الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 12-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • انتشار المنهج التجريبي الجديد وظهور فئة جديدة من العاملين بالطب أصبحوا أكثر عددا

فالعقل والفكر هما الفضيلة الكبرى لدى الإنسان وفي الدولة. أما العمل وما ينتج من خلال الجهد العضلي فهو من الأشياء الدنيا. وطبقا لهذا يذكر أفلاطون ” إن هناك ثلاثة فنون فيما يتعلق بأي شيء : فن استخدامه، وفن صنعه، وفن محاكاته”. أي أن هناك من يستخدم الكرسي، وهناك من يقوم برسم الكرسي، أي محاكاته وهو الفنان، وهناك من يقوم بصنع الكرسي وهو النجار، ويذكر أفلاطون “فلابد إذن أن يكون من يستخدم الأشياء هو أكثر الناس خبرة بها”.

يرى أفلاطون أن صاحب المعرفة العلمية الحقة عن الشيء، ليس الرجل الذي يصنعها، بل هو الذي يستعمله، وهو وحده صاحب العلم الصحيح والذي يجب أن يعطى علمه للمصانع الذي يحصل بذلك على الفكرة السليمة، ورغم أن هذا الرأي يعكس الوضع السياسي والاجتماعي للمدينة – الدولة اليونانية وهو المجتمع القائم على ملكية العبيد، حيث لم يكن يسمح للعبد، وهو الذي يصنع الأشياء، أن يكون أعلى علما من السيد الذي يستعمل هذه الأشياء، فإنه يعبر عن موقف معرفی قوامه الإعلاء من قيمة العقل والأفكار المجردة على حساب الخبرة العملية القائمة على المحسوسات، وهو موقف فكری ساد الحضارة اليونانية بأسرها.

وتمثل أفكار أفلوطين والذي ولد بمدينة ليقوبوليس (بقرب الواسطى بصعيد مصر عام 200 م رؤية للوجود تعتمد على تسلسل مراتب الوجود هبوطا من المبدأ الأول، الذي يسميه أفلوطين الواحد أو المبدأ الأول. ومن هذا الواحد تفيض كل المراتب الأخرى الموجودات، ولأفلوطين تشبيهات في هذا المجال لتقريب فكرة علاقة هذا الواحد بما يليه من الموجودات، أشهرها تشبيهه بفيض النور من منبعه وفيض الماء من ينبوع . فكل موجود يوجد في المبدأ الأول عليه ويفيض عنه الذي يليه، دون أن يعني ذلك وجود علاقة مكانية بينهما). وحسب هذا الترتيب يفيض عن الواحد العقل ثم النفس ثم المادة، وهي آخر سلسلة الموجودات وأدناها. هذه المادة تتصف بصفة الاضطراب وهي مصدر الشرور وهي الأصل الذي تتكون منه الأشياء في هذا العالم. في عالم المادة، أي العالم المحسوس وعالم الظواهر، يلاحظ ترتيب من نوع أخر حيث يوجد في أعلاه الإنسان تاليا في الترتيب للملائكة، ثم سائر المخلوقات الحيوانات التي تندرج وصولا إلى الزواحف والقوارض والحشرات والهوام، ثم عالم الجماد كالبحار والأنهار. وهنا نلاحظ أن أدنى المخلوقات في العالم المادي مثل الفئران والزواحف تتصف بصفة النجاسة والقذارة والانحطاط.

يتضح مما سبق أن أفكار كل من أفلاطون وأفلوطين (الأفلاطونية المحدثة) تقوم على الترتيب الهرمي. ففي الأفلاطونية هناك ترتيب حسب درجة المعرفة قوامه العقل في الدرجة الأولى وفي أدناه الخبرة الحسية والتجربة، وفي الأفلوطينية هناك ترتيب قوامه مراتب الوجود حيث الإنسان أسمى المخلوقات، وفي أدناه عالم الحيوانات وعالم الجماد، هاتان الفكرتان اللتان اختلطتا بعقائد الكنيسة الكاثولكية كانتا من أهم العقبات أمام إدراك المنهج الجديد في مجال الأوبئة ومقاومتها كما يذكر المؤلف. فما هي هذه المناهج والرؤى الجديدة التي اصطدمت بهذه الأفكار القديمة في تلك الفترة، أي الفترة بين ظهور الطاعون الأول عام 1397م ، واختراع ما يدعيه المؤلف بإجراءات مقاومة الطاعون الذي ظهر في مدن الشمال الإيطالي منذ عام 1379 م؟ إن الذي ظهر في تلك الفترة وأثار عاصفة كبيرة من ردود الأفعال من جانب المدافعين عن الفكر القديم القائم على أفكار أفلاطون وأفلوطين – هو العلم العربي والطب العربي ومنهجه التجريبي. والحقيقة أن المنهج التجريبي في حد ذاته لم يكن هو الذي أثار هذه العاصفة الشديدة من ردود الأفعال في المجتمعات المسيحية في أوربا، ولكن الأسس الفكرية والأصول الدينية التي أدت بالعلماء العرب إلى ابتكار هذا المنهج هو ما أثار ردود الفعل هذه.

إذن المنهج التجريبي، القائم على التجربة والملاحظة وتطبيقاته في كافة العلوم ومنها علم الطب، كان هو المنهج الجديد الذي تبناه الأطباء ورجال الفكر الأوربيون وأحدث انقساما حادا بين أتباع المنهج القديم بفكرتيه السابقتين من جهة، والتجريبيين أصحاب المنهج الجديد من جهة أخرى، وهو ما أشار إليه المؤلف في “تحامل الطبقة المتعلمة ضد الملاحظة التجريبية”: ص ۷۸، ويذكر في هذا السياق أن اعتبار الفئران من المخلوقات النجسة غير الجديرة بالإهتمام – حسب رأي أفلوطين – جعل من المستحيل على الأطباء الأوربيين من أتباع الفكر الطبي القديم لجالینوس إدراك وجود أي علاقة بين الإنسان والفئران وبين الطاعون والفئران. وهو ما ذكره المؤلف بقوله ” إن هذا النوع من السلوك بواسطة الفئران كان يعتبر كفعل غير ظاهر ، غير مرتبط بالطاعون” ص78.

أدى انتشار المنهج التجريبي الجديد إلى ظهور فئة جديدة من العاملين بالطب، الذين أصبحوا أكثر عددا وهم التجريبيون، كما أطلق عليهم في هذه الفقرة، والذين حصلوا على مهاراتهم في الشفاء من خلال المحاولة والخطأ – وهؤلاء اعتبروا في منزلة أدنى من الأطباء الذين تعلموا الطب القديم حسب تعالیم جالینوس. هذه النظرة لهذه الفئة الجديدة ظهرت خلال هذا الهجاء الحاد من قبل أحد الأطباء المدافعين عن الفكر الطبي القديم أثناء طاعون لندن، الذي ظهر بين 1903 – 1911 م، حيث أوضح أن التجريبيين يستقون معارفهم من الطبيعة المجردة والمنظورة، والإهمال هو أهم ما يميزهم ويجعلهم مختلفين عن الأطباء الحقيقيين : ص93. أكثر من هذا فقد عبر الكاردينال جاستدالی عن هذه العلاقة المتوترة بين الفئتين، خلال طاعون 1909 – 1908 الذي ظهر في روما، حيث كتب بحرارة عن فشل الأطباء من ذوي الفكر الطبي القديم في علاج الطاعون، ورأى أن : التجربة العملية تظهر أن العلاج المستعمل بواسطة الأطباء المتخصصين غير نافع وفي بعض الأحيان مؤذ: ص90

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top