أوجه التقابل وشروط التناسب بين الديمقراطية والإسلام السياسي 

يجري الكلام عادة عن “فلسفة الدين”، لكن قلما نسمع عن “فلسفة الدين السياسية”، علماً بأن لكل دين سياستَه سواء أظهرها أو أخفاها لأسباب سياسية أو عقدية. إذ مهما اتسم الدين بزهده وتعاليه عن دسائس السياسة ومناوراتها، فإن تدبير شؤون الناس سيبقى جزءً من واجباته الأساسية، لا بينهم وبين الله كأفراد وحسب، بل وأيضا بين بعضهم البعض كجماعات وأمم. فلكي تأخذ “مدينة الله” الخالدة في الآخرة معناها، ينبغي إنجاز عمارة “مدينة الإنسان” في هذه الدنيا بالذات تحضيرا للعيش في مدينته الحقيقية. فكل دين هو مشروع لتنظيم جديد لحياة الإنسان على ضوء كلام الله الذي أُلقِي وحيا على أنبيائه.
ومنذ البدايات الأولى للقرن الماضي شرع الدين يفرض نفسه كظاهرة سياسية في الديانتين اليهودية والإسلامية. وقد ساهمت حادثتان تاريخيتان في تأجيج الحضور السياسي للدين، أولهما بناء دولة إسرائيل على أساس أسطورة دينية، والثاني إلغاء الخلافة العثمانية من طرف كمال أتاتورك لإبعاد ما ليس سياسي عن السياسة. 
الانتقال من صراع التأويلات بين الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية، إلى صراع التأويلات بين فرق الإسلام السياسي فيما بينها، وبينها وبين مذاهب الفلسفة السياسية لأهل الحداثة والتنوير والعلمانية، هو ما يميز التعاطي مع مسألة علاقة الدين بالدولة في الإسلام في حقبتنا هذه. حيث دافعت تيارات من الإسلام السياسي عن الحق في إقامة دولة دينية على أساس الحاكمية لله وحده، مما أغرق الإسلام في تصور فقهي أو كلامي للسياسة؛ ودافع أهل الحداثة والتنوير على ضرورة إخراج الإسلام من دائرة اللاهوت السياسي، وربطه بالفلسفة السياسية كي يكون قادرا على مواجهة رهانات التحديث والحداثة السياسية.

أولا: عن التقابل البنيوي بين الإسلام السياسي والديمقراطية

ما يميز الإسلام في علاقته بالدولة هو أنه أكثر الأديان ارتباطا بفكرة تنظيم حكم الله هنا في هذه الأرض. ولعل ذلك يرجع إلى أنه يؤوِّل الخطيئة الأولى، التي كان من عواقبها نزول الإنسان من الجنة إلى الأرض، تأويلا إيجابيا، وهو ذلك التأويل الذي يُحمّل الإنسانَ خلافة الله في الأرض. فالإسلام لم يقدم نفسه باعتباره دينَ تفرّغ لعبادة لله فقط، فيفرض على المؤمن الشعور “كأنه يموت غداً” وحسب، بل قدم نفسه أيضا بوصفه شريعة تُنظّم الحياة الخاصة والعامة لدار الإسلام من ألفِها إلى يائها، وتحثه على التمتع بطيبات الدنيا بكيفية تجعله يشعر “كأنه يعيش أبدا.”. 
وبالرغم من ارتباط الإسلام بالدولة ارتباطا ذاتيا منذ نشأته الأولى، لم يزدهر في حضارته الفكر السياسي المنظّر لها بقوة. صحيح، تتضمن العلوم الإسلامية، وبخاصة علم الفقه وعلم الكلام، عدة أبواب تتصل ببناء الدولة وتدبيرها، كالإمامة والبيعة والزكاة والحسبة والجهاد الخ.، لكن هذه المباحث لم تَرق إلى أن تشكل نظرية متكاملة للدولة. لكن بعد أن حدثت أزمة المشروعية الدينية إثر استيلاء السلاطين على السلطة الفعلية للخلافة، مع الإبقاء على منصبها رمزيا، بدأت بوادر التنظير للدولة على شكل مبحث الأحكام السلطانية. 
