قدر لستيف جوبز أن يلعب دورا مميزا في التطور التكنولوجي الذي شهدته البشرية على مدى السنوات الأربعين الأخيرة، في أوائل الثمانينات كان جوبز من أوائل من أدركوا الإمكانيات التجارية لفأرة الكمبيوتر وواجهة المستخدم الرسومية، الأمر الذي أدى إلى قيام أبل بصناعة كمبيوترات ماكنتوش.
كانت النقلة الثانية التي أدخلها جوبز إلى عالم التكنولوجيا، وبدأت عام 2000، هي تحويل استخدام أجهزة الكمبيوتر من الاستخدام المكتبي إلى الاستخدام المحمول، عن طريق سلسلة من المنتجات التي لاقت رواجا، وشملت السلسلة أجهزة آيبود وآيفون وآي باد ومتجر “آي تيونز” الموسيقي العملاق ومتجر “أبل ستور”، الذي يوفر لمستخدمي آيفون تطبيقات هائلة تغطي كل مناحي الحياة.
لقد ساهم ستيف جوبز في وضع المنصة التي انطلقت منها ثورة الإنترنت، وأوصلتنا إلى ثورة رقمية تمثلت قمة إنجازاتها في تطوير الذكاء الاصطناعي.
عندما سئل جوبز ذات مرة عن سر الأفكار الخلاقة التي تتمتع بها أبل قال “إن من يعملون في الشركة ليسوا فقط مبرمجين، بل هم رسامون وشعراء ومهندسون أيضا، ينظرون إلى المنتج من زوايا مختلفة لينتجوا في النهاية ما ترونه أمام أعينكم”. ومن كلام جوبز السابق يظهر لنا السر وراء هذا النجاح المبهر الذي وصل إليه ووصلت إليه شركته أبل.
القدر الذي أتاح الفرصة لجوبز ليترجم أفكاره إلى مبتكرات عملية لم يمهله ليرى نبوءة أخرى، تحدث عنها وهو يصارع مرض السرطان الذي عاجله بالموت في الخامس من أكتوبر عام 2011.
ستيف جونز
غاب ستيف جوبز وبموته غابت النبوءة التي تنبأ من خلالها بما سيكون عليه الحال في هذا القرن، فقد قال قبل أيام من الرحيل “أعتقد أن أكبر الابتكارات في القرن الحادي والعشرين ستكون عندما يلتقي علما الأحياء والتكنولوجيا”. وهذا ما كان.. ولمعرفة أهمية تلك النبوءة علينا أن نقرأ ما حدث أخيرا في العالم.
لقد كان القرن العشرون “قرن التكنولوجيا” كما وصفه الكاتب الإماراتي، محمد الحمادي، رئيس تحرير صحيفة الرؤية ورئيس جمعية الصحافيين الإماراتية، القرن الذي عبر بالبشر “إلى مرحلة جديدة، وما تحقق في الخمسين عاما الأخيرة من إنجازات في مختلف المجالات، لم يحققه بنو البشر طوال تاريخهم الطويل، ولكن أتى فايروس كورونا المستجد على حين غفلة من البشر، ودون أن يميز بين العالم الأول والعالم الثالث، ليقول لهم إن التكنولوجيا ليست كل شيء، وأن صحة الإنسان هي الأهم”.
تبدلت الأولويات فجأة، خاصة بعد تنامي تداعيات الوباء على الاقتصاد وعلى الأمن الغذائي، وبدا العلماء ومن ورائهم السياسيون والحكام في حالة من الارتباك والعجز عن تقديم حلول لوقف انتشار الفايروس عبر دول العالم.
والآن، بعد أربعة أشهر ونصف الشهر من ظهور الحالة الأولى للإصابة بكورونا، يبدو العالم مرتبكا وعاجزا، ليس فقط عن تحديد مصدر الوباء، بل وأيضا عن الوصول إلى علاج، ناهيك عن لقاح له. حتى تعليمات الوقاية وإجراءات العزل لم يتم الاتفاق حولها.
وبينما طالب البعض بفرض حجر عام، أكد البعض الآخر ضرورة تخفيف إجراءات العزل بل وقصرها على الفئات الأكثر تعرضا لخطر الوفاة من كبار السن، ومن يعانون من أمراض مزمنة.
