“بيان اليوم” تحاور الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر قبل قيامه بجولة فلسفية في جامعات مغربية

شغل هانس كوكلر منصب رئيس قسم الفلسفة في جامعة إنزبروك النمساوية لما يناهز العشرين سنة. وهو أستاذ زائر في جامعات متعددة داخل وخارج أوروبا. حاصل على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات متعددة كذلك (الفلبين، أرمينيا، تركيا). كما أنه منسق للجنة الدولية لحقوق الإنسان الفلسطيني (ICPHR)، ومنسق مركز فيينا للحوار العالمي، ولجنة التنسيق الدولية للمنتدى العام العالمي لـ “حوار الحضارات” (موسكو وفيينا).
تحتوي قائمة مؤلفات كوكلر على أكثر من 700 كتاب وتقرير ومقالة علمية بعدة لغات. ومن بين أعماله الرئيسية المترجمة إلى العربية من طرف مغاربة هناك بالخصوص: “الشك ونقد المجتمع في فكر مارتين هيدجر”، “تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين. الأسباب والحلول”، “هيدجر وريبة الكينونة”، “هكذا تكلم كوكلر”، “العدالة العالمية أم الانتقام الشامل؟”.
سيحل كوكلر ضيفا على قسم الفلسفة بجامعة الرباط، حيث يشارك في ندوة مهداة للراحل محمد سبيلا، أحد أصدقائه المغاربة، يوم 1 يونيو 2002 حول موضوع: “الفلسفة والتقنية”. ويشارك يوم 2 من نفس الشهر في ندوة بقسم الفلسفة بجامعة فاس تحت عنوان: “الفلسفة والترجمة وحوار الثقافات”. ثم يعود يوم 5 يونيو إلى الرباط للمشاركة في الفعاليات الثقافية لمعرض النشر والكتاب، في ندوة: “فلسفة التعايش والحوار بين الثقافات”. وينهي جولته الفلسفية بقسم الفلسفة بجامعة القنيطرة يوم 7 يونيو، في إطار ندوة: “مهام الفلسفة في الوقت الحاضر”. وبمناسبة هذه الجولة كان لجريدة بيان اليوم حوار معه، سمح لنا فيه من الاقتراب أكثر من فكره واهتماماته الفلسفية، التي تتوزع على الفينومينولوجيا والفلسفة السياسية ونظريتها القانونية.

< تعتبرون، بروفيسور كوكلر، من الفلاسفة الغربيين المعاصرين القلائل الذين تأملوا بعمق فلسفي تجربة الريادة الغربية الأحادية القطب. فما هو تقييمكم للوضع العالمي الحالي؟
> بعد نهاية الحرب الباردة، في بداية التسعينيات، حشد الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كل قواه لتأمين موقعه المتميز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحل حلف وارسو. في خطابه بعد نهاية حرب الخليج عام 1991، حاول الرئيس الأمريكي إضفاء الشرعية على ادعاء القيادة بالرجوع إلى حقوق الإنسان والديمقراطية. ونتيجة لذلك، جَرَتْ محاولات لترسيخ السيادة بسلسلة من الحروب العدوانية والتدخلات – وخاصة في العالم العربي والإسلامي -. كل هذه الأعمال كانت غير قانونية بموجب القانون الدولي وغير إنسانية، نظرا لتأثير العقوبات المفروضة على العراق. وبذلك، فإن الغرب – وخاصة الولايات المتحدة – قد قوض موقفه وجعل شعوب العالم ضده. إن غطرسة هذه السياسة الإمبريالية وقوتها قد أثارت معارضة في جميع أنحاء العالم. والآن تتشكل مراكز اقتصادية خارج العالم الغربي، تتحرر تدريجياً منه وتبحث عن أشكال جديدة من التعاون فيما بينها (مثل بريكس BRICS: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا). كما أن القوى النووية مثل الصين وروسيا غير راغبة في الاعتراف بادعاء الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم. بدأت نهاية الكوكبة أحادية القطب التي يقودها الغرب تتضح الآن. وينطبق هذا أيضًا على ادعاء الغرب بـ “القيادة” فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون. أثبتت سياسة العقوبات القاسية (أحادية الجانب) ضد كل من لا يخضع لإرادة القيادة الغربية بأنها تؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية: يتصاعد عدد الدول التي تحمي مصالحها من خلال التعامل مع بعضها البعض بعملتها الخاصة، وليس بالدولار أو اليورو. على المدى المتوسط، ستحدث الهياكل الاقتصادية البديلة التي تظهر بهذه الطريقة أيضًا تغييرًا في هياكل السلطة في اتجاه نظام جديد متعدد الأقطاب، سيحل محل القطبية الأحادية تحت الهيمنة الغربية. مثال آخر على التحول في ديناميكيات القوة العالمية هو كون إندونيسيا – الرئاسة الحالية لمجموعة العشرين – رفضت الامتثال للمطالب الغربية باستبعاد روسيا من القمة المقبلة. وكجميع الأوقات الانتقالية، تتميز المرحلة الحالية بتقلب كبير وعدم استقرار. يمكن القول إن خطر المواجهة النووية أكبر الآن مما كان عليه خلال الحرب الباردة.

