كفى بؤسا

منذ بضعة أيام، كنت جالسة أمام التلفاز وأقلّب المحطات بملل، وإذ بالفيلم الكلاسيكي للمخرج أورسن ويلز “المواطن كاين” يُعرض على إحدى المحطات.

كانت هذه أول مرة يقع نظري عليه منذ أكثر من 25 سنة، وكنت آنذاك طالبة جامعية أتخصّص في الإعلام المرئي سينما وتلفزيون، تذكرت كم أتعسني هذا الفيلم يومها، مُتسائلة لماذا على كل الأفلام المعروفة في تاريخ السينما أن تكون بشكل عام الأكثر تعاسة، أم أن القيّمين على المواد والأفلام المُدرجة للدراسة ساديون/مازوشيون يريدون أن ينغصّوا علينا حياتنا، وكأن الحرب الدائرة آنذاك لم تكن كافية؟

كان من ضمن تلك الأفلام، كل أفلام انغمار برغمان القاتلة بكل ما تعني الكلمة من معنى والعديد من الأفلام التي تنتمي إلى الانطباعية الألمانية المنخورة بالأسئلة الوجودية.

طبعا، مع مرور السنوات اكتشفت أن كل أشكال الفنون ونتاجها الأكثر أهمية تنطلق من حزن ما، حزن يتحوّل، إن جاز التصنيف المُبسط، إما إلى ثورة على هذا الحزن أم انغماسا أكبر فيه.

كانت المفارقة أنني بتُ في السنوات العشر الأخيرة أكتب عن معارض فنية، أهمها بالفعل، تلك المرتبطة بحزن واضح أو دفين بغض النظر عن التقنيات والأنماط التعبيرية المتنوعة.

تابعت، ربما، مشهدين من فيلم “المواطن كاين” وأدرت إلى محطة أخرى، مُمتعضة من ذكراه في نفسي ومُتسائلة كما في أول مرة شاهدته: ما هو المُصاب الجلل الذي دفع بأصحاب القناة أن يمتحنوا الصحة النفسية للناس بهكذا فيلم، بالرغم من روعته الإخراجية والتصويرية، في زمن يغصّ بالخيبات والمتاعب الاقتصادية والأمنية؟

باختصار شديد، تدور أحداث الفيلم حول حياة الملياردير تشارلز كين في صيغة إخبارية تروي حياته حتى لحظة وفاته التي نطق فيها بكلمة غامضة، خلال الفيلم بحث المراسل الإخباري جيري تومسون عن معنى تلك الكلمة والتي اتضح في آخر الفيلم أنها الاسم الذي كان يطلقه تشارلز على زلاّجته الخشبية التي كان يلعب بها صغيرا على الثلج، قبل أن يُنتزع من أهله الفقراء الذين رضخوا للتخلي عنه ليعيش، بالنسبة لهم، حياة أفضل على الرغم من السعادة التي كان يعيش فيها الصبي في كنف عائلة مُحبة وفي جوّ بيت يعمّ فيه السلام والألفة.

لا أخفي، بأن المثابرة على مُشاهدة هكذا أفلام خلال السنوات الجامعية وتفكيكها تقنيا ورمزيا وفنيا جعلتني قادرة على تحييد “مأساوية” أي فيلم من الأفلام من مجرد رؤيتي للقطة الأولى، كما جعلتني أستفسر دائما عن نهايات الأفلام التي أود أن أشاهدها قبل أن أقرّر مشاهدتها، بهذا السؤال الساذج “هل للفيلم نهاية سعيدة، أم حزينة؟”، مع العلم أنه ليس أهم الأفلام هي تلك التي تركز على سرد القصص والمغامرات، بل تلك التي تطرح تساؤلات وتقدّم حالات وأفكار شأنها كشأن كل الأعمال الفنية، كما حرمتني الرغبة في عدم مشاهدة أفلام “حزينة” من رؤية أعظم الأفلام في تاريخ السينما المعاصرة، أدرك ذلك تماما.

الوضع يختلف تماما مع الفن التشكيلي وغيره من الفنون البصرية، إذ هناك فسحة تأويل شخصي أكبر، كما باستطاعتي دوما، حتى الآن على الأقل، أن أعثر في معظم الأعمال الفنية حتى في تلك التي تترنح تحت زخات من مطر الشقاء، على تلك الفراشة الفذّة الضاحكة التي بمقدورها أن تحيك في فضاء العمل الفني مساراتها الذهبية مهما كانت ضئيلة، وأن تصطبغ كليا بالضوء من دون أن تحترق به.

كفا بنا حرقات ولوعات ولنحاول جاهدين، على الأقل من خلال الفن، أن لا نشرّع نوافذنا الداخلية إلاّ على حدائق بطولية نجت من كل الحرائق كي نستطيع أن نتابع حياتنا ونواصل أحلامنا المستحيلة منها والقابلة للتحقق، كفى بنا بؤسا.

 ميموزا العراوي

الوسوم ,

Related posts

Top