“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.
ملالا يوسف زاي.. المُناضلة الأصغر سنا التي وحدت الأمة الباكستانية وأرعبت حركة طالبان
النضال الطفولي في الدفاع عن حقوق الأطفال المهمشين وحق الفتاة في التعليم
في تغريدة لها على الموقع الاجتماعي تويتر نجدها تغرد وتدعو المُشاركين في مؤتمر المَانحين لسوريا بتخصيص مليار وأربعمائة مليون دولار سنوياً لتعليم الأطفال في جل بقاع العالم بمن فيهم الأطفال السوريين وعلى مدى السنوات الثلاثة المقبلة، فأرادت أن تجعل بذلك كل الأطفال السوريين قادرين على التعلم حتى تحولت تغريدتها إلى رسالة رسمية موجهة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومنحها بعد استقبالها في البيت الأبيض الحصول على خمس وستين ألف توقيع بعد أن أجلسها رفقة ابنتيه اللاتي عدتا رفقة ملالا الباكستانية المراهقات الأكثر تأثيراً في العالم.
كابوس أغضب الظلم
يقول ألبرت إنشتاين “..إن العيش في هذا العالم، ينطوي على خطورة كبرى، ليس بسبب هؤلاء الأشخاص الذين يمارسون الشر، ولكن بسبب الذين يقفون جانباً ويتركونهم يفعلون ذلك..”، وهو قول ربما يَتجسد لنا بالطفلة الباكستانية (ملالا يوسفزاي) التي أخذ المَوت يبدو قاب قوسين أو أدنى منها وهي لم تزل طفلة تلهو وتلعب مع أبناء جيلها الهائمين في قسوة العيش والحرب والمُعاناة، فدعوتها الصريحة للدفاع عن الأطفال وحق الفتاة في التعليم في مسقط رأسها باكستان لم تلق آذاناً صاغية لدى أولئك الأشخاص الذين غطوا أنفسهم في عباءات بائسة، مدججين بلحى وأسلحة وشر مستطير عناصره الجهل والجهالة والنزعة العمياء، يطاردون فتيات غضات طريات العود كلما توجهن عبر الحافلة نحو المدارس من أجل العلم والمعرفة، من أجل النور والفرح والبهجة والنعمة، يطاردونهن مستهدفين إياهن بالرصاص الحيّ القاتل وببرودة الموتى التي أوقفت نبض الحياة في أجسامهم وعطلت ناقوس الضمير في عقولهم، لا لسبب سوى لرفضهم العلم والمعرفة على الأطفال البائسين الذين لا حول لهم ولا قوة، يتسللون في الصباح والغروب هاربين إلى مدارسهم وبيوتهم دون أن يتسلل إليهم الخوف القادم من رصاص أصحاب النزعة العمياء المدججين بالأسلحة والشر المستطير، لكن القدر سيمنح طفلة واحدة القوة حتى تنكس أعلامهم وتفضح جهلهم وبؤسهم، إنها الطفلة الباكستانية (ملالا يوسف زاي) التي حاولت طالبان اغتيالها بإطلاق الرصاص عليها ظهر يوم التاسع من أكتوبر 2012 وهي في طريقها نحو مقاعد العلم والمعرفة، فحاولوا بذلك اغتيال الطفولة وحقوق الفتيات في التعليم فكان حليفهم الفشل، وحليفها الحياة والنجاة والعودة من الموت لتكون كابوس يغضب ظلمهم..”.