في روسيا، مثلا، أعلنت وزارة الصحة الروسية الأحد عن انخفاض عدد الوفيات لكل ألف مواطن في البلاد خلال الفترة من يناير إلى مارس من العام الجاري 2020، بنسبة 3.8 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. وأوضحت الوزارة أن هذه النسبة تعني بالأرقام المطلقة انخفاضا بواقع 12866 حالة وفاة.
ورغم أن البيان لم يربط النتائج بوباء كورونا، الذي أدى إلى وفاة 1915 مصابا في روسيا، إلا أن ذلك لم يخف الرغبة في تخفيف إجراءات العزل لتخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتنامية.
ومهما اختلفت الآراء وتنوعت النتائج، فإن الجائحة فرضت حضورها سواء على رجل الشارع أو على العلماء والسياسيين، خاصة إذا ربطنا بين التهديدات التي سيخلفها انتشار الفايروس على البشرية، وبين الحقيقة التي ستصحو عليها البشرية قريبا، وأشار إليها الكاتب الإماراتي محمد الحمادي في مقاله “نهاية عصر التكنولوجيا.. بداية عصر البيولوجيا“.
الحقيقة تقول إنه “مع منتصف القرن الحادي والعشرين سيصل عدد سكان الأرض إلى أكثر من 9 مليارات إنسان، وهؤلاء لا يحتاجون إلى الهواتف ولا إلى التكنولوجيا كأولوية، وإنما سيحتاجون إلى الدواء والغذاء والماء”.
لقد هز فايروس جديد ظهر فجأة البنية الاقتصادية والصحية والاجتماعية لدول قوية، ظن مواطنوها أنهم في مأمن من مثل تلك التهديدات، لم تعد الشعوب تقبل دون مساءلة القول بأن الكرة الأرضية التي عجزت في ظروفها الحالية عن الصمود، ستكون قادرة على مواجهة أي نوع من التهديدات مع تضاعف أعداد البشر.
هذه التحديات، ومن ضمنها فايروس كوفيد – 19، كافية للانتقال بقوة وبسرعة إلى ما أسماه الحمادي بـ”العصر الجديد” أو زمن كورونا.
دول عديدة وجدت نفسها مضطرة إلى مراجعة أولوياتها الوطنية، في أجواء يسودها الغموض والتردد، وإن كانت قلة من تلك الدول قد سبقت الجائحة، وأبدت اهتماما مسبقا بتقديم أجوبة حول التحديات المستقبلية.
وفي الإمارات، الحديث عن عصر البيولوجيا أو التكنولوجيا الحيوية لا يعتبر جديدا، كما يؤكد الحمادي، ولم يرتبط بظهور فايروس كورونا، ففي نهاية عام 2018 استضافت أبوظبي بقصر البطين محاضرة بعنوان “التكنولوجيا الحيوية عنوان العصر الرقمي المقبل” ألقاها الدكتور نيكولاس نيغروبونتي، وهو رئيس مختبر الوسائط بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تحدث فيها عن أن العصر المقبل سيكون مختلفا، وستكون لعلم البيولوجيا فيه كلمته.
قاتل صامت
ساق نيغروبونتي العديد من الأمثلة على حالات غيرت فيها التكنولوجيا الحيوية حياة الناس، وأهم ما يلخص حديثه، أنه في غضون الأعوام العشرة القادمة سنرى بشكل متزايد تفاعلا مباشرا للتكنولوجيا مع الدماغ، وهذا التفاعل سيتخذ شكلين متباينين للغاية: من خارج الرأس ومن داخله، مشيرا إلى كيفية تمكين الذكاء الاصطناعي لشخص فقد ساقيه بسبب حادث سيارة أن يمشي من جديد.
وكان طبيعيا أن تتابع الإمارات ما بدأته بعد ظهور كورونا، حيث أكد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، في اجتماع مجلس الوزراء الأحد الحاجة إلى مراجعة الأولويات الوطنية لعالم ما بعد كوفيد – 19، مؤكدا أن الموارد المالية والبشرية بحاجة إلى إعادة توجيه، “أمننا الطبي والغذائي والاقتصادي بحاجة إلى ترسيخ أكبر، من خلال برامج ومشاريع جديدة.. والاستعداد لما بعد كوفيد – 19 هو استعداد لمستقبل جديد لم يتوقعه أحد قبل عدة أشهر فقط”.