< تعتبرون أيضا فيلسوفا نقديا بامتياز، من خلال كتاباتكم، خصصتم الكثير من الدراسات لما يسمى “العولمة” و”صراع الحضارات”. ما هي نتائج هذا على السلم العالمي؟
> نتجت العولمة كما نعرفها اليوم – كرغبة جامحة للربح العابر للقارات – عن نهاية المنافسة بين كتلتين من القوى العظمى – الرأسمالية والشيوعية – في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. تعني الهيمنة المصاحبة للنموذج الاقتصادي الغربي أن أي حواجز قد تحد من الرغبة في الربح قد ألغيت تدريجياً. إن ما يسمى بالمنافسة “الحرة” على المستوى العالمي تعني أيضًا أن الأضعف يتم إخراجه من هذه المنافسة أو إجباره على أداء أسوأ، وغالبًا ما تكون بسبب الظروف غير الإنسانية التي تفرض عليه، مما يؤدي بدوره إلى توترات وصراعات بين مناطق العالم وينشأ فقر جديد. وبالمناسبة، فإن البلدان الصناعية هي التي تقاوم حتى الآن مطالب “نظام اقتصادي دولي جديد” أكثر عدالة (كما روجت له الأمم المتحدة في الثمانينيات). أستحضر مقولة “صراع الحضارات” مثلا من قبل الغرب بعد نهاية الحرب الباردة. فبعد اختفاء الشيوعية كخصم أيديولوجي، كانت هناك حاجة لتقديم شرعية جديدة – صورة عدو جديدة – لحفاظ الغرب على قيادة العالم عن طريق استعمال السلطة. ومن خلال تقديم الثقافات والقيم التي تختلف عن طريقة الحياة الغربية كتهديد، يحاول الغرب إخفاء تأكيد إرادة الريادة في العالم. وقد اتضحت خطورة تهديد السلام العالمي من طرف الغرب في إطلاقه لمثل هذه الصور المعادية (الصور النمطية)، وهي صور تجلت بوضوح في العقود الأخيرة في النزاعات المسلحة، وخاصة مع العالم الإسلامي. وقد أثير الدفاع عن “القيم الغربية” أيضًا مرارًا وتكرارًا في التوترات المتصاعدة مع الصين وروسيا. ومثل هذه المواجهة بين تمثلات وتصورات للقيم وللعالم – خاصة عندما يتم تقديمها، كما هي الآن، على أنها معركة بين “الخير” و”الشر” – يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة بسهولة. إذا صنف المرء “الآخر” (الثقافة الأخرى، أسلوب حياة آخر) بأنه “عدو ميتافيزيقي” – أي تجسيد للشر بامتياز (كما يحدث مع روسيا الآن) – فهذا هو منطق الحرب الشاملة، وبالتالي اللعب بالنار.