وكانت بوادر الفكر السياسي، سواء باسم فقه “السياسة الشرعية” أو باسم “الأحكام السلطانية”، تدور حول البحث عن وسائل الخروج من أزمة الخلافة بتجديد مفهوم “المشروعية الشرعية” وتطعيمها “بالمشروعية المدنية”، القائمة على معيار القدرة على ضمان الأمن والاستقرار للدولة والرعية. إلا أن نصائح الفقهاء وحلولهم للأزمة السياسية كانت تركز في الغالب على تقوية سلطة الحكم الفردي والاستبدادي، ضمانا لهيبة الحاكم أكثر من اهتمامها بالرعية أو بالدولة كمؤسسة عامة. والملفت للنظر أن أكثرية الأدباء والفقهاء الذين اهتموا بكيفية الخروج من أزمة المشروعية كانوا من الوسط الإسلامي أو من يمينه، أي من الأشاعرة كالماوردي (364 -450 هـ / 974 – 1058 م) والجويني (419-478 ه/1028-1085) والغزالي (450 – 505 هـ/ 1058- 1111م)، ومن الحنابلة كالفراء (380-458ه/1059-1131م) وابن تيمية 661-728ه/ 1263-1328م). والغريب في الأمر أن “الإسلام السياسي” عندما يحيل على الإسلام للتعريف بمشروعه السياسي لإقامة دولة الشريعة، فهو إنما يحيل على تأويل فقهاء الأشاعرة والحنابلة، لا على تأويل يسار الإسلام من المعتزلة والفلاسفة.
وكما أشرنا، كانت أزمة الخلافة الثانية من الأسباب المباشرة لظهور تيارات “الإسلام السياسي” اليوم، وهي الأزمة التي نشأت من جراء إلغاء منصب الخلافة شكلا ومضمونا بصفة نهائية. هكذا، كان ظهور “الإسلام السياسي” نتيجة أزمة مزدوجة للخلافة، أزمة فقدان مشروعيتها الشرعية في زمن السلاطين، وأزمة إلغاء وجودها في الزمن الحديث، علاوة على آفة الاستبداد المزمن التي تعاني منها معظم المجتمعات والدول الإسلامية. غير أن “الإسلام السياسي” بدلا من أن يعمل على استخلاص العبرة التاريخية والسياسية من هذه الأزمات، ويُعوض “المشروعية الشرعية” بـ “المشروعية السياسية”، التي هي التعبير القانوني للعلمانية، أبدى عنادا شديدا في رفض المشروعية السياسية والتشبث بربط الدولة بالدين. هكذا بدلا من أن يتخذ “الإسلام السياسي” طريقا عن إصلاح الشريعة وتطوير علاقة الإسلام بالسياسة بشكل صحي وحداثي، فضّل تبنّي علاقة غير سلمية بين الإسلام والسياسة. وُلد “الإسلام السياسي”، إذن، مسكونا بتصور لا تاريخي للسياسة والمجتمع أساسه العودة إلى المشروعية التقليدية والتمسك بها، والحكم على كل نظام سياسي خارج النمط التقليدي لحكم الخلافة بالكفر. في الحقيقة كان “الإسلام السياسي” مصيبا عندما اعتبر محاربة الاستبداد والتأخر التاريخي للإسلام لا يكون إلا بالسياسة. إلا أنه بدلا من أن يتبنى رؤية سياسية منفتحة على الفتوحات الديمقراطية للفكر السياسي المعاصر، ارتد إلى الفكر الإسلامي التقليدي، الذي لم يستطع إنقاذ الخلافة في زمانها، فأحرى أن ينقذ أزمة الدولة في العالم الإسلامي الحديث.
كانت نشأة “فقه السياسة الشرعي” نتيجة أزمة الخلافة الأولى، ونشأة “الإسلام السياسي” نتيجة أزمة إلغاء الخلافة. لكن بينما كان فقهاء “السياسة الشرعية” لا يطمعون في الاستيلاء على الحكم السياسي بالقوة، فإن فقهاء “الإسلام السياسي” اليوم تحركهم رغبة جامحة في إقامة دولة دينية. ومن ثم، بمقدار ما كان فقهاء الأمس يخافون الفتنة، فيلجؤون إلى تبرير الحكم السياسي القائم، عملاً بمبدإ “الضرورة تبيح المحظورة”، يتنافس الفقهاء وأشباه الفقهاء اليوم على التحريض على الفتنة عملا بمبدإ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. 