العالم يواجه اليوم تهديدين رئيسين، التهديد الأول يلخصه ما أشارت إليه الأمم المتحدة عندما ذكرت أن عدد سكان العالم سيصل إلى 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، ما يعني أن المزيد من الناس سيستهلكون موارد طبيعية أكثر من أي وقت في تاريخ البشرية. فالاستهلاك يتضاعف فعليا كل 10 إلى 12 سنة. أضف إلى ذلك تحديات الاحتباس الحراري.
التهديد الثاني تهديد صحي، ليس أوله، ولن يكون آخره، فايروس كوفيد – 19، فالعالم يواجه أكثر من وباء قاتل، يمكن أن نذكر من تلك الأوبئة، السمنة التي باتت تطول 30 في المئة من الشباب تحت سن العشرين، وتصل نسبة الوفيات بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية إلى 31 في المئة، وتزداد حالات السرطان بمعدل ضعف تزايد عدد السكان.
ويعتبر التدخين سببا رئيسا في الملايين من الوفيات سنويا، فهو يقتل حسب منظمة الصحة العالمية شخصا كل 6 ثوان، أي 5 ملايين وفاة سنويا، ومثله أيضا يقتل تناول مادة السكر، حيث أكد الاتحاد الفيدرالي للسكر، أن السكر يسبب حالة وفاة كل 6 ثوان.
هناك قاتل صامت آخر يفوق الأسباب التي ذكرت شراسة هو التلوث، في كل عام هناك 7 ملايين شخص يموتون جراء التعرض لجسيمات دقيقة في الهواء الملوث، ويعتبر التلوث مسؤولا عن العديد من الأمراض، كالسكتة الدماغية، وأمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الانسداد الرئوي المزمن، والتهابات الجهاز التنفسي.
هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى وفاة ما يقارب 17 مليون شخص على مستوى العالم سنويا، وهي أرقام يقول الحمادي إنها زادت الرهان في السنوات الماضية على أن البيولوجيا والتكنولوجيا، معا، سيوفران إصلاحات لكوكب الأرض وكذلك لجسم الإنسان.
هذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأن القرن الحادي والعشرين سيكون العصر الذهبي لعلم الأحياء، وهو ما عبر عنه العالم الهندي آرفيند غوبتا بلغة المال والأرقام قائلا “الكوارث المزدوجة لصحة كوكب الأرض وصحة الإنسان ستخلق فرصة بقيمة 100 تريليون دولار”.
النجاحات التي أحرزتها العلوم الفيزيائية في القرن العشرين لم تسايرها نجاحات مماثلة في علم الأحياء وعلوم الطب، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت نجاحات مميزة في هذا المضمار، وقد ساهمت التطورات التكنولوجية الحديثة، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، في تمهيد الطريق أمام إحراز تقدم كبير في علم الأحياء.
التكنولوجيا الحيوية أو التقنية الحيوية هي استخدام علم الأحياء لحل المشاكل وصنع المنتجات المفيدة. أبرز أوجه التكنولوجيا الحيوية هو إنتاج البروتينات العلاجية المعدلة وراثيا وغيرها من العقاقير عن طريق الهندسة الجينية أو الوراثية.
لأكثر من عقد، طغت تقنية دي.أن.إي معاد التركيب، أو ما يشار إليه بالهندسة الوراثية، على صناعة التكنولوجيا الحيوية. وتقوم هذه التقنية على فصل الجين لاستخراج بروتين نافع من خلايا منتِجة – مثل الخمائر، أو البكتيريا، أو خلايا ثدييات في مستنبت، لإنتاج البروتين في كميات لاحقا.
في البدء، خشي المستثمرون والباحثون في التكنولوجيا الحيوية من عدم سماح المحاكم لهم بالحصول على براءات اختراع لتطبيق نتائج أبحاثهم على الكائنات الحية، إذ لم يُسمح بالحصول على براءات اختراع للكائنات الحية حديثة الاكتشاف.
لكن في عام 1980، اتخذت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية خطوة ثورية وقضت “بأن الكائنات الحية الدقيقة التي يصنعها الإنسان قابلة للحصول على براءة اختراع”. أدى هذا الحكم إلى ظهور موجة من المؤسسات التقنية الحيوية، وأول انفجار استثماري في الصناعة الوليدة.
