كتاب “منحلة (تادارت إنزركي) بإيداوزيكي”

قليلة هي البحوث أو الدراسات لتي تؤرخ لمعالم ثقافية وقرى منزوية في الأقاصي والهوامش وبين السفوح والجبال، باستثناء مجلدات “المعسول” الشهيرة لكاتبها العلامة المختار السوسي والتي تناولت أصقاع المجتمع السوسي بمختلف تجلياته وخصوصياته.
أطل علينا هذه المرة الباحث عبد الله أزيكي بكتاب “منحلة تادارت إنزركي بإيداوزيكي..الذات، الحقل الثقافي، التاريخ” تبعا لسلسة كتب أغنت الخزانة المغربية.
ورصد الكاتب أزيكي هذه المرة أحد معالم سوس الجميلة من جوانب سوسيولوجية وأنتروبولوجية وتاريخية، مقاربا المنحى اللساني والبعد الإبستمولوجي لمفاهيم المنحلة والنحلة والعسل أي “تادارات” و”تزويت” و”تامنت”.
وتعتبر معسلة أو منحلة ” إنزركي” “بمنطقة تادارت إنزركي” معلمة حضارية وثقافية شاهدة على تأقلم قبيلة إيداوزيكي مع المحيط ومع جغرافية الطبيعة ذات المسالك الوعرة.
وبإصرار وعناد تحدى الكاتب إكراهات جمة لإخراج هذا العمل الرصين يتجلى أهمها في “غياب الوثائق لتوفير الدلائل، والمستندات الضرورية، وضبط الثوابت المادية والمعنوية في المكون الثقافي والاعتبار التاريخي، قصد الإقرار بالتحديد السليم والواضح لوضعية تادارت إنزركي بقبيلة إيداوزيكي. والإقرار بالخاصية الوظيفية لنظام المعسلة المماثل بنيويا الإطار الإجمالي لنظام قبيلة إيداوزيكي”.
واعتمد الباحث في دراسته على الرواية الشفاهية كمستند أساسي لتحديد الإطار المرجعي للموضوع، “رغم العوائق والصعوبات المساهمة في خلخلة الحقائق الموضوعية، وكذا في تحريف بعض المستندات عبر الإبداع والتقويم والتعبير الشفاهي للراوي. وكذا تغيير أهداف مسار الخطاب وفق تحقيق أهداف المصالح الإيديولوجية أو المصالح المنفعية الخاصة. مع العلم أن هذا الخطاب يتعرض للنسيان أو التحريف أو للتأويل، كما يعرض مضامينه ومحتوياته إلى التحريف أو التعدد”.
وساهم الباحث عبد الله أزيكي في توفير الإطار المرجعي، والمصدر الإعلامي لأهل القبيلة ولأهل البحث الأكاديمي، إذ يعد الكتاب دراسة معلمة حضارية وثقافية لقبيلة إيداوزيكي، عبر معسلة (منحلة) إنزركي “تادارت إنزركي”..
وأفاد الباحث عبد الله أزيكي في مقدمة الكتاب أن “خلف المسكوت عنه عبر حركات أحواش وسلوكات اللعب ومعتقدات العادات والمعاملات، والعلاقات بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والأرض، أو بين الإنسان والوسط… خلف هذه المسكوتات يبوح العلم والبحث والأكاديمي بصوت عال وهادف، لأجل إظهار المخفي، وإعلاء المكبوت، وإبراز المسكوت”.
ويقول الباحث إزيكي” يرتبط موضوع الاهتمام بمستوى تقدير مجهودات العلماء والباحثين في مختلف المجالات، ومختلف التخصصات لكشف المسكوت عنه، أو لحسن استنباط الأحكام، أو لحسن استخلاص أبعاد الأغراض، أو لجدية تحديد مبادئ التدبير، وصيانة المعطيات الفكرية والفنية والمنهجية في العمل الإبداعي وفي الاستدلال البرهاني سواء على مستوى الذات الفردية أو الذات الجماعية. وكذا على الإقرار بفعالية القيم الأخلاقية والاجتماعية للإنشاد بكمال الذات الإنسانية”.