< خصصتم أيضا حيزا كبيرا في تفكيركم لما يسمى “الكيل بمكيالين” في السياسة العالمية. ما هي أسباب هذا الأمر في نظركم؟
> إن المعايير المزدوجة هي النتيجة المباشرة والحتمية لسياسات القوة الجامحة. إذا أعطى المرء الأولوية لمصلحته الخاصة في جميع الأحوال والظروف، فإن كل شيء سيخضع للسياسة كتأكيد للمصالح الوطنية ضد الدول الأخرى. لم تعد المبادئ الأخلاقية أو تناسق إجراءات الدولة تؤخذ في الاعتبار. يتعلق الأمر كله بتأمين أفضل مركز ممكن للدولة في صراع القوى العالمي. وتخدم أساليب التضليل والدعاية هذا الغرض في المقام الأول: ففي الوقت الذي يندد المرء فيه، على سبيل المثال، بانتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الدولي من طرف دول معينة، وينكر على هذه الدول شرعيتها كأعضاء في “المجتمع الدولي”، فإن المرء يتغاضى عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في دول أخرى. وقد تم تبرير الحروب العدوانية الواضحة، مرارًا وتكرارًا، (أمثلة: فيتنام، يوغوسلافيا 1999، العراق 2003) على أنها “تدخلات إنسانية” أو أعمال لمكافحة الإرهاب. ولا يمكن لنفاق السياسة العالمية أن يكون أكبر من هذا!

< أنتم “رسول سلام”، باعتراف شخصيات ومؤسسات عالمية وازنة. كيف ترون تطور الأحداث العالمية حاليا، وبالخصوص بالنظر إلى أزمة روسيا وأوكرانيا؟
> إن خطر المواجهة العالمية حقيقي بالفعل. قد يخرج النزاع المسلح بين روسيا وأوكرانيا عن نطاق السيطرة، لأن الكثير من الدول تنخرط/تنحاز إلى جانب طرف من طرفي النزاع وتُذْكى العواطف كما يحدث من كلا الجانبين هذه الأيام. وفوق كل هذا، فإن التصعيد الدعائي/البروباغاندا في تقديم الصراع هو أمر خطير جدا، كما فعل رئيس الوزراء البريطاني، معتبرا إياه كصراع بين الخير والشر. ما أصبح واضحًا بشكل متزايد هو أن العديد من الدول في العالم غير الغربي غير راغبة في أن تجبرها الولايات المتحدة وأوروبا على دعم العقوبات الشاملة ضد روسيا. على المدى المتوسط والطويل – إذا أمكن تجنب حرب عالمية – فيمكن أن تتطور كوكبة جديدة متعددة الأقطاب، ويعني هذا ارتفاع عدد دول الجنوب التي أصبحت تدرك أهمية أشكال جديدة من التعاون (الاقتصادي والسياسي وفي ظل ظروف معينة أيضًا من حيث السياسة الأمنية والعسكرية) جنبًا إلى جنب مع الصين وروسيا والهند وإندونيسيا ودول أخرى، وبالتالي تقزيم إرادة قوة الولايات المتحدة وحلفائها (في المقام الأول حلف الناتو). يبدو لي أن الاتحاد الأوروبي يواجه خطرًا وجوديًا خاصا (مخاطر أمنية) في هذا الصراع الحاد بشكل متزايد، إذا ما استمر في سياسة التصعيد الشامل كشريك صغير للولايات المتحدة الأمريكية، وفرض عقوبات شاملة ضد روسيا نفسها – ليس فقط على اقتصادها -، بل وأيضًا على نظامها السياسي والاجتماعي، وهذا ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