ولعل التشبث “بالمشروعية الدينية” ورفض “المشروعية السياسية” النابعة من الآلية الديمقراطية، هو الذي كان وراء الفشل الذريع لمعظم تجارب “الإسلام السياسي”، السني والشيعي، في تدبير الدولة، حيث أفضت معظمها إلى خراب شامل. إن رفض “الشريعة البشرية” بحجة عدم مطابقتها “للشريعة الإلهية”، وفرض حلول غير نابعة من المشاورة بين المواطنين وإنما من النصوص المؤَوَّلة تأويلا قدسيا لا يراعي تغير الزمن، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى هدر للحقوق، وتفاقم للمشاكل بكل أنواعها، وفي النهاية إلى انهيار تام للدولة. 

ثانيا: عن التقابل القيمي بين الديمقراطية والإسلام السياسي

تجمع عبارة “الإسلام السياسي” بين اسمين متضادين، هما السياسة والشريعة. فإذا سلّمنا بأن السياسة هي الأخرى “شريعة بشرية” أو تقود إليها، فإن التقابل سيزداد حدة بين الشريعتين الإلهية والبشرية، وسيكون من الصعب القبول بالجمع بين هذين المتقابلين في عبارة واحدة، لأنهما من جهة ينتميان إلى منزلتين مختلفتين، منزلة المقدس المتعالي، ومنزلة التاريخي الإنساني؛ ولأنهما من جهة ثانية يستعملان منطقين مختلفين: منطق العقل ومنطق الوحي. ولا شك أن الميل إلى الجمع بين الإسلام والسياسة يدل على أن “فقهاء السياسة الشرعية” في أزمنة الإسلام الحديثة ضلوا الطريق بخروجهم عن مجال الإيمان الشخصي إلى المجال العام الذي لا يمكن سياسته إلا بقوانين بشرية نابعة من الحوار والبحث عن الحلول الوسطى. 
ذلك أن الشريعة البشرية، التي تُعتبر الديمقراطية من ثمراتها، هي منظومة من المبادئ والقوانين والضوابط والآليات العقلانية التي أنجزها مواطنون أحرار عن طريق ممثليهم. في حين يريد “الإسلام السياسي” فرض تأويل لا تاريخي ولا حقوقي لمنظومة مطلقة على الناس بقوة النص. هكذا يغدو عقل “الإسلام السياسي” عقلا دينيا ملقَّما بعقل مضاد له هو العقل السياسي، أي عقلا يسخّر السياسي للديني، ولا يعترف بالحدود بينهما. 
في هذا السياق، سياق الخلط بين المنازل والمقامات والمسالك، نتساءل هل من الممكن أن تتعايش “الشريعة الإلهية” بجانب “الشريعة البشرية”، أم إن القبول بشريعة بشرية يقود حتماً إلى إقصاء الشريعة الإلهية؟ بعبارة أخرى، هل من حق الإنسان أن يحكم نفسه بنفسه، من دون الإخلال بقيم الشريعة الإلهية؟ هل يستطيع الإنسان فعلا أن يستغني عن الشريعة الإلهية في تنظيم حياته؟ أو هل ما زال من الممكن الكلام عن مدينة الله داخل مدينة الإنسان، أي الكلام عن مدينة قائمة على “العقد الإلهي” داخل مدينة قائمة على “العقد الاجتماعي”؟ 
إن أية محاولة للإجابة على هذه الأسئلة تنطلق من البحث عن التوافق البنيوي بين الديني والسياسي سيَؤُول في نظرنا إلى درب مسدود؛ لذلك وجب الاتجاه نحو حل الفصل الإجرائي بينهما درءً لكل خلط أو تشويش، أو تسخير لهذا لصالح ذاك. إذ القيم الدينية تختلف في جوهرها وأحكامها عن القيم السياسية. ففي الدين نحن أمام كلام الله، وفي السياسة نحن أمام كلام الإنسان القابل للحوار وللنقد والمشاورة والتعديل والتوافق. في الدين نحن أمام إيمان يطلب سكينة النفس، وفي السياسة نحن أمام حوار وحجاج يدور في جو مشحون بالتنافس والصراع. في الدين نصدر في أفعالنا عن قيم الطاعة والإجلال والتقديس، وفي السياسة تصدر أفعالنا عنا، ونقوم بأفعال النقد والمعارضة والصراع طمعا في السلطة وفي مزيد من التقدم والإصلاح. في الدين نزن الأفعال بميزان المطابقة مع القول الإلهي، في السياسة يغدو الإنسان مقياس كل فعل، ويغدو الفعل مصلحة ومنفعة؛ في الدين نتكلم عن الكبائر وعن الحلال والحرام، في السياسة نتكلم عن الصواب والخطأ وعن الاختلاف في وجهات النظر.
