أزمة الخليج مع قطر ذاهبة إلى حلّ. كثيرة هي الإشارات، التي تعطي هذا الانطباع دون أن يُرفد هذا الأمر بأي مواقف رسمية واضحة.
كثيرون اعتبروا أن مشاركة السعودية والإمارات والبحرين في بطولة كأس الخليج لكرة القدم والمعروفة بـ”خليجي 24” (تبدأ في 26 من نوفمبر الجاري في قطر)، مؤشر لا يمكن إلا التمعن بأبعاده. في ذلك وجاهة ربما. لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من التأمل وبحث تفاصيل أخرى.
لم ينف نائب وزير الخارجية الكويتي، خالد الجارالله، أن في الأمر علامة من علامات الوفاق، وأنه “مؤشر إيجابي” نحو حل الأزمة الخليجية. لا يصدر الموقف صدفة، ذلك أن الكويت هي البلد الذي تولى رسميا، من قبل الخليجيين كما من قبل العواصم الكبرى المعنية بشؤون المنطقة، مهام الوساطة بين قطر والدول العربية الأربع (السعودية، مصر، الإمارات، البحرين) التي أعلنت قرار المقاطعة في 5 يونيو 2017.
قبل ذلك، ونهاية شهر أكتوبر الماضي، قال أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في خطاب في مجلس الأمة إنه “لم یعد مقبولا ولا محتملا استمرار خلاف نشب بين أشقائنا في دول مجلس التعاون”. ذهب الأمير إلى اعتبار أن الخلاف الذي اندلع قبل نحو عامين ونصف “أوهن قدراتنا وهدّد إنجازاتنا، الأمر الذي یستوجب على الفور السمو فوق خلافاتنا وتعزيز وحدتنا وصلابة موقفنا”.
لكن كل ذلك لا يعتبر كافيا للحديث عن مسار لإنهاء الخلاف. سبق للكويت، أميرا ومسؤولين، أن كررت الدعوة إلى الصلح وإنهاء النزاع على نحو متسق مع مهمة الوساطة. وسبق للخليجيين المتنازعين أن تشاركوا في حضور فعاليات دولية، ومنها خليجية، لاسيما اجتماعات مجلس التعاون الخليجي، دون أن يكون لتلك الظواهر أي انعكاس أو مرونة في حيثيات الخلاف وعناوينه.
توحي أجواء الكويت أن أعراضا ما تعيد تفعيل وساطتها. الجارالله، نفسه، ووفق وكالة الأنباء الكويتية الرسمية، كشف أن “هناك خطوات أخرى” و”أننا نسير في الاتجاه الصحيح للوصول إلى النتائج الإيجابية”، فيما وسائل إعلام قريبة من الدوحة تحدثت بدورها عن علامات أخرى توحي بتبدل ما.
أشارت هذه المنابر إلى أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وجه برقية تعزية لرئيس الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، بوفاة الشيخ سلطان بن زايد. روت أيضاً أن الأمير القطري وقف لعزف النشيد الوطني البحريني خلال مباراة كرة يد جرت بالدوحة في أكتوبر الماضي، وزادت منابر الإعلام تلك أن الخطوة قوبلت بإشادة واسعة من قبل مغردين بحرينيين وسعوديين أيضا. نشرت المنابر أنه بعدها بأيام، استقبلت جماهير السد القطري، لاعبي الهلال السعودي بالورود، أمام أنظار أمير قطر، في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال آسيا.
لا يهم ما تفيض به صحافة هذا من ترحيب وصحافة ذاك من تشكيك. وقد لا يهم ما إذا كان ذلك الانفراج “الرياضي” مقدمة لانفراج سياسي قادم. ما يهم فعلا هو أن ما يناقش وراء الكواليس لدى دول الخليج الست الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي، يكشف عن إدراك لتحولات المشهد الإقليمي، كما التحولات الدولية الكبرى. بدا أن شيئا ما يفرض على دول المنطقة إعادة التموضع وفق قواعد جديدة قد تكون قد اختلفت عما كانت عليه قبل سنوات.
