خلف جدران البيوت وأبوابها المغلقة حكايات كثيرة، قلوب تئن من الشكوى دون صوت، ونفوس تتشوق لطعم الراحة والهدوء في زمن عزت فيه الراحة وكثرت فيه الشكوى والآلام. وبالرغم من هذا كله يتربص الكثيرون بهذه الحياة يريدون مثلها، يشتاقون لاغتصاب ابتسامة صورية طبعت على شفاه حزينة ربما اتخذت من ابتسامتها ستارا ليتوارى خلفه حزنها الدفين الذي تمنع عزة النفس من البوح به.
مهلا فقد لا تعلمون بقية تفاصيل الصورة وما تحمله الحياة التي تتمنونها عند الغير من أوجاع وحزن، فربما يحمل ظاهر الصورة الخارجية الملونة باطنا أكثر قسوة ووجعا وإيلاما.
لي قريبة رائعة الجمال، ممشوقة القوام، ويعمل زوجها في مهنة من المهن الراقية، حيث يشغل أحد المناصب المرموقة برغم صغر سنه ولها طفلان متفوقان دراسيا، حياة اجتماعية وظروف مادية رائعة وشديدة الرفاهية بكل المقاييس. هذا ما يتصدر المشهد بالطبع. حيث يظن الجميع أنها امرأة بلا مشاكل.
ولكن الحقيقة التي لا يعلمها غير بعض أقاربها وأصدقاء الأسرة المقربين في حدود ضيقة، أن الطفلين مصابين بمرض نادر، طفرة جينية أصابتهما، والعلاج لا يتوافر إلا خارج البلاد وبتكلفة عالية للغاية تفوق طاقتها المادية، ونسبة الشفاء منه مغامرة بكل المقاييس، نجاحها ضرب من الخيال، فلا تفلح غير المسكنات التي تسكت الألم بعض الوقت أو تخفيه وتختزنه في جسديهما، لكنها لا تقدم الشفاء ولا تحمل الحل.
وتسهر الليل تتابع ضربات قلبيهما خشية مهاجمة إحدى النوبات لهما غفلة، وقد لا يمهلها الوقت لإسعافهما في حينه، قد تحرمها لذة النوم إنقاذ طفليها، لذا تضطر لهجر فراشها أياما طويلة، يكحل السهر عينيها وحول العينين بلون أسود داكن، تخفيه أحيانا بالكريمات، وأحيانا أخرى تعجز عن إخفائه.
يتآكل جسد الطفلين أمامها وهي صامتة في عجز تام، أصابها الحزن على طفليها بمرض السكري اللعين، الذي قضم من أعصابها الكثير، وألزمها بمصاحبة حقن الأنسولين كالصديق الإجباري السخيف، تسير وفي حقيبة يديها “صيدلية متنقلة” تحمل بعض العقاقير والأدوية والحقن لها ولأبنائها، حتى الزوج لم يسلم من أعين المتلصصين على وسامته ومركزه الاجتماعي المرموق، وأناقته التي تخفي الكثير، فهو لا يستطيع إنقاذ طفليه ولا يستطيع إنجاب غيرهما فقد حرمته رياضة الفروسية وسقوط مباغت من فوق ظهر حصانه من الإنجاب، وأشياء أخرى!
في جلسة وسط بعض زميلات الدراسة القدامى قالت لها إحداهن: ما أروع طفليك، أتمنى مثلهما في الهدوء والرقة والعذوبة، فعلى عكس الجميع لا يلعبان ألعابا خطرة تقلقك عليهما، مطيعان إلى أقصى درجة، جسدك الممشوق ووزنك المثالي، وهذا الزوج النادر الوسيم، ما أسعدك صديقتي؟
ليت لي حياة مثلك، فابني مشاغب للغاية، وزوجي دائم الشجار من أجل حقوقه الزوجية حتى جسدي ترهل كثيرا بعد الزواج والإنجاب، أشعر أنني امرأة بائسة للغاية.
قالت قريبتي، طفلاي لا يلعبان ألعابا خطرة حقا، ولكن لا يلعبان ألعابا بسيطة، هما محبوسان في جسديهما، لا يملكان متعة المغامرة حبيبتي بسبب المرض وعدم القدرة على بذل مجهود، قوامي الممشوق نتيجة الإصابة بمرض السكري الذي حرمني الكثير من المتعة، أما زوجي الذي تغار مني النساء على حبه، فالطبع هن لا يعلمن كم عبث معي ومعه القدر؟
وكم من المتع التي حرمنا إياها ليمنحنا أخرى يسيل لعاب البعض عليها. صديقتي كم أتمنى أنا حياة بسيطة، يلعب فيها طفلاي بألعاب بسيطة، يمرحان، يتسابقان، يغترفان من المتعة ومن الحياة، كم أتمنى أن أقضم قطع الشوكولاتة المحلاة، وبعضا من الحلوى والعصائر دون حقن وألم.
أترين أحلامي بسيطة للغاية؟ لكنني لا أستطيع تحقيقها، رضاء بالقدر لا أشكو، ولا أبث أحد همومي حتى لا أزعجه، ولا أسمع منه الكلمة المعادة “معلش” ليقيني أنها لن تغير الظروف والقدر، أرضي بما قسمه الله لك صديقتي، ودعيني أرضى بقسمتي أنا الأخرى، ولكن إن كنت ترغبين في رزقي فخذيه كله، هنيئا لك.
وفي مداعبة فيسبوكية نشرت قريبتي صورة لقدح من الشاي الذهبي يتصاعد منه البخار، وقالت من يريد فنجاني اللذيذ فليعلم أن مذاقه مر، بلا تحلية، فنجاني لمرضى السكري.
هذه الحقيقة لا يدركها الكثيرون فدائما خلف أبوابكم، وخلف بابي هموم لا يتحملها غيري، فمن أراد شيئا من حياتي، شيئا من رزقي فليأخذه كله جملة واحدة، مره قبل حلوه، تعبه قبل راحته، حزنه قبل مرحه، مرضه قبل صحته، شقاؤه قبل متعته، فالحياة لا يمكن تجزئتها.
> ربيعة الختام