ويمكن أن نبسط هذه التقابلات بين “الإسلام السياسي” والديمقراطية في ستة أوجه:
1 – ما يميز بعض تيارات “الإسلام السياسي” هو اعتقاده بأنه يمكن بناء الدولة على أساس الحق المطلق، أو على الأقل اشتقاق الحق السياسي من الحق الإلهي. والحال أن الإيمان بالمطلق يتعارض مع السياسة، التي هي سعيٌ إلى حق نسبي وتاريخي لتطوير وضعية الإنسان بأوجهها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية. من ذلك مثلا، لا يسمح الاستناد إلى الحق المطلق بتطوير حقوق المرأة، أو بتحويل مفهوم الرعية إلى مواطنين، خصوصا إذا اعتمدنا فقط على تأويل الماوردي أو الجويني أو ابن تيمية أو أبا يعلى الفراء لمفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة أو بين الحاكم والرعية. بخلاف ذلك، عندما يتم الفصل بين الحق الشرعي والحق العقلي تنفتح الأبواب على الديمقراطية ويصبح بالإمكان التفاوض على الحق القانوني والسياسي بالحوار العقلاني والحر بين المواطنين، هذا الحوار الذي لا ينبغي أن يغلق الأبواب أمام أخذ موقف أصحاب الحق الشرعي بعين الاعتبار. 
2 – ونفس التقابل نجده على مستوى الحرية، التي اشتُقت منها الديمقراطية منذ جمهورية أفلاطون. والقول بأن الحرية هي قوام الديمقراطية معناه الاعتراف بأن الإنسان، سواء كان فردا أو شعبا، هو فاعل الشريعة، وبأنها قيمة كونية غير قابلة للتكييف، مهما قيل عن حق الشعوب والثقافات أن يكون لها تصورها الخاص للحرية. 
أما “الإسلام السياسي” فإنه لمّا يُبدِي حماسا عارما لإخضاع الدولة للمعايير الفقهية والكلامية، فسينتهي به الأمر حتما إلى إضفاء الطابع الشمولي عليها، ما يؤدي إلى مصادرة حريات الأفراد والجماعات، وإلغاء كل مظاهر الاستقلال الذاتي عن السلطات الدينية. بعبارة أخرى، حينما يضع الإسلام السياسي الإرادة الإلهية التي نزل بها الوحي، في مركز القرار السياسي، يتم استبعاد الإرادة البشرية، وعندئذ تصبح “الحاكمية لله” فقط. وفي هذه الحالة تتحول السياسة إلى مجال للضرورة والقدر بعد أن كانت مجالا للحرية والإمكان، فتتوقف السياسة عن أن تكون. وعندما يبني “الإسلام السياسي” مشروعية الدولة على أساس كلامي، أي على أساس “اللاهوت السياسي”، فإنه سيكون مضطرا إلى رفض كل مشروعية سياسية نابعة من المواطنين الأحرار، أي من “الفلسفة السياسية”. والتقابل بين الرؤية السياسية والرؤية اللاهوتية، هو تقابل بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية، بين الديمقراطية و”الإسلام السياسي”. وبالفعل، حينما تضع الديمقراطية الإرادة البشرية، العامة والخاصة، في الصدارة، وتخوّلها الحق في سن الشرائع والقوانين وتنفيذها، فإنها تصبح فضاء لازدهار كل فنون الحريات الفردية والجماعية. 