مدونات الطفلة الحكيمة
يروي جمال الخليل في تقديمه لترجمة الكتاب (أنا ملالا) الذي حمل السيرة الذاتية للطفلة الباكستانية التي أبهرت العالم في نضالها مع أطفال موطنها باكستان الذين يتجرعون مراراة الحرمان والجوع ويتعرّضون للقتل والأساليب الوحشية ويُحرَمون من حقوقهم في التعليم بالقول “… لم تكن الطفلة (ملالا) قد تجاوزت عامها الحادي عشر عندما بدأت تكتب في 2009 على مدونة باللغة الأردية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) مُنتقدة أعمال العنف التي يرتكبها عناصر طالبان الذين كانوا يحرقون مدارس البنات ويقتلون مُعارضيهم في وادي سوات وفي المناطق المُجاورة منذ 2007، وهو العام نفسه والعمر ذاته الذي سيشهد فرض طالبان سيطرتها الكاملة على وادي سوات الباكستاني شمال غربي البلاد حيث مسقط رأسها (ولدت ملالا يوسفزاي يوم الثاني عشر من يوليو 1997) بعد اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة مع قادة طالبان، ولم تكن معارضتها لطالبان قائمة على فلسفة سياسية غامضة، بل كانت تملك من الأسباب المعيشية ما يدفعها لمعارضة هذه الحركة، فقد كانت الفتاة ترغب في الحصول على بيئة آمنة وحرّة لاستكمال الدراسة في مدرستها بعدما أحرقت الحركة مدارس الفتيات واحدة تلو الأخرى في مدينتها الصغيرة، لكن المعارضة العلنية لطالبان كانت بالغة المُجازفة، وبالأحرى ربما تكون قاتلة، فقد كانت طالبان تعدم كل معارضيها دون خوف من سلطات تنفيذ القانون، وفي ذلك الوقت كانت الإعدامات العلنية والاغتيالات وعمليات الاختطاف أمرا شائعاً، حينها أقنعت الطفلة نفسها بعدم الوقوف مكتوفة اليدين وهي تشاهد كل هذه الفظائع تمر دون فضح مرتكبيها، فبدأت بالتدوين على خدمة (بي بي سي) باللغة الأردية وباسم مستعار حمل (غول ماكاي) عبرت من خلاله عن المخاوف التي تنتاب المواطن العادي في ظل سيطرة طالبان الكاملة على الوادي، وكان موضوع حرمان الفتيات من التعليم في “سوات” هو الموضوع الأكثر هيمنة على تدويناتها، وفي هذا أخذت تكتب في يناير 2009 قائلة: روادني حلم مخيف لطائرات الجيش وطالبان، هذه الأحلام تراودني منذ انطلاق الحملة العسكرية في “سوات”، كنت أخشى من الذهاب إلى المدرسة لأن طالبان أصدرت قرارات بمنع جميع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة، كنت من بين إحدى عشر تلميذة من أصل سبعة وعشرين يذهبن إلى الفصل الدراسي، وكان العدد آخذ في التراجع بسبب قرار طالبان.. في طريقي من المدرسة إلى المنزل كنت أسمع رجلا يقول لي دائما: سوف أقتلك، كنت أسرع الخطى، وما أثار ارتياحي هو أن الرجل كان يتحدث في هاتفه الجوال، ولا بد وأنه كان يُهدد شخصا آخر..، وعلى الرغم من أنني كنت طالبة في الصف الخامس في عام 2009، لكنني قرّرت نقل هذه المَخاوف التي تعانيها الطالبات إلى العالم الخارجي، لهذا السبب أرشدني أبي إلى كتابة يومياتي على (بي بي سي) بانتظام ونقل مشاعر زميلاتي وجاراتي اللاتي تعرضن للإرهاب..”، وبقي جلّ كلامها يُعبر دائما عن مُعاناة الأشخاص النازحين بعد الهجرة إلى شانغالا عندما شنت الحكومة العملية العسكرية لتطهير المنطقة من المقاتلين، وفي هذا تكتب تقول “..كنت خائفة من مُشاهدة صور الجثث المَشنوقة في “سوات”، لكن قرار منع الطالبات من ارتياد المدارس كان صادماً بالنسبة لي وقرّرت الوقوف ضد قوى الرجعية”، وتابعت قائلة “..كان من المُؤلم بالنسبة لي ولزميلاتي في الفصل أن نسمع أن المدرسة قد تغلق وأنه لن يسمح لنا بالدراسة مرة أخرى..”.
