الناقد الأدبي المغربي صدوق نورالدين
* لا علاقة تصلني بما هو افتراضي.. أعشق الورقي قراءة وأحلم باستمرار أن يكون كتابي ورقيا
بمناسبة الدخول الثقافي، توجهنا بأسئلتنا إلى مجموعة من الكتاب المغاربة، ومن أجيال مختلفة للحديث حول إصداراتهم وحول المتابعة النقدية وأفضلية الكتاب الورقي عن الرقمي، إلى غير ذلك من القضايا. اليوم مع الناقد والروائي صدوق نورالدين.
ما هو أحدث إصداراتك؟ وكيف تعرفنا عليه و تقربنا من محتواه؟
< أعتقد أنه من الصعب تحديد “أحدث إصدار”. فالإنتاجات موزعة بين إحدى الدور المغربية، وعربية خارج الحدود. لا أعرف (من / ما) يمكن أن يصل منها بداية. إذ كنت تعاقدت ودار أردنية على إصدار كتاب عن الدكتور عبد الله العروي روائيا. الكتاب يشمل بالنقد والمتابعة المسار الإبداعي للعروي كروائي (الغربة ، اليتيم، الفريق، أوراق، غيلة والآفة)، وككاتب يوميات (خواطر الصباح في أربعة أجزاء) إلى المؤلف المسرحي( رجل الذكرى). وكما تعلم فهذا النص المسرحي ألحق برواية “الغربة”. إذ أن معظم ما كتب عن الرواية من نقد وبحث تجاهل المسرحية وهي جزء من بناء أدبي إبداعي. وأمثل بما كتبه: ( إدريس الناقوري، أحمد اليابوري وغيرهم). و أضفت في ختم الكتاب ملحقا أدبيا أناقش فيه الآراء الأدبية و النقدية المعبر عنها من طرف الأستاذ العروي في حوار “من التاريخ إلى الحب”. وسمت الكتاب بـ “عبد الله العروي بين التمثل الذاتي وصورة العالم”. فهو كتاب شامل عن التجربة الإبداعية في محاولة فهمها وتأويلها. ولا أخفيك – وبكل تواضع و موضوعية – أني كنت أول مبادر للكتابة عن رباعية الروائي عبد الله العروي في كتابي “عبد الله العروي وحداثة الرواية” (1994). هذا الكتاب تجوهل من ناحية وتحقق سلخ محتوياته، وهو ما سأكشف عنه في مذكرات قيد الاكتمال.
وأما الكتاب الثاني الذي أترقب صدوره بالتزامن والدخول الثقافي الجديد، فيرتبط بالروائي، القاص، الشاعر والمترجم محمد زفزاف. و اخترت عنونته بـ ” كتاب محمد زفزاف”. وهي عنونة قصدية من منطلق أن الكتاب في الجوهر والحقيقة يتشكل من ثلاثة كتب. الأول عبارة عن مذكراتي مع الراحل زفزاف. و تبدأ من (1977) و تنتهي في (2001). وسمت المذكرات بـ “كان كاتبا كبيرا.. كبيرا”. وأتطرق فيها إلى حكي علاقتي به، والظروف والمعاناة التي مر بها ومنها. ومن المؤسف التي كان من خلفها أدباء ومثقفون. تخيل على سبيل المثال، أنه لم يكن يستدعى لكثير من اللقاءات الأدبية العربية التي تدور وقائعها في المغرب. والمفارقة، أن من الروائيين العرب من يصر على زيارته. تذكر أنه لم يظفر بجائزة المغرب للكتاب، ولا بتلك الجائزة الكبرى التي كانت تعطى عن مجموع الأعمال وهو الأولى سواء بالأولى أو الثانية. لقد كان رحمه الله تعالى يردد وباستمرار: “سيذكرنا التاريخ”. وهو ما كان وإلى اليوم. وأما الكتاب الثاني فهو الجزء الأول من الرواية التي كتبتها عنه: “الروائي”.. وكان قدم لها القاص والروائي الأردني الراحل إلياس فركوح. بينما الكتاب الثالث هو الجزء الثاني من الرواية “الغائب”. وأتخيل فيه عودة زفزاف إلى الحياة.
سيصدر الكتاب عن “دار أكورا/ طنجة”. وأتوقع أن يثير ردود فعل أدبية و ثقافية قوية، خاصة في الشق المتعلق بالمذكرات، من منطلق كونه يتضمن حقائق جد مثيرة.
وأترقب الإصدار الثالث من مصر “دار أروقة”. ويتعلق بالتساؤل حول ما إذا كانت رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل البداية التأسيسية لجنس الرواية عربيا. وأنزع ضمن الكتاب للفصل، بحكم أن الرواية فن أوروبي ارتبط بالمدينة وحياة الفرد، إلى سيادة الحداثة كتحول عقلاني مدني وديمقراطي. وكما ترى من خلال العرض، من الصعب تحديد الإصدار المتوافق والدخول الثقافي الجديد. إلا أن ما يجدر الانتباه له / إليه، بالنسبة لي وغيري، كون فكرة التأليف تتخلق من القراءة. إذ لا كتابة من دون قراءة، من دون الإنصات لأصوات كتاب ومؤلفين سبقونا للكتابة وللتأليف. فهؤلاء بالتأمل، المقارنة ومحاولة الفهم و التأويل، يوحون لنا بأفكار جديدة تستدعي البحث والدراسة والتأليف. فكم من الأفكار، وكم من الرغبات التي تقتضي إيلاءها الاهتمام والتفكير. ولكن، يبقى “العمر غفلة” كما عبر ميخائيل نعيمة. مرة قلت لابني يوسف: “اسمع لن أموت إلا بعد تأليف مائة كتاب”. فأجابني: “يا أبي أدعو لك بطول العمر”. وأحب ختم السؤال الأول بما أورده المفكر والأديب المصري الراحل جلال أمين كتبرير لتأليفه الجزء الثالث من سيرته الذاتية “مكتوب على الجبين” استنادا للروائي الكبير نجيب محفوظ:
“يعجبني التشبيه الذي استخدمه نجيب محفوظ في إحدى مقالاته القصيرة، و التي كتبها ( أو أملاها) قبل وفاته بسنوات قليلة. قال إنه في حياته الآن، وفيما يقوم بكتابته، يشبه الشخص الذي استقل القطار ذاهبا إلى الإسكندرية، وقبل وصوله للمحطة النهائية، وقف به القطار كالعادة في المحطة الشهيرة “سيدي جابر” وهي تقع داخل مدينة الإسكندرية نفسها، ولكنها ليست المحطة النهائية، التي يفصلها عنها نحو خمس دقائق. عند وصول القطار إلى محطة “سيدي جابر”، يبدأ الركاب في جمع حقائبهم المتناثرة، فإذا كانوا يقرأون كتابا أو مجلة، فقد يتوقفون عن القراءة، ولا يخطر ببالهم أن يبدأوا شيئا جديدا، إذ ليس هناك من الوقت ما يسمح لهم بإتمامه إذا بدأوه”.
كنت أشعر بشيء شبيه بذلك، عندما فكرت في كتابة هذه الحكايات. فالشروع في كتابتها ليس بدءا في عمل جديد، بل هو بمثابة لملمة وتنظيم لأشيائي القديمة. يهمني الآن ألا أترك في القطار شيئا مهما، ولكن حتى إذا فعلت، فإني أظن أن في هذا الذي جمعته ما يكفي وزيادة”.
> هل ذلك يعد امتدادا لإصداراتك السابقة أم أنه يشكل قطيعة معها؟
< يتحدث الروائي التركي “أورهان باموق” في كتاب له عن “الروائي الساذج والحساس” (دار الجمل/بيروت). ولا يثير هذا التقسيم إلا بالارتباط بعملية القراءة. وكأني به يؤكد كما ورد في تقديم الكتاب عن “القارئ الساذج” و”القارئ الحساس”. يقول عن تجربته في القراءة، وبالضبط عن القارئ الحساس فيه: “بكل حماس ووفاء لهذه الأمنية قرأت روايات بين سن الثامنة عشرة والثلاثين. كل رواية أقرأها، وأنا جالس مذهولا في غرفتي في اسطنبول، كانت تمنحني عالما غنيا بتفاصيل الحياة مثل أي موسوعة أو متحف، مثل غنى البشرية مثل وجودي، مليئة بالمطالب، المواساة، الوعود التي يقارن عمقها وسعتها مع تلك التي وجدت في الفلسفة والدين. أقرأ الروايات كما لو أني أحلم، أنسى كل شيء من حولي، من أجل جمع المعرفة عن العالم، من أجل بناء نفسي وتشكيل روحي”.
