الحسابات الختامية للنظام الإيراني في العراق

قوات أميركية راجلة تحركت مع حماية جوية بمحاذاة منطقة الغابات في الشارع المحاذي لنهر دجلة وبتعداد لا يتجاوز الفصيل في مهمة انتهت بالصعود إلى سطح فندق أوبروي الموصل الذي يصلح للرصد والمراقبة. تخلل حركة تلك القوات القليلة العدد توقف بعض القادة العسكريين من الجانب الأميركي مع قادة عراقيين لمشاركة أبناء الموصل البسطاء حياتهم اليومية وتناول الشاي، كما حصل عند ظهور القوات الأميركية لأول مرة في شارع المتنبي برفقة قادة أمنيين من العراق أيضا بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لقاعدة عين الأسد واحتفاله مع قواته بأعياد الميلاد.
تكرر المشهد في الفلوجة وكذلك في مدينة خانقين التي عانت مؤخرا من نزوح لا يستهان به من العوائل الكردية باتجاه إقليم كردستان، وخانقين من المدن المتنازع عليها والخاضعة للفقرة 140 من الدستور، وهي قريبة من الحدود مع إيران ضمن محافظة ديالى وعانت كثيرا في الحرب الإيرانية العراقية، بل إنها كانت مدينة المحاججة بالنسبة للعراق في إدانة النظام الإيراني على بداية عدوانه في 4 سبتمبر 1980 لتعرضها إلى سلسلة هجمات بالمدفعية استمرت لغاية 22 سبتمبر من ذات السنة، أي في اليوم الذي بدأ فيه الجيش العراقي الرد على العدوان الإيراني.
مؤشرات الظهور العلني للقوات الأميركية وعلى طريقة الومضات بتاريخ ومكان متباينين، وفي جغرافيا محددة ومختارة، تعيد إلى أذهان العراقيين والمتابعين منهجية الخطة العسكرية الأميركية لاحتلال العراق، وملخصها عدم الاشتباك بمعارك تقليدية مع القوات المواجهة وتجنب الخوض في قتال حاسم، والاكتفاء بحركة قطعات مجولقة في مناطق غير متوقعة، أحيانا في ظهر القطعات لإرباك المعنويات وخطط غرف العمليات والأهم التشكيك في الاستحضارات القتالية وأهميتها الميدانية.
الرسالة الأخرى لتجوال القوات الأميركية أنها تجري بالتنسيق مع القوات العسكرية في العراق وبإدارة إعلامية دقيقة الأهداف وهادئة تتعامل مع دولة مستلبة يمكن أن نطلق عليها هيكلية الدولة في كل نظام سياسي سيادي ومستقل. دولة مستلبة من دول موازية تمثلها العقائد والميليشيات والفساد والمافيات ومعظمها تدار، بما فيها البناء المركزي للدولة، من قبل النظام الإيراني بنفوذه المتحقق في البرلمان وهيمنة السلاح “الشرعي” والمنفلت بامتلاكه للموارد العامة وكيفية الاستملاك والاستحواذ وقدرات النفاد من القوانين السارية في القضاء الذي تشوبه تهم الميول السياسية والإذعان للتهديد أو الترغيب.
لكن ما هذا التناقض في تصرف القادة في القوات النظامية وتصرف الحشد “الشعبي” بإعلانه التصدي للقوات الأميركية ومنعها من التجوال في الموصل، وما سبق ذلك بيوم واحد من إحباط عملية تحضير لإطلاق صواريخ موجهة تستهدف القوات الأميركية في قاعدة عين الأسد، رغم أن الحشد يتذرع بالانصياع إلى أوامر القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء، وفق ما جاء في نص القانون المشرع تحت قبة البرلمان الذي تتنازعه هذه الأيام هَبّة “وطنية” مباغتة لتشريع قانون آخر يقضي بسحب جميع القوات الأجنبية من العراق، بما فيها طبعا القوات الأميركية، انطلاقا من رؤية يتبناها غلاة المشروع الإيراني ترى عدم وجود مبرر لتواجد هذه القوات بعد القضاء على تنظيم داعش في الموصل.