صحيح، تُعاني الديمقراطية بدورها في كل أنحاء العالم من أزمة المصداقية. لكن لا يمكن حل أزمة الدولة الديمقراطية باللجوء للاّهوت السياسي، الذي يمثله في بلداننا “الإسلام السياسي”، لأنه هو الآخر يعاني من أزمة التوفيق بين هويتين متضادتين، الهوية الدينية والهوية السياسية. لذلك، نرى بأن علاج ما يشوب الديمقراطية من أعطاب بين الحين والآخر لن يكون إلا بالديمقراطية نفسها، أي إلا بالحوار في الساحة العمومية، وليس بالبحث عن وصفات سحرية بين مطويات النصوص أو بالانقلابات الدينية والعسكرية. 
3 – فإذا صح ما قلناه، سيكون من حقنا أن نتساءل هل “الإسلام السياسي” سياسي حقا؟ لا شك أن نعت “السياسي” هو مجرد صفة أطلقها الباحثون على هذا التيار الديني لإبراز طموحه في إقامة دولة دينية. غير أن الطابع الشمولي والمعادي لكل تحرر بشري، ولكل حق في تدبير الشأن السياسي بالآليات السياسية، يسمح للمرء أن يرى بالعكس أن “الإسلام السياسي” هو في جوهره حركة لا سياسية أو بالأحرى مضادة للسياسة، بالمعنى الحواري والديمقراطي الذي ينص عليه اسم السياسة. والدليل على أن الحركات الإسلامية حركات مضادة للسياسة، أنها، من جهة، لا تعتبر السياسة فعلا بشريا للتدافع والتسابق نحو الخيرات والإصلاحات، وإنما ممارسة دينية تحاسب (من الحسبة) الناس في الدنيا قبل الآخرة؛ من جهة ثانية، يَعتبر “الإسلام السياسي” نفسه فوق الدولة والوطن، سواء بطمعه في تأسيس خلافة إسلامية أممية تتجاوز حدود الأوطان والدول الإسلامية، أو بتطاوله على وظيفة الدولة في مراقبة سلوك الناس اليومي والحكم عليه، عملا بمبدإ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
4 – ولما كانت الديمقراطية ممارسة سياسية، فإنها تتطلب قدرا كبيرا من المعقولية والعقلانية، وإن كانت المعقولية السياسية من طبيعة عملية وحوارية ونسبية ينجزها العقل العملي، وتقتضي توافقات وحلولا وسطى قابلة لإعادة النظر فيها، كلما تغير ميزان القوى بين المتحاورين. 
أما “الإسلام السياسي” فيهتم هو الآخر بالمعقولية، ولكنها معقولية من نوع خاص، وهي المعقولية الخَبَرية والنّصية التي تنأى بنفسها عن العقلانية، التي هي محبة العقل، سواء كانت هذه العقلانية نظرية، أي تنتصر للعقل بما هو عقل، لا بما هو عقل مسخّر للدفاع عن العقيدة، أو عقلانية عملية، وهي التي تنتصر للعقل بما هو مشرِّع للأخلاق والقانون والسياسة، والتي تقتضي المداولة والحوار لا الإيمان القطعي بالآتي من خارج الإنسان. وبصفة عامة، يجمع أهل “الإسلام السياسي” بين كونهم حنبليين في العلم وفي السياسة معا، فيتحول العلم لديهم من الرغبة في الاكتشاف والإبداع، إلى “علم نافع” للدين، إي إلى معرفة السلف الصالح، وتتحول السياسة من فن الكياسة والمناورة للخروج من مآزق المعترك السياسي، إلى صناعة للعنف والقهر والإرهاب. لذلك، إذا كانت الديمقراطية تقتضي من الأفراد استعمال قدراتهم العقلية للإتيان بالحجج العملية للدفاع عن مواقفهم وأرائهم أثناء الحوار من أجل الإقناع والوصول إلى الحلول الوسطى، يكتفي المتشددون من حركات الإسلام السياسي باستبعاد البعد التاريخي وإيقاف حركة الزمن، بالدعوة إلى تقليد السلف والاتكال على حججهم الجدلية والسفسطائية لإقناع أتباعهم والرد على خصومهم. 