في عام 1982، أصبح الأنسولين معاد التركيب أول منتج يصنع عبر الهندسة الوراثية، بعد أن حصل على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية. ومن ذلك الحين، تم تسويق العشرات من الأدوية البروتينية المعدلة وراثيا حول العالم، وشمل ذلك نسخا معادة التركيب من هرمون النمو، وعوامل التخثر، والبروتينات.
وفي السنوات الأولى، كان الهدف الأساسي للتكنولوجيا الحيوية هو إنتاج جزيئات علاجية بشكل طبيعي بكميات أكبر من استخراجها عبر المصادر التقليدية مثل البلازما، وأعضاء الحيوانات، وجثث البشر.
ويسعى الباحثون في التكنولوجيا الحيوية اليوم إلى اكتشاف الأسباب الجذرية الجزيئية للمرض والتدخل بدقة عند ذات المستوى. هذا يعني أحيانا إنتاج بروتينات علاجية توفر احتياجات الجسم الخاصة أو لتعويض نقص ناتج عن خلل وراثي، كالجيل الأول من الأدوية التكنوحيوية.
كائنات معدلة
لكن صناعة التكنولوجيا الحيوية توسعت لتشمل أبحاثها تطوير العلاجات التقليدية والأجسام المضادة التي تُوقف تقدم المرض. بالإضافة إلى الأدوات السابقة، تدخل التكنولوجيا الحيوية في عملية الدمج بين المعلومات الحيوية وتقنية الكمبيوتر، المعلوماتية الحيوية، عن طريق دراسة استعمال المعدات المجهرية التي تدخل جسم الإنسان، تقنية النانو، وربما تطبق التقنيات في أبحاث الخلايا الجذعية والاستنساخ لاستبدال الخلايا والأنسجة الميتة أو المعيبة (الطب التجديدي).
بالإضافة إلى استخدامها في الصحة، أثبتت التكنولوجيا الحيوية فائدتها في عمليات تنظيف المحيط من خلال إنتاج إنزيمات حيوية تحفز التفاعلات الكيميائية، ما يعزز حماية البيئة بفعل الإنزيمات التي تحول الملوثات إلى مواد غير ضارة، وفي الإنتاج الزراعي عبر الهندسة الوراثية.
وتبقى تطبيقات التكنولوجيا الحيوية في القطاع الزراعي من أكثر التطبيقات إثارة للجدل. إذ دعا بعض النشطاء وجماعات المستهلكين إلى حظر الكائنات والمحاصيل المعدلة وراثيا، أو على الأقل سن قوانين تلزم المنتجين بوضع ملصقات تبين للمستهلك وجود مواد معدلة وراثيا في الغذاء.
بدأ إنتاج الكائنات المعدلة وراثيا في الولايات المتحدة الأميركية في الزراعة عام 1993، حين صرحت هيئة الغذاء والدواء الأميركية باستخدام هرمون النمو البقري، وهو هرمون يزيد من إنتاج الحليب في الأبقار، وفي العام التالي اعتمدت الهيئة أول طعام كامل معدل وراثيا، وهو طماطم معدلة للبقاء فترة أطول بعد القطف.
منذ ذلك الحين تم التصريح بالعديد من الكائنات المعدلة وراثيا في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وغيرهما من المناطق، وشمل ذلك ثمارا تنتج مضادات ذاتية لمكافحة الآفات الزراعية، وثمارا تستطيع العيش رغم استخدام السموم المخصصة لقتل الأعشاب الضارة.
في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ازدادت مساحة الأراضي المزروعة بالثمار المعدلة وراثيا بشكل كبير، وتضاعف تقريبا دخل صناعة التكنولوجيا الحيوية في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا خلال خمس سنوات امتدت من عام 1996 إلى عام 2000، ليستمر النمو السريع في القرن الـ21، مدعما بنتائج إيجابية جديدة، خصوصا في مجال الرعاية الصحية.
جائحة كورونا، قد لا تكون السبب المباشر وراء تحقق نبوءة ستيف جوبز، ولكنها حتما سرعت من التقاء علمي الأحياء والتكنولوجيا، هذا الالتقاء الذي سيرسم للعالم منحى جديدا يسير وفقه.