التقارير الإخبارية والاستخبارية والوقائع على الأرض تؤكد أن تنظيم الدولة يستعيد نشاطه داخل العراق بسلسلة من العمليات الإرهابية وكذلك على الحدود ما اقتضى، إضافة إلى عوامل سياسية مستجدة، تحريك واستبدال الفرق القتالية في كركوك وتجديد المراقبة على الحدود التي تتداعى فيها الهجمات وتتنوع الاستهدافات والإستراتيجيات الدولية والإقليمية بما يضع القرارات السياسية، ومنها قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا، موضع المناورة بمدى ما تتيحه من قراءة نوايا اللاعبين الأساسيين في الساحة السورية ورمالها غير المستقرة المتصلة بالعراق.
لماذا لم يصدر من الحشد العقائدي وقادة الميليشيات أي تنديد بالقادة العسكريين العراقيين المرافقين للقوات الأميركية في تجوالها؟ هل هي بداية تنبيهات متلاحقة لميليشيات الحشد بتفاوت مستوى الإرادات السياسية قياسا إلى اختلاف مستوى التسليح، بما في ذلك المقارنة بين الدولة العظمى في العالم والقدرات التسليحية لإيران إن بالترويج لصواريخها الباليستية أو برنامجها النووي الذي وضعها على المحك مع شعبها ومحيطها ومع الإرادة الدولية والعقوبات الأميركية.
حكومة العراق تلجأ إلى الصمت في انتظار تفاهمات أعمق مع الولايات المتحدة أو بانتظار ما سيجري في البرلمان أو من احتمالات اللجوء إلى إرادات المرجعيات المذهبية التي قد تتدخل في تهدئة جموح الميليشيات، على الأقل ما يخص الميليشيات المقلدة لها، من الانغماس في الدفاع عن ولاية الفقيه بصفتها المرجعية المذهبية للعدد الأكبر من الميليشيات في العراق.
الميليشيات بدت عليها ملامح الانقسام بعد استفحال من ينتمي منها إلى مرجعية المرشد علي خامنئي، وتجاوزها لحد هدر دم المواطنين العراقيين الذين يرفضون المد الإيراني على حساب هوية العراق الوطنية. حتى الميليشيات غير الخاضعة في مرجعيتها لولاية الفقيه يبدو أن لها، أحيانا، صوتا تلتبس عليه مفاهيم الولاء المطلق لملالي طهران بحيث سمحت تلك المفاهيم لبعضهم بإطلاق النار على رجل أكاديمي من أهلنا في مدينة كربلاء تجرأ بشجاعة على نقد الميليشيات ومراجعها الإيرانية.
من سخرية التمدد الإيراني في جسد الأمة العربية أنه يستبدل مشروع هلاله المتخم بجرائم الفتنة الطائفية بالاستعداد للدعوة إلى الهلال الكهربائي في محاولة لتدعيم وجوده الاقتصادي باعتبار الاقتصاد لا يثير الحساسية كالميليشيات والتسليح ويمكن أن يكون نافذة تتسلل منها السياسات الإيرانية.
لم يجد النظام الإيراني غير التوجه إلى دعم الشبكات الكهربائية في العراق ومشروع نقل الطاقة إلى سوريا عبر الأراضي العراقية في خطوة يعتقد النظام أنها استباقية قبل تنفيذ القرارات الأميركية المتعلقة بمنع استيراد العراق للطاقة من إيران بعد فترة سماح بثلاثة أشهر، وفي وقت بدت فيه البدائل العربية أكثر عمقا في صداها وجدواها في انتزاع العراق العربي بهدوء من مشروع التدمير والموت الإيراني.
الحسابات الختامية تلقي عهدة جرد جرائم النظام الإيراني طيلة 40 سنة على عاتق الشعوب الإيرانية وتصاعد مقاومتها بما يتعالى من أصوات الاحتجاجات الشرسة ومدى وأبعاد الصراع الأميركي الإيراني ونهايته المفتوحة على كل التوقعات، وإن كان أقربها إذعان النظام الإيراني إلى طاولة حوار بعد تصعيد يترك مساحة لمبررات تراجع أو كأس سم تعود عليه الملالي لهضم عقدة الهزيمة، لكن من بين أسئلة الحسابات ما يخص العراقيين تحديدا على اختلاف توجهاتهم ومهامهم ومسؤولياتهم وما تعرضوا إليه، يتعلق بكيفية رؤيتهم للصراع الأميركي الإيراني على أرضهم ومن زاوية أعمق تتأمل في المدن العربية المدمرة ومصير صراع الوجود بين أمتنا ومشروع ولاية الفقيه بعدّه التنازلي.

حامد الكيلاني

Related posts

Top