولكن بمفهوم “راستيي” الدال على منظورات السرّاد والشخصيات، وهي المنظورات المنصوص عليها في اللغة، والمنشئة للعوالم الواقعية والممكنة سواء كانت متوافقة متجانسة أو متعارضة ومتصارعة.
 تدبّج عتبة العنوان (هوت ماروك) معمار الرواية وهي مزودة بجرعة حداثية على مستوى المعجم والتداول. وتحيل في دلالتها الداخلية على الترجمة الفرنسية لعبارة “المغرب الساخن”، وهي عنوان موقع الكتروني إخباري يصور المغرب المعاصر بأحداثه وتحولاته، وصراع شخوصه وأفراده حول مواضيع قيمة مثمنة بحسب الرؤى و المصالح و التحيزات. وإذا كان هذا العنوان مؤولة تنشط مدارا مستقطبا لأهم دلالات الرواية، فإنه يفتح بالمقابل أفقا رحبا للقارئ لتوقع الجولات الاستكشافية –بتعبير إيكو- التي ينشئها مع سيرورة القراءة. هكذا نكتشف بعد الانتهاء من قراءة “هوت ماروك” أن  تناظرات النص وثيماته الفرعية تفيض عن عنوانه متراوحة بين الوفرة التصريحية أحيانا، والتكثيف الرمزي الدال في أحيان أخرى.
 يضيق فضاء مراكش ليصير محلا صغيرا للإنترنت، لكنه لا يعدم قيمة كونه فضاء إشكاليا منفتحا على العالم، وكونه الحيز الذي تذوب فيه وتتعايش شرائح مجتمعية متباينة في تصوراتها وأهدافها ورؤاها للواقع، وإن كان قاسمها المشترك هو المعاناة الناجمة عن قهر السياسة ومكائدها التي تجعل منها في آخر المطاف كراكيز مغيبة تعبث بها أياديها الخفية. غير أن القمع سيفجر، بالمقابل، ردود أفعال ابتكارية ناقمة تجاه الآخر أفرادا ومؤسسات. ويعدّ نموذج “رحال العوينة” خير مثال على ذلك، فهو يلجأ تارة إلى الوشاية الكاذبة ضد عدوه اللدود الشاعر “وفيق الدرعي”، ويلجأ تارة أخرى إلى استعمال شخصية “أسماء” افتراضيا تحت اسم “هيام” للانتقام من “عماد القطيفة” (غير الحاصل على الباكلوريا) وتطليقه من زوجته، ناهيك عن عمالته ضمن جيش إلكتروني سري– يضم شخصية “نعيم مرزوق” أيضا-  لجهات في الدولة ذات أهداف ومصالح غير معلنة، وذلك بهدف تنميط الرأي العام و توجيهه باصطناع أخبار وأحداث ومطارحات افتراضية زائفة. وقد برزت هذه الوسائط أيضا  كوسيلة للإرهاب الديني من خلال شخصية “محجوب أبو قتادة” المحرضة على الجهاد، وهي الشخصية التي تناولها النص بكثير من السخرية خصوصا في موضوع إيميل المعجزة .
 تتعالق الثيمات السالفة الذكر لتنسج واقعا سياسيا فاسدا يشتغل بمنطق الانتهازية و”الغاية تبرر الوسيلة”، الذي يعشعش ثقافيا في ذهنية الأفراد والمؤسسات سواء كانت أمنية أو مدنية أو حزبية أو غيرها. وهنا نستحضر نزعة المناورة ممثلة في التضحية بإمبراطور العقار “مهدي آيت الحاج” بتجميد عضويته في حزب الأخطبوط، وتدبير مسرحية اعتقال “نعيم مرزوق” لتلميع صورة الدولة. ولئن كان الأخطبوط يحيل معجميا على فصيلة من الرخويات متسمة بالذكاء و المكر وتعدد الأذرع أو المجسات، فإنه يشكل بتلك الرمزية القرين الحيواني الأمثل لحزب متنفذ وعميق ومتعدد الأذرع يمتلك مقدرات الدولة، ويرسم خرائطها السياسية والثقافية والاجتماعية وفق ما يخدم أجندته واستمرارية مصالحه. هذا، وقد رصدت الرواية بعين فنية عميقة التحولات الاجتماعية والثقافية الطارئة على مراكش من خلال ظواهر الفراشة والترييف وقطع الأشجار والتنقل والنظافة وانتشار ثقافة الاحتجاج وغيرها.          
 وقد توسل بناء نسيج ثيماتيكي متماسك للنص بقيم التعدد اللغوي، وهو توجه اختلافي منفتح على مجمل السجلات والخطابات اللغوية التي تم تسنينها في البنى الدلالية للنص. هكذا وقفنا على لغة الخطيب السياسي، ولغة المناضل المحتج لحقوقه المهدورة، ولغة التنظيمات الطلابية الصاخبة، ولغة الإسلامي المتشدد، وغيرها. وعلى سبيل تفتيق هجنة النص تم التوسل بأسلبات مختلفة باستحضار لغة الشعر ولغة المقال الصحفي ولغة النشر والتعليق بالعالم الافتراضي وما يتعلق بها من معجمات مستحدثة.
 ولاشك أن “هوت ماروك” قد راهنت في بناء عوالمها على أسلوب السخرية والبناء البارودي، وذلك من خلال نماذج اجتماعية سياسية مختلفة، لعل أهمها نموذج “البشير المرابطي” المرتحل من حزب “اليد في اليد” إلى “البلشون” إلى “الطاحونة” ثم “الأخطبوط”، وكذا الصراع الحامي الوطيس بين حزب الأخطبوط وحزب الناقة في موضوع صفقة عربات الحلزون، والتوظيف البشع للدين في السياسة من خلال فتوى حزب الناقة بتحريم أكل الحلزون لأنه من الخبائث، ولأنه حشرة خنثى.
