تدل كلمة الحلقة في معاجم اللغة على شكل هندسي، يقال: تحَلَّق الناس إذا جلسوا حلقات. وتحلق القوم أي جلسوا حلقة حلقة، وفي الحديث النبوي الشريف “لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين أي الجلوس حلقا حلقا”. وقد تكون حلقة طارئة فيتحلق الفضوليون حول شخص أو منازعة؛ فيقال في اللسان الدارج المغربي: “داروا عليهم حلقة”؛ أي اجتمعوا حول أمر ما من باب الفضول والاستطلاع. أما حلقة الفرجة الشعبية فهي مجلس ترفيهي يتحلق فيه الناس في السوق أو الساحة العمومية حول قاصٍّ أو مغنٍّ أو منشد بهلوانيٍّ يبهر العيون ويستهوي الأفئدة، وتجمع الحلقة على “حْلاقِي”، ويعرف فنان الحلقة ب”الحلايقي”.
إن تعريف الحلقة يجد له صدى كبيرا لدى عدة تعاريف تخص المسرح مما يدل على أن هناك تقاطعات كبيرة على مستوى العناصر والمكونات والرؤية والأبعاد، وهذا ما يعزز الرأي القائل بأن الحلقة من الفنون الممهدة لظهور المسرح. ونورد هنا على سبيل التمثيل التعريف الذي قدمه إتيان سوريو للمسرح قائلا: هو الفن الذي يقوم على جمع الناس لطرح مصائرهم أمام أعينهم، وما تتضمنه من مشاكل، وذلك بواسطة عويلم مركزي يكون في حالة انفعال، تجري في ثناياه الأزمة الحيوية لأشخاص محدودين، تلك الأزمة التي تجعل مصير العالم الإنساني متقمصا، حاضرا في العقل والحواس، لأنها تقوم بدور الممثلة المؤقتة لديه.
فإذا تأملنا هذا النص برؤية مقارنة، سنجد أن الاعتبارات المحددة ضمن هذا التعريف تتحقق في الحلقة مثلما تتحقق في المسرح، سواء على مستوى حضور الممثل أو نقد الواقع الاجتماعي والسياسي أو توفر جمهور يستمتع بالعرض بشكل مباشر في فضاء معين، ومن ثمة يمكن القول بأن المسرح هو فرع من الفروع الفنية المتفرعة عن فن الحلقة التي تعتبر فرجة البدايات والإرهاصات، وأكثر من ذلك فهي أنجبت فروعا فنية دون أن تفقد هويتها أو تذوب في الأشكال الجديدة، بل ظلت مستمرة إلى جانب هذه الفروع والأشكال صامدة متجددة رغم إمكانياتها المتواضعة.
تعد الحلقة فنا مغربيا ضاربا بجذوره في أطناب القدم، فهي تعمل على تمرير القيم إلى أفراد المجتمع بطريقة غير مباشرة، حيث كانت تعمل على توعية المجتمع وتقديم خدمات ترفيهية والتفريج عن نفوس الجمهور، وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، وخدمة اللحمة الاجتماعية والقضايا العامة. كما تعتبر الحلقة شكلا من أشكال المسرح الشعبي المرتبط بالمبادرة الشخصية والتلقائية الذاتية، أبطالها أشخاص متمرسون بفن الحكي وبراعة التقديم والتمثيل والسخرية والإضحاك والإبكاء. يتميزون بالقدرة على الانطلاق في حلقتهم من الواقع الحياتي وحاجات الجمهور وقربهم منه. وقد تكاثرت “الحلاقي” في الفترة المعاصرة، خاصة أيام الحماية، وتنوعت مشاربها، وأخذت تستقطب جمهورا واسعا في الحواضر، كمراكش وفاس ومكناس وسلا وتطوان. ويعتبر عباس الجراري أن الحلقة في طليعة الفنون الشعبية، يديرها أمام جمهور متحلق في شكل دائري ممثلون فرديون، يروون المقامات، ويقصون الحكايات الخرافية، والسير الشعبية، وقصص البطولة والأنبياء، وينشدون قصائد الملحون، والمحاورات منها خاصة، مازجين في ذلك بين السرد القصصي والإنشاد الشعري، والأداء الغنائي، معتمدين على التشخيص بجميع ما يقتضيه من عناصر التمثيل. وقد اشتهر من هذه الحلقة نمط كان يطلق عليه “لَفْرَاجَا” (نسبة إلى الفرجة) يلحُّ على المقومات المسرحية، خاصة ما كان منه يقام في بعض المناسبات، ولاسيما في ليلة عاشوراء.
إن الحلقة فضاء لعبوي ((ludique مشترك بين القرى والحواضر، يعرض فيه فنانون شعبيون أعمالهم المدهشة والطريفة، وكل ما يمتلكه كل واحد منهم من مهارات فنية في مجال الحكي عن الإنس والجن والحيوان، وابتكار ألعاب بهلوانية أو سحرية أو ارتجال الشعر والنكت، وهي فن يمزج الجد بالهزل، ويخلط الواقع بالخيال والتاريخ باللاتاريخ، لأنه يعتبر فضاء لازمنيا غير محدود، فضاء مفتوحا عبر شكله الدائري وفرجاته المتعددة القائمة على ارتجال وبلاغة الجسد والموسيقى، الشيء الذي يجعل هذا الفن يستحضر كل الأزمنة في لحظة واحدة مخصبة بكل المكونات التي ذكرناها سابقا، تنفلت من اللحظي لتسبح في الملكوت دون قيود، هي هذا التوتر الدائم، الممتص لكل الفجوات والمشترك المتضمن كلّ العناصر الحياتية والفكرية والثقافية التي تعزف، في الآن نفسه، على مئات الأوتار.