محاولة اغتيال المعجزة الباكستانية
وتستطرد (ملالا) بالقول في الكتاب الذي حمل سيرتها الذاتية (أنا ملالا) “..حتى ذلك الوقت كنت أخفي شخصيتي الحقيقية كمُدونة وناشطة اجتماعية، لكن سرعان ما طهّر الجيش الباكستاني “سوات” من طالبان، وكشف الإعلام الباكستاني في أخباره من “سوات” عن الشخصية الحقيقية لهذه المُدونة الصغيرة، فوُجهت رصاصة إلى رأسي يوم 09 أكتوبر 2012، كما أصيبت زميلتان لي، ونقلت سريعاً إلى بريطانيا للعلاج حيث أمضيت عدة شهور في مستشفى الملكة إليزابيث أتلقى العلاج بعد ما أجريت لي عمليات عدة لمعالجة كسور في جمجمتي وإرجاع السمع الذي كدت أن أفقده، وعندما تعافيت غادرت المستشفى لأعود من جديد إلى صفوف الدراسة، وأتذكر جيدا ما تحدثت به خلال الكلمة التي ألقيتها في منظمة الأمم المتحدة أثناء تكريمي، حينها تحدثت عن الحادث أقول: في التاسع من أكتوبر الماضي أطلق أعضاء طالبان النار عليّ وعلى صديقاتي أيضا، كانوا يعتقدون أن الرصاص سيتمكّن من إسكاتنا لكنهم فشلوا، ومن الصمت خرجت آلاف الأصوات، لقد اعتقد الإرهابيون أنهم سيغيّرون أهدافي وسيوقفون طموحاتي، لكن لا شيء تغيّر في حياتي، إلا أن الضعف والخوف واليأس ماتوا ووُلدت القوة والطاقة والشجاعة، ولم أعر أي اهتمام للموت مرة أخرى خاصة بعد إعلان طالبان مسؤوليتهم عن الحادث وخروج المُتحدث باسمهم إحسان الله إحسان يقول مُهدداً لي من جديد (عرّضت ملالا نفسها للخطر لدورها الرائد في الدفاع عن العلمانية والاعتدال التنويري المزعوم، إن حركة طالبان الباكستانية لا تؤمن بالتعرض للنساء، لكن كل من يقود حملة ضد الإسلام والشريعة يقتل، فسن ملالا يوسف زاي ليست دافعا للرأفة بها)، لكنه لم يعلم بأن هذا الحادث قد وحّدَ الأمّة الباكستانية التي أدانت الهجوم ودعوا لي بالشفاء …”.
ملالا… من الهامش إلى العالمية
في الثاني عشر من يوليو 2013 وقفت الطفلة المُعجزة (ملالا) لتحتفل بمقر الأمم المُتحدة بعيد ميلادها السادس عشر، وبعد الغناء انطلق لسانها يَشدو في اليوم الذي حمل اسمها (يوم ملالا) بالدعوة الصريحة للمجتمع الدولي لتثبيت الحق في التعليم للأطفال باختلاف جنسهم، وانطلقت تقول أمام أكثر من خمسمائة طالبا وطالبة يحملون جنسيات العالم أجمع وبحضور الأمين العام بان كي مون بمناسبة اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للشباب، تقول “.. اعتقد الإِرهابيُّون بأنّهم سيغيِّرون أهدافي وبأنّهُم سَيوقِفونَ طموحاتي، لكنَّ لا شيء تغير في حيَاتي إلا هذا: الضعف والخوف واليأس ماتوا، وولِدَت القُوَّةُ والطَّاقَةُ والشَّجاعة، لَستُ ضِدَّ أي شخصٍ، ولست موجودةً هُنا للحَديثِ عن اِنتقام شخصي ضِدَّ طالبان أو أيُّ جماعةٍ إرهابيَّة أُخرى، أنا هُنا للتحدث عن حقّ التَّعليم لكل طفلٍ، أريد أن يحصل أبناء وبنات الطالبان والإرهابيين جميعهم على التعليم…”، وأضافت تقول لجمهورها من الشباب “.. إِن مُناسبة عِيد ميلادي بالأُمَمِ المتَّحدة لم تَكُن لي فقط، بل لكل فتى أو فتاة أعلَت بصَوتِها من أَجل الحق بالتَّعلُّم..”، وفي العاشر من اكتوبر 2014 أُعلن عن فوز ملالا يوسف زاي بجائزة نوبل للسلام، لكفاحها من أجل حصول الفتيات على حقهن في التعليم، مُعتبرة بذلك أصغر حاصِلة على جائزة نوبل في العالم وهي لم تبلغ من العمر السابعة عشر عاماً، مُناصفة مع الناشط الهندي كايلاش ساتيارثي لدفاعه عن الحق ذاته.
سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب
