الدرس الافتتاحي لدار الشعر بمراكش يقارب موضوع “الشعر والآخر”

 انتهى الشاعر محمد الأشعري، وهو ينسج ما وسمها بـ “أفكار بسيطة وتساؤلات” في ارتباط بتيمة الآخر وعلاقته بالشعر، إلى قدرة النص الشعري على تشكيل “سفر وترحال داخلي” عميق ومسكوك بأسئلة وأفضية، وحين يرتهن السؤال إلى “راهنه” اليوم، يبدو الشعر، بوصفه “كيمياء داخلية” تأبى عن الارتباط الوثيق بمفهوم الغيرية، أقرب إلى إنتاج “معرفية جديدة. لذلك، تنقلب المعادلة تماما، ويصبح الذهاب إلى الآخر.. ذهاب إلى دواخلنا. ولأن “الشعر مساء آخر”، كما يؤشر الشاعر والمترجم احساين بنزبير (المقيم في فرنسا)، فإن مفهوم “الآخر” يتحول إلى لحظة كشف وتحول. سافر الشاعر بنزبير، من خلال نصوص ومقولات وشهادات، إلى رؤى تستلهم الغيرية ضمن علاقة باللغة وبالذات. العدالة الشعرية، “النحن”، إبصار اللغة، إبصار المتعدد، والآخر “الغرابة”.. سلسلة لا تنتهي من تعريفات وأسئلة، ليظل مفهوم “الآخر”، بتعبير عبدالكبير الخطيبي “تلك العلاقة الاندماجية المفضية الى الذوبان فيه”، وينتقل الترحال و”السفر”، لا التفكير في نقطة نهايته، الى “سفر داخلي” كما أشر الشاعر الأشعري وهو يدعونا إلى تأمل العلاقة “الصادمة” والتي جمعت فيكتور سيغالين وفرانسوا شينغ.

 سبق لسيغالين أن استبصر، من خلال علاقة موسومة بالانفتاح، حوارية روحية “غيرية” ومخلخلة لمفهومي الشعر والسفر. وحين يستدعي الشاعر الأشعري شخصية فرانسوا شينغ، فلأنها ظلت على الدوام تتمثل هذا الفكر الوقاد والخلاق، في قدرته على “عبور سلس” بين عالمين (الصين/الشرق، فرنسا/ الغرب)، وتلمس الإدراك الحسي في تناغم مبهر بين ثقافتين. لقد ظل مفهوم “الآخر” محددا أساسيا لتمثل الهوية، غير أنه يؤشر، ضمن سياق ما نقترحه هنا، على خلفيات محددة تمثل نصوص وجغرافيات شعرية ومرجعيات وهويات فاعلة في الشعر، وأيضا محددة لكل تجربة شعرية على حدى، غير أن حدود وأنساق هذه الغيرية بدأت تلتبس وأمست بلا حدود.

جمالية المختلف والترحال الكبير:

 يستدعي الشاعر احساين بنزبير مقولة النفري “أعرف أني لا أعرف”، ليخط ما يشبه “جسد نصوص” متفرقة، بين دريدا والخطيبي و رونيه شار والغزالي والمعري وطرفة بن العبد وبارث، انتهاء بـ “غرابة” جبران في فضاء الكتابة. عن “الآخر” والشعر، في تفكك العلاقة بين “ذات الشاعر” حين يبصر “الآخر المتعدد المزركش”، وحين تمسي اللحظة، وقت الكشف والتحول وهو ما يفضي إلى تفكك العلاقة بالكتابة والعالم. وعن الشعر و”السفر الكبير”، يفكر الشاعر محمد الأشعري في شينغ وسيغالين، حيث يسكن المختلف إذ “ما نحس به من فرق عندما نتماهى مع الآخر”، و”تذوق جمالية “المختلف”.

 ما يهم، يشير الأشعري، هو فعل “المغامرة” والتجربة في بناء فضاءات أخرى، وتلك “المغادرة والعودة الدائمة”. ومن هنا يمكن تأمل أسفار بيسوا وسيكالين ورامبو، فالذهاب نحو الآخر، تجربة روحية، وليس المهم الوجهة ونقطة الوصول، بل الرؤى التي تنبثق عنها لبناء رؤا”نا”. قد لا نعرف ما ننسجه عن أنفسنا، داخل هذا السفر والذهاب والترحال، لكن هذا التلاقح الخلاق، بين الأشخاص والأمكنة هو ما جربه الشاعر والروائي، الأشعري، ضمن منجزه النصي وهو ما يجعل فعل الكتابة فعلا لديمومة الأسئلة.

 وحتى الأمكنة واندثارها في النص الشعري، يطرح أسئلة عن الكتابة الشعرية وحاجتها للسفر نحو وجهات أخرى، أو نصوصا، أم يحتاج الشعر إلى ترحال للعثور على “لغتنا الخاصة”. لذلك ينتهي الأشعري إلى مقولة الشعر والمعرفة، من خلال استدعاء علاقة الشعر بالفلسفة من انبثاق أسمى هو تقاطع الأدب، نفسه، بالفلسفة حيث يتوجه كل منهما نحو الآخر، والذهاب الى الآخر، هو سفر “مجازي” مفعم بالاستعارات لأنه ذهاب الى “دواخلنا”.

 خص الشاعر محمد الأشعري جمهور دار الشعر بمراكش، بقراءة قصائد جديدة من ديوانه قيد الطبع، “ديوان أحوال بيضاء” في تمثل لنفس الروح والترحال الأبدي الداخلي. واختار الشاعر احساين بنزبير، والذي يعتبر الشعر تعميقا للخراب الحتمي، قصيدة جديدة من مخطوط ديوانه الذي سيصدر قريبا، ليتقاسم رؤاه مع موضوع اللقاء كما أسهم بتقديم ترجمة لبعض ما ورد في ورقة الشاعرة جميلة أبيطار “الشعر والآخر”: وشم على جسد طفل يطل على العالم”. شهادة شاعرة عن “الطفل” وهو يتلمس ضوء العالم، وعن الكتابة التي تفضي الى الذات والآخر، الأمر سيان في تمثل لحظة ال”نحن” والمشترك. هذا المشترك الإنساني، والذي سبق لدار الشعر بمراكش أن تناولته في درس افتتاحي سابق، هو ما يؤسس للأفق والمستقبل.

“الدرس الافتتاحي” للدار، ضمن سياق ما يطرحه من أسئلة وقضايا تهم الخطاب الشعري، سعي حثيث من دار الشعر بمراكش إلى مواصلة هذه السلسلة من استقصائها ومقارباتها، وهي تفتتح الموسم الجديد، بعد دخول ثقافي مبكر، من خلال فقرة الأبواب المفتوحة والتي اختتمت السبت العاشر من شتنبر بتنظيم الصالون الشعري الثالث، عبور جديد لبرمجة استثنائية للدار وانفتاح جديد على أسئلة وجغرافيات شعرية. في أفق تحيين لاستراتيجيتها منذ التأسيس، في أن يظل الشعر قادرا على فتح كوة على الأسئلة التي تهم إنسانية الإنسان، وعلى ترسيخ المشترك الإنساني.

Related posts

Top