 إن العوالم الممكنة المؤثثة لـ”هوت ماروك” ليست حالات لتحققات الواقع أو ارتهانات لمشترك موسوعي متواضع عليه، وإنما هي –كما يرى أمبرتو إيكو- بناءات ثقافية، أي مادة للتعبير اللغوي والإنتاج السيميائي. وبهذا الشكل نفهم بعض عناصر الموسوعة الجغرافية والتاريخية المؤثثة للرواية كمراكش وجامع الفنا وحي المسيرة وشارع الداخلة وشارع محمد الخامس وشارع فرنسا وشارع جليز والمسرح الملكي وعين إيطي، وشخصيات من قبيل الحسن الثاني واسماعيل أحمد وهيام يونس، وأحداث فيضانات أوريكة سنة 1995، وبعض محطات التاريخ السياسي المغربي وغيرها، بوصفها معطيات موسوعية لا تدلّ بمعزل عن  التخييل وشروطه اللغوية، ولكن من خلال تكوينية نصية تستحث القارئ على الجمع بين المعرفة اللسانية ومعرفة العالم. فإذا كانت هذه العناصر تتحدّد من خلال الموسوعة فإن ما تحتضنه من أحداث وشخوص هي كيانات فائضة لا تتحدّد من خلال الموسوعة ولكن من خلال العناصر السابقة. هكذا إذا كنا نتلمس مراكش من خلال ظلال الواقع، فإننا لن نستطيع فهم شخصية “رحال العوينة” من خلال الواقع، ولكن من خلال مراكش بما هي بناء فني للواقع.
 إن العالم الممكن لشخصية “رحال لعوينة”، على الرغم من طابعه المرجعي النصي، يضعنا أمام إشكالية ما يعرف بالموقع التلفظي، وذلك من خلال التداخل العوالمي بين نسخ “رحال العوينة” التي تتمظهر وفق مستويين بارزين :
1- مستوى نصي: يوجد بين دفتي الكتاب وشخصية “رحال العوينة” فيه ورقية لا غير. نعثر فيه على رحال كما هو في العالم الممكن للسارد، أي الرجل الحاصل على الإجازة في الأدب العربي، والمتزوج بـ “حسنية”، والذي يدير محلا للإنترنت وغيرها من العناصر المؤسسة للعالم. غير أننا نعثر ضمن هذا المستوى على رحال آخر وهو المتنكر تحت أسماء الكترونية مختلفة، والمؤدي لأدوار مختلفة ومتناقضة.
2- مستوى موسوعي: يوجد ضمن عالمنا الواقعي المتعين، ونعثر فيه أيضا على رحال الافتراضي بوصفه شخصية فايسبوكية، لكنها هذه المرة موجودة فعليا على حسابات أغلب القراء، رغم ما قد يحدسه هؤلاء تجاه وجوده ضمن هذا العالم من شكوك استعارية. كما نعثر ضمن هذا المستوى على رحال الواقعي الذي هو شخصية من لحم ودم ترتبط عضويا بالشخصية السابقة، وهو رحال ابن مدينة مراكش كما نعرفهما ضمن الموسوعة الراهنة. و لا شك أن هذه اللعبة السردية التي ابتكرها الكاتب “ياسين عدنان” تؤدي من خلال تقنية التداخل إلى أسطرة هذه الشخصية، وخلق الحماس والدافعية لدى القارئ لمحاولة القبض عليها سواء في النص(الرواية) أو الموسوعة (الواقع)، وذلك لبناء تأويل محكم لعوالمها الممكنة.
 إننا نتلمس السعي إلى تغريب العوالم ليس مع شخصية “رحال العوينة” فحسب، ولكن ضمن ما يعتري منظور هذه الشخصية وتأويلها للشخصيات الأخرى عبر فكرة القرين الحيواني. فهو يستضمر عالما حيوانيا طبيعيا يتمثل من خلاله مختلف الشخوص الأخرى عن طريق قرائنها الحيوانية، وهي فكرة بقدر ما تعلي من قيم الصراع والغريزة، وفكرة القبيلة أو المحمية التي يتسيد فيها كل عنصر من خلال طوطمه الخاص، الذي يفرده ذاتيا وسلوكيا عن باقي العناصر الأخرى، بقدر ما تومئ إلى ضمور العقل وفكرة المؤسسة المبنية على التعاقد والتعايش والاختلاف البناء والاعتراف بالآخر. إنه صراع بين غرائز طبيعية مستحكمة تروم الفتك بالآخر وبين مواضعات ثقافية هشة، لذلك جاءت أغلب أفعال “رحال العوينة” ومواقفه مكبوتة وخاملة، لا تكتسي فعاليتها إلا في الحلم أو خفية في المراحيض أو على صفحات الفضاء الالكتروني، وهي سلبية يمكن إسقاطها على ذهنيات سائدة عريضة.
 وعموما، بقدر ما تحتفي رواية “هوت ماروك” بشخصياتها الحكائية ضمن معمار فني وجمالي مبتكر ومحكم، بقدر ما تراهن على ذكاء القارئ في فك مستغلقاتها وبناء عوالمها، وذلك بما يجعل من هذا الأخير-كما يرى إيكو- قارئا تعاضديا يخرج آلة النص من خمولها وكسلها إلى حيويتها وحياتها.
 >   بقلم: خاليد القاسمي

الوسوم , ,

Related posts

Top