أب الفنون.. الفن المرهون

شاخ أب الفنون بالمغرب وأنهكت جسده الأمراض والكبوات والنكبات، بسبب الإهمال الذي طاله من طرف كل المعنيين منتخبين ومسؤولين والرواد. وزاد وضعه تأزما بسبب ما فرضته جائحة كورونا من إجراءات احترازية. حالت دون انتعاشة القلة القليلة التي تكافح من  أجل ضمان استمرار العيش والعطاء المسرحي. 

بات الأب مشردا بلا مأوى، غير قادر على رعاية واحتضان بناته وأبنائه، ولا حتى حمايتهم من الدخلاء والمتطفلين والمندسين. بات تائها يبحث عن ملاذ لحياة بديلة. تمكنه من إنقاذ أسر رواده وتحفيزهم على الاستمرار في الإبداع. وإنجاب أبناء جدد من صلبه يقدرون شيبه وأبوته. ويحفظون له جذوره وتاريخه. ويؤمنون له المستقبل الغامض. فيما تفرق الأبناء وانشغلوا بأمور أخرى تدر عليهم المال، بعد أن وقفوا على أن إرث الوالد (المسرح) لم يعد يشكل موردا للرزق. ولا مصدر أمن وأمان لمستقبلهم الفني. ليبدؤوا رحلة التجارب الفنية داخل التلفزيون والسينما. رحلة لاشك ستضر مستقبلا بالعطاء المسرحي.

لم تعد لخشبة أب الفنون حرمة ولا مكانة في عالم الثقافة والفن، ولا في الحياة العادية للإنسان البسيط، الذي اشتاق كثيرا للحلقة والبساط وسلطان الطلبة وسيدي الكتفي. ولم يعد شيخنا قادرا على توفير فضاءات مناسبة لتكوين الهواة في المسرح وزرع روح التنافس والتباري. ولا إنجاب مؤلفين مغاربة بأفكار ورؤى مغربيتين. يمتصون رحيق قصصهم ومؤلفاتهم وروايتهم من واقعهم المعيشي وتاريخهم الحافل بالعبر والمواعظ والحرمان والدماء والسخرية وغيرها مما قد يثير شهيتهم.

فقد المسرح بريقه الفني وانفراده في التشخيص المباشر والتجاوب الجماهيري، بعد أن تحولت الأزقة والشوارع والمرافق العمومية والخاصة إلى خشبة مسرح واسعة، وأرغم البشر على تقمص أدوار مسرحية فوقها، تختلف بين ما هو هزلي وجاد ودرامي. وأصبح الكل ممثلا مسرحيا ومؤلفا ومخرجا وجمهورا. ولم يعد هناك مجال للتألق والإبداع المسرحي.

 يضاف إليها ندرة النصوص المسرحية لمؤلفين مغاربة، حيث إن معظم المسرحيات الحالية، تعتمد على نصوص مقتبسة. في غياب أدنى اهتمام بالمؤلفين والكتاب. كما أن عدة فرق مسرحية لا تلقى أدنى اهتمام ولا دعم من طرف الوزارة الوصية أو من طرف المجالس المنتخبة.  وخصوصا مجموعة من الفرق المسرحية الجادة المتواجدة بمناطق عدة بالمغرب، بعيدا عن العواصم الإدارية والاقتصادية والعلمية والسياحية.

 ورثة أب الفنون، لازالوا يتذكرون رسالة الملك الراحل الحسن الثاني، التي تلاها مستشاره الراحل أحمد بنسودة في افتتاح المناظرة الوطنية الأولى للمسرح الاحترافي بتاريخ 14 ماي 1992، والتي على إثرها تقرر جعل يوم 14 ماي من كل سنة يوما وطنيا للمسرح.

أكد الملك الراحل أنه أعطى تعليماته لوزيره في الداخلية والإعلام حينها، بتخصيص مبلغ واحد في المائة من ميزانية الجماعات المحلية لبناء المسارح ورعاية العاملين بها واحتضانهم. لكن المبادرة الملكية تبخرت، ولم يتم تفعيلها. بل تسببت فقط في نشوب صراعات بين رواد المسرح حينها (عبد القادر البدوي من جهة والراحل الطيب الصديقي من جهة ثانية). نفس الرسالة أكد فيها على ضرورة توفر عاصمة كل عمالة أو إقليم على مركب ثقافي يضم قاعة للمسرح. وبعد مرور ربع قرن لم يتحقق حلم الراحل الحسن الثاني. كما طالب كل جهة اقتصادية بالمملكة بإحداث فرقتين مسرحيتين ترعاهما الجماعات المحلية وتوفر لهما الوسائل الفنية والتقنية لتكثيف الإنتاج المسرحي وتوزيعه. وها هي الجهات تقلصت من 16 إلى 12 جهة فقط. ولم تبادر تلك الجهات لإحداث فرق تمثلها.. لمَ لا يتم إعادة الروح لجسد مسرح الهواة الذي كان المشتل الحقيقي لإفراز نجوم المسرح الاحترافي أمثال (عبد الكريم برشيد، أحمد العراقي، محمد بلهيسي، محمد شهرمان، ابراهبم وردة..)؟.. ولمَ لا تتم الاستفادة من خريجي المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي في تكوين الأطفال والشباب وإحداث فرق مسرحية محلية تحت إشرافهم. عوض ترك بعضهم بدون وظائف ومهام داخل رفوف وزارة الثقافة ومرافقها؟.. إلى درجة بات فيها حضور آخرين مثل غيابهم، باعتبار أن تلك المهام المنوطة بهم لا علاقة لها بتخصصاتهم.. ولمَ لا يتم إدماج مادة المسرح في كافة المستويات التعليمية بالاعتماد على تلك الكفاءات؟ وقد سبق أن نبه لها عالم المستقبليات، الراحل الدكتور المهدي المنجرة. حين قال إن “سياسة واستراتيجية وزارة الثقافة، يجب أن تطبق في وزارة التعليم”.

ابحثوا عن الفنانين المسرحيين هناك وهناك فهم كثر بالمدن والقرى. يبدعون في صمت بإمكانيات مالية بسيطة. ورصيد فني وثقافي راق.. وأمنوا لهم الدعم لإخراج مسرحياتهم والمرافق العمومية المجهزة لضمان الرقي بإبداعاتهم. فمن العار أن يبقى المسرح مغيبا ومرهونا وأن يبقى رواده عالقين..

 بقلم: بوشعيب حمراوي

Top