وتتخذ الحلقة، بالمغرب، بعدا حضاريا وتتبوأ موقعا وثيرا في تاريخية الهوية والفكر والفن؛ إذ تعتبر لدى بعض النقاد اللبنة الأساس لتشكل الفنون وترعرعها ونشوئها، لكونها تندرج ضمن الأشكال الما قبل– مسرحية المعروفة لدى الجميع كالحلقة والبساط وسلطان الطلبة وسيدي الكتفي وشيخ الرما والأعراس وغيرها.
يتضح أن فن الحلقة يعد من المؤسسات الفكرية والأدبية التي لا يمكن التغاضي عنها في المغرب، لأنها تمثل، بحق، شقا مهما ومؤسّسا في الأدب الشفهي. فإن الحلقة تتميز بإثارة من نوع خاص تجعل المتلقين يفدون عليها من كل حدب وصوب على اختلاف مشاربهم وعقلياتهم وطبقاتهم الاجتماعية، متعلمين وأميين، عارفين وجهلة، كلّ يجد فيها ضالته، كل تغريه بمنطق خاص، تخاطبهم دفعة واحدة لكنهم يجدون فيها متعا بطعوم متباينة، ومنهم من يأتيها راغبا في جني البركات والتيمن بكرامات الشرفاء. والملاحظ أن هذا الفن لم يلق، حتى الآن، الحفاوة اللائقة من طرف الدارسين والباحثين رغم الأهمية الكبرى التي يحتلها في المخيال الشعبي والفكري للعامة والخاصة، فهو إبداع البسطاء بتلقائيتهم وتواضع إمكانياتهم وقلة حيلتهم وانسحاقهم بين أنياب الدهر وضعف وسائلهم.
فنان الحلقة/ الحلايقي
الحلايقي هو الشخص الذي يشكل جوهر الحلقة ونواتها وعمودها الفـقـري، أي الفنان الشعبي الذي يتحَلَّق حوله الناس لتحقيق فعل التواصل الذي يؤطر هذا الفضاء الفرجوي المميز، فتحقيق حلقة الناس يتوقـف على وجوده، وانصرافهم يتوقف على انصرافه. إن فنان الحلقة (الحلايقي) متمرس وخبير بأحوال الناس والقضايا التي تقض مضاجعهم بشكل متكرر إلى درجة أنه يعرف متى يضحكهم ومتى يبكيهم، متى يشدهم ومتى ينفرهم، إنه يتحول أحيانا إلى عالم نفسي يخاطب في الناس أهواءهم ورغباتهم، ظنونهم ومقاصدهم، سيئها وحسنها، واضحها وغامضها، ومن هنا، تكمن خطورته وقوته، وفي هذه اللحظة، بالضبط، يصبح مرعبا بالنسبة للآخرين أكثر من اللازم لأنهم يخشون ثورته، واشتعال نار “الحال” لديه، إبانها يستطيع كشف بواطنهم ونقط ضعفهم. يقول الحلايقي بنغمة واثقة: (لي جا على شي يديه، طلبوا التسليم وقولوا الله يستر، هذا حالنا وحنا ماليه ولي بغى دربالتنا يلبسها..)، يكون هذا الخطاب مصحوبا بالغضب والضيم والإحساس بالقهر والتهميش، فيبث الرعب والخوف في قلوب المتلقين فينساقون بوعي أو بغير وعي خلف رغباته الذاتية كالدعاء وتقديم المساهمات المادية أو القعود والوقوف أو الانصراف إلى سبيل الحال، وبالتالي يخلق فنان الحلقة سلطته.
ويشير علال ركوك، في هذا الصدد، إلى أن العديد من الحلايقية بالمغرب كانوا يقومون بتمثيل مجموعة من المسرحيات التي تدور في معظمها حول المتناقضات الاجتماعية كالمَرْضِي (البَارُّ بوالديه) والمسخوط (العاقُّ لوالديه)، والشَّابة والشَّارفة (المرأة العجوز). هذا بالإضافة إل نوع آخر من حلقات الطوائف مثل “عيساوة” وّگنَاوة” الذين يقيمون حلقتهم بمناسبة يوم عاشوراء و”هَدَّاوة” أو “بُوهَالة” الذين كانوا يقيمون الحلقة يتوسطها “إبريق” و”أركيلة” (النرجيلة) و”هرارز” (وسائل لسحق الفواكه الجافة كاللوز …) وكانت لهم مجموعة من المرددات الصوفية.
ويتميز رجال الحلقة بطابعهم الجوال، إنهم يمارسون حرفتهم من خلال تواصلهم واتصالهم بالمجتمع المغربي وبتراثه الشعبي الثري، فيجيدون توظيفه في مسارحهم وحلقاتهم، عن طريق الارتجال السَّلِس للعديد من القضايا والقصص في قوالب لغوية تجذب الجمهور الواسع. ويتم ذلك من خلال استرجاع الذاكرة الثقافية الجماعية السائدة ضمن إطار فرجوي يغري بالمتابعة والاستماع.
عز الدين المعتصم