فما يصدر عن “باموق” إنما هو الرؤية الفلسفية للذات القارئة في علاقاتها العميقة والمقروء. والأخير يعلمنا كيف نبدع، نتخيل ونضيف، علما بأن كل إضافة بمثابة امتداد واستمرارية. وبالنسبة لي تحديدا، تعلمت وأتعلم من القراءة. وأواصل محاولاتي في الإبداع والإنجاز في الحقل ذاته (رواية، سيرة ذاتية أو غيرية، يوميات، مذكرات و غير هذه الأجناس إذا حق). قد أكون أضعت وقتا غفلت فيه عن الإطلاع على الآداب العالمية، لولا أني تداركت، بالرغم من سعة الآداب والثقافات العالمية. ولذلك تحدث “خورخي لويس بورخيس” عن تسعة كتب شكلت وعيه الأدبي ورؤيته إلى العالم. وهو بالدقة ذاتها تحديد “ميلان كونديرا” في حديثه، حواراته، كتاباته عن “جويس، كافكا و بروست”، ثلاثي الحداثة الروائية في الغرب.
قد ترى بأني أفهم الامتداد كاستمرار، ولكن وعلى السواء كتنويع. فالثابت النقدي في محاولاتي الكتابية التركيز على عبد الله العروي ومحمد زفزاف، علما بأني كلما جددت قراءتهما اتضحت جوانب لا يمكن الغفل عنها. وأما تنويعا، فسوف أفاجئك بالقول: إني أوشك أن أنهي كتابا عن صنع الله إبراهيم من خلال نصوص روائية لم يعرها النقد الأدبي الأهمية المطلوبة.
إنني في هذه السن ورغم متاعبي وقساوة الظرف، أقرأ بمتعة وحب وأكتب بانتظام لأني قد أعجز في القادم من الأيام عن حمل القلم. أختار فيض كتبي وقلة هم أصدقائي. أكاد أقول بأني لا أجالس بين فترة وأخرى سوى صديقين. ألم يقل أبو حيان التوحيدي ما معناه “فلا صديق ولا من يشبه الصديق”.
> ما مدى المتابعة النقدية لما تنشره من إصدارات؟
< ترد في الجزء الأول من يوميات “غمبروفيتش” مبدع رواية “فيرديروكه” إشارة إلى مقالة كتبها شاعر بولندي يتحدث فيها عن “الأدب البولندي” و”الأدب في بولندا”. هذا الفصل الدقيق استهواني كثيرا. فالحديث عن الأدب المغربي الحديث، حديث عن تحقق فكري ونقدي وترجمي في الداخل والخارج بداية، إلى الحد الذي جعل المشارقة – كما تعلم – ينفون قوة الإبداع عن المغرب، وهو ما تأكد لاحقا – وبخاصة – على مستوى الكتابة الروائية. والمؤسف، أن قيمة التحقق انتفت لعوامل من أهمها:
1/ الموت الذي طال بعض المفكرين تحت طائل المرض، أو التقدم في السن.
2/ التوقف عن الكتابة باعتبار أن ما أنجز لن يتحقق ما هو أقوى منه.
3/ الجحود وعدم الاعتراف. إذ برز إلى الوجود جيل آفاقي همه الكسب مهما تعددت السبل، وليس التحصيل المعرفي والإضافة الإبداعية.