<على ذكر هذه الأزمة، ألا يقود الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حربا ضد روسيا بالنيابة؟
> هذه حرب بالوكالة كلاسيكية. منذ نهاية الاتحاد السوفيتي، حاولت الولايات المتحدة على وجه الخصوص دمج أوكرانيا في مجال النفوذ الغربي، أي “استغلالها” لاحتواء روسيا. وفي وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي، وخاصة منذ عام 2014، حاولت أمريكا التأثير على السياسة الداخلية لأوكرانيا لصالحها – بكل الوسائل المتاحة (بما في ذلك النشاط المخابراتي). وأدى ذلك إلى انتقال (غير قانوني) للسلطة في أوكرانيا عام 2014، حيث تولى الفصيل الموالي للغرب قيادة الدولة، ونتيجة لذلك، اضطر الرئيس المنتخب دستوريًا إلى الفرار من البلاد. في النزاع المسلح الحالي بين أوكرانيا وروسيا، تعتبر الدول الغربية أطرافًا في النزاع، لأنها لا تفرض فقط عقوبات اقتصادية أحادية الجانب على روسيا، بل وأيضًا تدعم أوكرانيا بشكل كبير من خلال تزويدها بأسلحة هجومية. إنها مواجهة بين دولتين متجاورتين في الظاهر فقط. كان من الممكن حل المشكلات الثنائية المتعلقة بوضع السكان الروس في أوكرانيا من خلال ترتيب للحكم الذاتي، على النحو المتوخى في اتفاقيات مينسك). تدور السياسة العالمية حول الصراع بين الناتو، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا التي لا تريد قبول حقيقة أنه بحل حلف وارسو العسكري، توسع التحالف العسكري الغربي مباشرة ليصل إلى حدودها. للأسف لم يأخذ المرء، في بداية الصراع في أوكرانيا قبل 8 سنوات، رأي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بعين الاعتبار، الذي حذر بشدة في مقال له في جريدة الواشنطن بوست من رغبة الغرب في ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو.
في اليوم الذي تم فيه توقيع اتفاقيات مينسك الثانية (12 فبراير 2015)، أكدت منظمة التقدم الدوليةIPO أيضًا في بيان لها بأن حل النزاع لن يكون ممكنًا إلا على أساس الحياد الدائم لأوكرانيا. لسوء الحظ، سارت الأمور بشكل مختلف. كما هو الحال في كثير من الأحيان في تاريخ العالم، أصبحت أوكرانيا هذه المرة بيدقا في الصراع من أجل القوة ومناطق النفوذ.

< اشتغلتم كثيرا في مشروعكم الفكري والفلسفي على حوار الثقافات والحضارات. أية أهمية لهذا الحوار حاليا؟
> في هذه الفترة الانتقالية من نظام عالمي أحادي القطب يتميز بالهيمنة الغربية إلى نظام جديد متعدد الأقطاب، أصبح الحوار أكثر صعوبة وتعقيدًا. كان للتدخلات المسلحة المتكررة والعقوبات الاقتصادية التي شنتها وفرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها باسم حقوق الإنسان والديمقراطية – ما يسمى بـ “القيم الغربية” – مفعول سُمٍّ دائم على المناخ السياسي العالمي العام. لكن في الوقت الحالي، أصبح الحوار الحقيقي بين الثقافات والحضارات ضروريًا أكثر من أي وقت مضى. إن الحوار يعني الاهتمام بثقافة ومحيط حياة وعيش الآخر، و”الشعور” بهذا، والتعبير عن الاختلافات بصراحة، والحفاظ على التبادل والبحث عن أرضية مشتركة. وهذه هي الطريقة الوحيدة للتقليل من الأحكام المسبقة المتبادلة وصور العدو بين الدول والشعوب. بغض النظر عن هذا، فإن الحوار الصادق، حيث يُقابل الآخر على قدم المساواة، يسمح للمرء أيضًا بفهم نفسه بشكل أفضل والتعبير عن هويته الثقافية بطريقة أكثر نضجًا. إن التسامح الناتج عن الحوار لا غنى عنه لنظام سلام دولي دائم.