5 – ولا يمكن أن يكون الحوار الديمقراطي والعقلاني مثمرا ما لم يَجر في فضاء عمومي محايد، هو الذي يسمى بالعلمانية. وفي هذه النقطة بالذات، يتأجج الخلاف بين الديمقراطيين والإسلاميين المتشددين؛ فالأولون يعتقدون أن العلمانية شرط ذاتي وضروري للديمقراطية لأنها تضمن حق المواطنين في التشريع، وتكفل حريتهم في الاعتقاد، وتُفَعّل قيمة التسامح بين الجماعات الدينية والثقافية لنزع فتيل التوتر والصراع في المجتمع السياسي الواحد بين الطوائف المتنابذة، وتشيع ثقافة الاختلاف والعيش معاً. بينما تعتقد معظم تيارات الإسلام السياسي بأنه يمكن تصور الديمقراطية بدون علمانية، اعتقادا منها بأن فصل السياسي والحقوقي والأخلاقي عن الديني من شأنه أن يهدد وجود الدين واستمراره. والحال أن من أخلاقيات العلمانية عدم المس بمكانة الدين في المجتمع، والأخذ بوجهة نظره للبت في القضايا الحساسة. لكن هذا لا يعني عدم التفكير في حدود الدين، خصوصا في مجالات السياسة والقانون والأخلاق.
وفي الحقيقة، تطرح العلمانية مسألة جوهرية وبالغة الخطورة وهي مَن له الحق في التشريع؟ فالديمقراطيون يرون أن المواطنين، من خلال ممثليهم في البرلمان، هم المؤهلون سياسيا للتشريع؛ بينما تذهب النزعات الإسلامية المتشددة إلى أن هذا الحق مكفول فقط للفقهاء بدعوى أنهم ورثة الأنبياء. 
6 – من لوازم الديمقراطية غير القابلة للانفصال عنها الثقافة. ولا أدل على ذلك أن الشعب الذي اخترع كلمة الديمقراطية ومارسها بطريقته الخاصة، وهو الشعب اليوناني، كان شعبا مثقفا بكيفية مدهشة، فهو الشعب الذي أحب ومارس ونظّر للفلسفة والمسرح والنحت والموسيقى والآداب والتاريخ والملاحم الشعرية، هذا عدا ابتكاره لعلوم الرياضيات والطبيعة والمنطق. وهذا معناه أن الثقافة لا تنفصل عن الحرية في التعبير والإبداع الفكري والفني، أي أن الثقافة، باختصار، تقتضي الديمقراطية. في مقابل ذلك برهنت كثير من الحركات الإسلامية المتشددة على كراهيتها الدفينة للثقافة بتجلياتها الفنية والعلمية والفكرية والسياسية والعملية، هذه الكراهية التي تدفعها لاقتلاع كل تجلياتها والقيام بحملات جنونية لاغتيال الأدباء والمفكرين وحرق المكتبات وهدم الصروح والتماثيل والأضرحة وطمس المعالم الثقافية والحضارية، وتفجير المساجد أثناء صلاة الجمعة والأعياد الدينية. ولا يمكن مقاومة هذه الهمجية الرهيبة في المحاربة الضارية للثقافة، التي تشوه الإسلام وتفرغه من مضمونه الحضاري وبُعده الأخلاقي والإنساني وتحوله إلى دين مضاد للثقافة، إلا بالثقافة.

ثالثا: قابلية الإسلام السياسي للديمقراطية

لا يمكن اعتبار التنافي بين “الإسلام السياسي” والديمقراطية، قَدَرا لا مناص منه. ذلك أن احتكاك هذا التيار بالمعترك السياسي يفضي به لا محالة إلى الاعتراف بصعوبة التعاطي مع الشأن العام تفكيرا وتدبيرا، لأنه يفرض عليه ضرورة التشاور والانفتاح على العقل السياسي بنظرياته وفلسفاته المختلفة لحل معضلات الواقع العنيدة والمعقدة. 