عُدَّ “اتفاق الرياض” بين الحكومة الشرعية في اليمن والمجلس الانتقالي نموذجا جديدا للكيفية التي تقارب بها السعودية والإمارات مسائل الأمن في المنطقة. شكّل الاتفاق أرضية اعتراف بالمعضلات وقاعدة لعلاجها. وفي ما صدر بعد ذلك عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من أن الاتفاق سيفتح الطريق أمام تفاهمات أوسع تنهي الأزمة اليمنية ويمثل خطوة نحو الحل السياسي وإنهاء الحرب في اليمن، ما لفت المراقبين إلى تحولات في العقيدة التي باتت معتمدة لحل الأزمات الإقليمية الكبرى.
بدا أيضا أن توجه نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى سلطنة عمان ولقائه السلطان قابوس في مسقط، مؤشر على مقاربة جديدة قد تكون مسقط طرفا فيها في ملفات متعددة، منها اليمن وإيران، وطبعا قطر. وبدا أيضا أن حديث صحافة الكويت عن أن زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل أيام للإمارات قد تناولت مسألة إنهاء الخلاف مع قطر، يحمل في طياته تسريبا من الكويت قد يعتد به لرفد الحدث ببعد إضافي آخر.
على أن فكرة مجلس التعاون الخليجي تاريخيا قامت على ضرورة تفرضها الحاجة إلى الأمن الجماعي ضد الأخطار المشتركة. يشعر الخليجيون هذه الأيام بأنهم يواجهون هذه الأخطار، وهي تخصهم جميعا، ليس بالضرورة بأشكالها الواضحة المباشرة، بل أن في تقلبات المشهدين الإقليمي والدولي ما يدفع بهم إلى إعادة قراءة المواقف الإستراتيجية وفق أبجدية أخرى.
جرى أن الأزمة بين واشنطن وطهران قد تأخذ أشكالا، سواء في جانبها الدراماتيكي أو في ذلك التسووي، قد تكون خاسرة لكل دول الخليج. وجرى أن لغة الحوار بين إيران ودول الخليج بدأت تروج لدى طهران كما لدى عواصم المنطقة. وجرى أيضا أنه إذا كانت طهران تعتبر أن مفتاح الصلح الخليجي الإيراني يكمن في اليمن، فإن الخليجيين، جميعا، يعملون على تسوية تنهي الصراع في هذا البلد بما ينزع من إيران ورقة ضغط تمارسها على أي طاولة مفاوضات محتملة بين إيران والخليج.
تعود دول الخليج لإيمانها الأول بأن أمنها جماعي، وأن هناك حاجة لإعادة رصّ الصفوف ووضع حاجز أمام أجندات خارجية تخترق الجدار الخليجي. أدرك الجميع أنه لا يمكن التعويل دوما على الغرب والولايات المتحدة لتوفير أمن المنطقة، وأنه لا يمكن بالضرورة التعويل على السلوك الميكافيلي لدونالد ترامب، بالذات، في مقاربته السوقية لشؤون الدول الست.
وفي الصراع المتصاعد بين الصين وروسيا والولايات المتحدة تبدو منطقة الخليج ميدان التناتش المقبل. تبقى المنطقة، على الرغم مما يحكى عن انكفاء أميركي، هي الأهم في العالم في شؤون الطاقة والجغرافيا السياسية. ومن يقبض على الخليج يقبض على العالم. وفق تلك النبوءة يفرض الأمر على أهل المنطقة مزيدا من المناعة والحصانة والوحدة.
تبدو اللحظة مواتية للعبور نحو إنهاء الخلاف. سيمر أمر ذلك بجدل كبير، وربما مباشر، لإعادة بناء البيت الخليجي وفق قواعد أخرى لا تسمح بتساهل أو تسيب أو تجاوزات قادت إلى هذه القطيعة. وتبدو المرحلة الماضية مليئة بالدروس، التي تفرض على قطر قبل غيرها أن تعيد قراءة ما تغيّر في هذا العالم وما طرأ على مزاج أهل الخليج أنفسهم.
لن يمرّ وفاق خليجي محتمل دون العبور بورشٍ جريئة تشيّد موقفا جماعيا واضحا من إيران وتركيا والإسلام السياسي. لن يعوز الخليجيون الحصافة والمخارج الخلاقة من أجل ولادة، قد تكون عسيرة، لحلّ ما.
محمد قواص صحافي وكاتب سياسي لبناني