فالعامل الثالث، هو السائد في الظرفية الراهنة. ذلك أن من يؤنسون في ذواتهم صفة (باحثين)، ينزعون -كما سلف – إلى السطو على جهود الآخرين والتحايل عليها بأساليب مختلفة. تخيل أن باحثا سيصبح يوما ما دكتورا في الآداب، يؤلف رسالة عن إبداع عبد الله العروي يعتمد على مقالات متفرقة ويؤسس رؤيته النقدية بالاستناد إليها، ولا يشير بالمطلق إلى كتاب جامع عن الرباعية. وتمثل ناقدا وباحثا يركز على موضوعة الفقدان واليتم، دون الإشارة إلى جهود نقدية سابقة. لنفترض أن هذه الأخيرة دون المستوى، فما العيب لو تحقق ذكر النواقص والهفوات بغية تداركها. وأستحضر صورة باحث يعتقد بأنه المخول الوحيد للكتابة في / عن إبداعات عبد الله العروي وكأنه “ملكيته”. هذا الأخير وبغاية الكسب المادي السريع أقدم على تجميع مادة عبارة عن دراسات دعا لها من شاء ومن خارج المغرب حتى (من المفارقات أن من هؤلاء من لا يعرف حتى عناوين روايات عبد الله العروي، ولا يدرك -ومنهم الباحث نفسه- ما إن كانت خواطر الصباح تقع في أربعة أجزاء و ليس ثلاثة) وأغضى عمن أنجز محاولة سابقة في الفهم والتأويل. والمؤسف ثانية، أن تأتي الحظوة من خارج المغرب وليس من داخله وهو ما أشار إليه الأستاذ العروي في تدخل له، إذ أشار بأن الاهتمام به مفكرا أو مبدعا أقوى في تونس مثلا عنه في المغرب. وهذا صحيح جدا.
وأريد في هذا المقام شكر الأساتذة: محمد معتصم، شكير نصر الدين، لحسن احمامة وشعيب حليفي على جهودهم في الكتابة عما أنجزته سابقا. وأيضا الأستاذ سعيد يقطين الذي تفضل بتقديم كتابي “عبد الله العروي وحداثة الرواية ” لحظة صدوره، في دورة من دورات معرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء. و أما الحديث عن الأدب في المغرب، فموضوع آخر.
وأختتم هذا السؤال بالقول ما دمنا بصدد مسألة التلقي: إننا نقرأهم، لكن هل يقرأوننا؟
هل تفضل أن يكون إصدارك القادم ورقيا أم رقميا؟
< يذكرني هذا السؤال برواية “زوربا” لليوناني “نيكوس كزانتزاكيس”. وبقدر ما يذكرني، يجعلني أستحضر
مقالة تأملية للقاص والصحافي الراحل عبد الجبار السحيمي (مؤسف المغاربة لا يذكرون موتاهم من الكتاب والمبدعين والشعراء) نشرها في مجلة “المجلة” السعودية أيام زمان، وبالضبط في الصفحة الأخيرة وعن الرواية ذاتها. قال بأن في هذه الرواية فيلسوفان: فيلسوف بالمعرفة ولا يحيد عن القراءة. وفيلسوف بالتجربة، بالارتباط بالواقع. الأخير في محاورته الأول يخاطبه: “أيها الفأر يا قارض الورق”. هذا الفأر بالتحديد هو أنا. فلا علاقة تصلني بما هو افتراضي. أعشق الورقي قراءة، وأحلم باستمرار أن يكون كتابي ورقيا. وبحكم السن، وانتمائي لجيل يغرق في عشق رائحة الورق، وتأمل جسم الصفحات وقد صفت عليها فقرات بعضها طويل وآخر قصير. وأبلغ قمة انتشائي ولذتي وأنا ممدد على الفراش أقرأ كتابا وأمسك قلم الرصاص بالتحديد، وأسطر على جمل أتذوقها و فقرات أرددها مرات ومرات إلى حد حفظها. أحيانا – بل غالبا- ما لا أتمنى مفارقة كتاب همت في حبه وعشقه. أتمنى لو تمتد لحظات قراءتي له. لو أنه يغدو الزمن كله والوجود في مطلقه. ولا أخفيك بأني أعاني من صعوبة الانتقال: فأن أنتقل من قراءة رواية عالمية إلى عربية، فإنه يصعب علي عبور الجسر. وهو ما لا يحدث حال الانتقال من تجربة عالمية إلى ثانية كذلك. فكم من الورق ينتظرني. وبات يلزمني عمر ثان لأواصل قراءاتي الورقية.
ولي في الختم أمنيتان:
– الأولى أني أطلب من إدارة جريدة “البيان”، تجميع افتتاحيات الزعيم الراحل الأستاذ علي يعته. في كتاب.
– و الثانية على حزب التقدم والاشتراكية، و تتمثل في ضرورة ترجمة وتعريب مذكرات علي يعته. فما أحوجنا لمذكرات الساسة الجادين بالقول و الفعل.
> إعداد: عبد العالي بركات