نعم، يمكن القول إن التنافي بين “الإسلام السياسي” والديمقراطية ليس تنافيا بين الإسلام والديمقراطية، وإنما هو تنافٍ بين الديمقراطية وتأويل من تأويلات الإسلام. هذا معناه أن الإسلام ليس له تأويل واحد، بل له تأويلات متعددة، ونفس الأمر بالنسبة للديمقراطية. وكما أنه ينبغي الاعتراف بديمقراطية الآخرين المبنية على التقاليد الثقافية الخاصة بكل بلد، كذلك ينبغي الاعتراف بإسلام الآخرين القائم على تأويل خاص للنصوص وللآثار العملية. إلا أنه كما لا ينبغي، أثناء توسيعنا لمفهوم الديمقراطية، أن نسقط في النزعات الإثنولوجية والطائفية التي تُذهِب بريح الديمقراطية، كذلك لا ينبغي، أثناء توسيعنا لمفهوم الإسلام، أن نسقط في نزعة تأويلية متطرفة تعترف بكل قاطع طريق رفع راية سوداء أو بيضاء أو خضراء ليبرر حقده على الحرية والعقل، أن من حقه احتكار التكلم باسم الإسلام. فالديمقراطية بوصفها منظومة قانونية وسياسية وثقافية حداثية كونية، ينبغي أن تبقى معيارا لأي ديمقراطية محلية؛ والإسلام باعتباره علاقة روحية بين المؤمن وربه يبقى هو معيار كل تأويلات الإسلام الزمنية.
مشكلة كثير من تيارات الإسلام السياسي المتشدد هي أنها لم تستوعب الفرق الهائل بين الشرط التاريخي الذي فرض على الفقهاء في الماضي ضرورة التفكير في الشأن السياسي، وبين الشرط التاريخي والسياسي الحديث الذي يفرض على الفاعلين السياسيين الصادرين عن الرؤية الإسلامية تجديد تفكيرهم في الشأن السياسي. نحن اليوم في عالم جديد كل الجدة، ولا تستطيع اجتهادات الماوردي والجويني والغزالي وابن تيمية وحتى ابن رشد أن تسعفنا في إيجاد الحلول لمشاكله السياسية، وإنما الذي يسعفنا في ذلك هي فتوحات ميكيافيللي ومونتسكيو وجان جاك روسو وكانط وهابرماس ورولس ورورتي. 
واجب الديمقراطيين اليوم لا ينحصر في تحرير الإسلام من مناهضة متشدديه للديمقراطية ومعاداتهم للعقل والحرية والحضارة، بل ويمتد إلى دعوة هؤلاء المتشددين للحوار لاستقطابهم إلى صف الديمقراطيين. ذلك أن مصير الديمقراطية في بلداننا مرهون بكسب الإسلام السياسي إلى صف الحرية والعقل والتسامح والمساواة.
وفي الحقيقة، إذا توقف “الإسلام السياسي” عن الادعاء باحتكار الكلام باسم الإسلام، والتزم بالوطنية بدل العالمية، وبالمواطنة بدل الولاء للعقيدة، والحرية بدل الطاعة، وبالعقلانية بدل اللاعقلانية، وبالحداثة بدل التقليد، فإنه لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطيا. ولا مهرب لـ “الإسلام السياسي” من ذلك إن هو أراد أن يكون له موقع قدم في العالم الحديث، وإن هو أراد أن يستفيد من ثمار الحداثة المنهجية والمعرفية، وأخذ الدروس من نجاحاتها وإخفاقاتها. موازاة لذلك، لا يمكن للديمقراطيين أن يكونوا كذلك حقا ما لم يعملوا على فتح أبواب الحوار مع تيارات “الإسلام السياسي” لإغناء دلالات الديمقراطية وتوسيعها. إذ كلما زاد منسوب العقل والحرية في الحركات والتيارات الدينية، كان ذلك إغناءً للفكر الديمقراطي.

< بقلم: د. محمد المصباحي

Top