< تعتبرون من بين الفلاسفة الغربيين الناذرين ممن استطاعوا التخلص من مركزيتهم واعتبار الغرب قدوة للعالم في جميع الميادين. هل يمكن اعتبار الغرب كذلك بالنظر إلى ما يحدث حاليا؟
> كانت وظيفة النموذج شبه “الأخلاقي” للغرب في الواقع هو تأكيد الذات منذ البداية. حتى خلال فترة الغزو والاستعمار، تظاهرت الدول الأوروبية بأن لها مُثُلا إنسانية قصد متابعة سياسات القوة والمصالح. باسم الحرية – وسابقًا باسم المسيحية – تم إخضاع الشعوب واستغلالها. وبسبب القوة التي اكتسبتها الدول الغربية – وخاصة الولايات المتحدة منذ القرن العشرين – بهذه الطريقة، تمكنت هذه الدول من تقديم مبادئها القيمية على أنها نموذجية صالحة للعالم أجمع. لكننا نلاحظ الآن اقتراب وقت نهاية فرض هذا النموذج. بدأت خيبة الأمل فيما يتعلق بوظيفة نموذجية القيم الغربية بإنتهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. إن عجرفة الغرب وغطرسته – بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية ميزان القوى العالمي – قادته لمحاولة تشكيل العالم بأسره على صورته الخاصة، إذا جاز التعبير. على سبيل المثال، تم تدمير النظام السياسي في البلدان المهمة في الشرق الأوسط، وفي النهاية لم يتم إنشاء نظام جديد. وهذا يدفع الشعوب المتضررة إلى التساؤل أو رفض “القيادة الموضوعية” للغرب فيما يتعلق بالدولة والمجتمع. إضافة إلى هذا، فإن الصين، التي أصبحت بشكل متزايد المنافس الرئيس للغرب على المستوى العالمي، غير مستعدة للاعتراف بعالمية منظومة القيم الغربية.

< من وجهة نظر الفلسفة السياسية هل نعيش حاليا مخاض تغيير جذري في السياسة العالمية؟
> على عكس ما يود الكثير من السياسيين في أوروبا أن نصدقه، فإن أحداث عام 2022 لا تعني “نقطة تحول”. لم يُحدِث الغزو الروسي لأوكرانيا نقلة نوعية فيما يتعلق باستخدام القوة بين الدول أو شن الحروب العدوانية. وحتى بعد كارثة الحرب العالمية الثانية ودخول ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ مع حظر استخدام القوة بين الدول، استمرت أقوى الدول على وجه الخصوص في استخدام العنف كوسيلة للسياسة، واحتلت دولًا أخرى أو أطاحت بعنف بحكومات. وبعد عام 1991 بالخصوص، واصلت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة التدخل على نطاق واسع – على حساب الاستقرار الدولي -. لا نشهد حاليًا في هذا الصدد، أي تحول سياسي عالمي أو حتى نقلة نوعية، لأن استخدام القوة كان دائمًا على أجندة السياسة الدولية.
الجديد هو أن دولة في أوروبا الشرقية، والتي يعتبرها الغرب ضمن دائرة نفوذه، أصبحت الآن ضحية لحرب عدوانية. يتم التعامل مع هذه الحرب بمعايير مزدوجة من قبل وسائل الإعلام والسياسيين الغربيين، الذين يتصرفون كما لو أن خرق روسيا للقانون الدولي كان فريدًا من نوعه تاريخيًا. وهو أمر يقلل من شأن الحروب العدوانية التي شنتها الدول الغربية في العقود الأخيرة على دول أخرى. إلى حد الآن، للغرب امتياز التدخل في مناطق أخرى. والآن تتعدى دولة غير غربية بشكل مباشر على مجال نفوذ الغرب (الناتو). ومع ذلك، يبدو أن الاضطرابات الجيوسياسية آخذة في الظهور بطريقة مختلفة تمامًا عما أعلنه الغرب: بصرف النظر عن الحقيقة التي ذكرناها على التو، أي أنه لأول مرة يتم غزو بلد في أوروبا يعتبر منتميًا لمجال النفوذ الغربي، توضح أحداث عام 2022 بأن غالبية البشرية لم تعد مستعدة للاعتراف بادعاءات الغرب لقيادته للعالم ودعم سياسة العقوبات ضد روسيا على سبيل المثال. بقيت الدول غير الأوروبية الأكثر نفوذاً محايدة في هذا الصراع وبدأت تدريجياً في إنشاء هياكل تنظيمية مستقلة عن الغرب. وبهذه الطريقة تحاول هذه الدول تقليل مخاطر الابتزاز الاقتصادي من قبل الولايات المتحدة و/أو الاتحاد الأوروبي. وبهذا الصدد، يمكن أن تشير أحداث هذا العام بالفعل إلى بداية جديدة في السياسة العالمية – أو تزيد من ترسيخ الاتجاه نحو التحرر من هيمنة الغرب في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، وهو ما كان واضحًا لبعض الوقت.

أجرى الحوار: د. حميد لشهب / النمسا

Related posts

Top