وقال الدكتور محمد حنداين، مقدما للكتاب، إن مؤلف الأستاذ ازيكي عبد الله “منحلة تادارت انزركي” يعتبر فريدا في موضوعه وفي مضمونه. وبذلك يشكل بالفعل تراكما معرفيا متميزا يضاف إلى ما قام به العلامة محمد المختار السوسي في دراسته للمجتمع السوسي. فالمؤلف عمد الى الإحاطة بالموضوع من كل الجوانب ابتدء بالطوبونيما والدلالة، مرورا بالإطار التاريخي للمنطقة والجوانب الثقافية والمعمارية، مركزا على علاقة الانسان الأمازيغي بالنحل، ومستعرضا التعامل الطقوسي معه.
وأضاف حنداين أن المؤلف شيق للغاية ولئن كان موضوعه منصبا على منطقة محددة وعلى موضوع محدد وهو المنحلة، فإن الموضوع يطرح مجموعة من التساؤلات ومجموعة من الملامسات البحثية لمجتمع يراد له ان يكون مغلقا يعتمد اقتصاد الكفاف، ومع ذلك ففقد استنبط طرقا حضارية راقية في خلق التسيير الذاتي، بعيدا عن أعين السلطة المركزية، محققا توازنا إيكولوجيا بين الإنسان والطبيعة، محافظا على نظمها الإيكولوجية انطلاقا من معارفه التقليدية وتجاربه الميدانية. ونتساءل مع المؤلف هل استطاعت هذه النظم أن تتكيف مع تيارات العولمة والتحضر المتوحش؟
ويضيف حنداين “وأنا استمتع بقراءة بحث الأستاذ ازيكي أتذكر بحثا اخر من نفس الطينة، وهو بحث جاك بيركJacque Berque حول قبيلة سكساوة الذي يناقش ويحلل نفس الظاهرة مع فروق منهجية وتحليلية. ظاهرة البنية الاجتماعية لمجتمع جبال درن (الاطلس الكبير الغربي). تلك البنية الاجتماعية التي تتاسس على قاعدة القبيلة المتماسكة والتي ساعدت هذا المجتمع على الحفاظ على ثقافته ولغته ونظمه الاجتماعية المتسمة بالتوازن بين المطالب الاستهلاكية للانسان والتوازن الطبيعي. ذلك أن من خلال منحلة انزركي نلاحظ مدى هذا التوازن بين استمرار المنحلة عبر أزمنة وحقب تاريخية وبين استفادة الإنسان الانزركي من منتوج النحل من العسل واعتباره سلعة تجارية تضمن له التسوق وشراء حاجيته من مواد اخرى دون استنزاف الثروة العسلية ودون إرهاق مجتمع النحل”.
“إن هذا التوازن وهذه المعارف التقليدية هي التي يفتقدها المجتمع بجبل درن والمغرب بصفة عامة، مما يجعل الطبيعة تفقد توازن انطلاقا من استنزاف الثروات الطبيعية ومن تم الإخلال بذلك التوازن الذي حافظ عليه الأجداد للأحفاد. وهو ما نلاحظه حاليا من استفحال ظاهرة التغير المناخي وتدهور التنوع البيولوجي، مما أثر على المناحل في جبال درن باعتباره مصدر الثروة العسلية المتميزة للمغرب كله والمتسمة بجودته وأصالته فعسل “تازوكنيت” معروف داخل المغرب وخارجه.
ان اختلال هذا التوازن اليوم بين الطبيعة والانسان هو الذي حدا بالمجتمع الدولي للاهتمام بالدور الفعال للمعارف التقليدية لحماية التنوع البيولوجي والتوازن الطبيعي، ومقاومة التغير المناخي، فأصدر عدة توصيات خلال مؤتمرات وقمم دولية سواء تلك المتعلقة بالتغير المناخي او تلك المتعلقة بالتنوع البيولوجي توصي بالأخذ والرجوع الى المعارف التقليدية للسكان الاصليين قصد الحفاظ على التنوع البيولوجي ومقاومة التغير المناخي، الذي أضحى مصدر تهديد للإنسان والكون.
لذلك فإن مؤلف الأستاذ ازيكي يأتي في السياق المناسب ليدلنا على أن الاهتمام بمنحلة انزركي ما هو إلا صيحة موجهة للباحثين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين على الانتباه إلى ضرورة حماية الثروة الطبيعية للمنطقة وللمغرب كله وذلك عبر الاهتمام بالإنسان وثقافته ومعارفه المتعلقة بالتعامل مع الطبيعة. وما أجمل وما أبلغ مثال علاقة الإنسان بالنحل”.

 محمد التفراوتي

Related posts

Top