صدر مؤخرا عن مؤسسة “مقاربات” للباحثة المغربية الدكتورة كريمة نور عيساوي أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات بكلية أصول الدين جامعة عبد المالك السعدي تطوان كتاب “العهد القديم: البنية والمضمون”؛ ويندرج هذا الكتاب في إطار الدراسات الأكاديمية التي تعنى بدراسة ونقد التوراة، اعتمادا على المناهج العلمية، بعيدا عن التعصب الديني. وهي خطوة أساسية تسعى من خلالها الكاتبة تجاوز بعض أعطاب الخطاب العربي الإسلامي الحديث والمعاصر الذي لا يأبه كثيرا بتعريف التوراة، وتحديد مكوناتها، ومخطوطاتها، وترجماتها، والذي يقف في نقده للتوراة عند حدود مفهوم “التحريف”، ولا يتعداه إلى مقاربة النص التوراتي وتحليله في ضوء مناهج النقد الكتابي. وحتى لا نسقط في التعميم نستثني في العصر الحديث نُخبة من الباحثين المتخصصين.
ويجب التأكيد أن المشكلة ليست في مفهوم “التحريف” في حد ذاته؛ فالقول بتحريف التوراة، كما هو معلوم، ليس من اختراع العلماء المسلمين أو من اجتهاداتهم، بل هو معطى قرآني لا يحتاج إلى تأويل..
إن المشكلة تكمن في تلقف هذا المفهوم، وعدم البحث عن دلائل من داخل النص التوراتي. ومن المفارقات أن علماءنا المسلمين القدامى، وعلى الرغم من ندرة نُسخ الكتاب المقدس، وعدم إلمامهم بلغات مثل العبرية أو السريانية، كانوا حريصين على قراءته، وتفكيكه، والتنقيب عن بعض مظاهر الخلل الذي يعتريه. وليس صدفة أن تكون هذه الكتابات العربية الإسلامية مصدرا من مصادر النقد الكتابي الغربي، وأن تُسهم بقسط وافر في نشأة علم مقارنة الأديان أو ما كان يصطلح عليه باسم علم الملل والنحل.
الكتاب يقدم تعريفا مبسطا للكتاب المقدس (La Bible) على اعتبار أن التوراة جزء لا يتجزأ منه، من دون تجاوز تعريف التوراة بأسفارها الخمسة كما يتناول بكثير من التفصيل مختلف التسميات التي أُطلقت عليها، والمراحل الطويلة التي مرت بها. مع الإشارة إلى مجمل النصوص القانونية وغير القانونية في الديانة اليهودية والمسيحية على حد سواء، مرورا بتعريف مختلف الترجمات التي تناولت التوراة العبرانية ولعل أولها الترجمة السبعينية (La Septante)، ثم الترجمة اللاتينية المعروفة بالفولكاتا (La Vulgate)، والترجمة الآرامية المشهورة باسم الترجوم (Le Targum).
ولأن المسار النقدي للتوراة يتطلب الاطلاع على مختلف المخطوطات المكتشفة، وأماكن وجودها، والخط الذي دُونت به هذه الأسفار، ومجمل المستجدات التي توصل إليها العلماء بعد اكتشافها فقد عرجت الكاتبة على أهم المخطوطات التي كان لها الفضل في تغيير مجموعة من المعطيات التي كانت إلى عهد قريب من المسلمات.
أما الفصل الثاني فخصصته لموضوع “نقد التوراة”، وافتتحته بجرد تاريخي للأنبياء المتأخرين الذين كان لهم اهتمام جلي بما خلفه أسلافهم الأوائل، وتمثل ذلك في توجيه نظرهم إلى تلك النصوص من أجل نقدها ودراستها وتنقيحها، وهو الموقف الذي سيتبناه علماء اللاهوت المسيحي فيما بعد حيث كان لهم موقف نقدي واضح من التوراة، مرورا بابن حزم الأندلسي الذي أرسى بعض أُسس الدراسة النقدية للتوراة في ضوء مفهوم محدد للتَّحريف قبل العلماء الغربيين بستة قرون، وانتهاء بباروخ اسبينوزا (Baruch Spinoza) وريشارد سيمون (Richard Simon) وجون أستروك (Jean Astruc) ويوليوس فلهاوزن (Julius Wellhausen).
وقد أثارت الكاتبة في مقاربتها لأثر العلماء المسلمين في نقد التوراة، وعلى رأسهم ابن حزم الأندلسي، مجموعة من الإشكالات من قبيل: ما مدى معرفة ابن حزم بالتوراة العبرانية، والتوراة السامرية؟. وهل كانت له درايةٌ باللغة العبرية؟ وما هي المصادر التي اعتمد عليها في نقده للتوراة؟
وحتى تكون دراستها مستوفية ومحيطة بالموضوع الأساس قدمت تعريفا للحركة العلمية لنقد التوراة (والكتاب المقدس بشكل عام) في الغرب الأوروبي وتطرقت إلى أعلام هذه المدرسة أمثال “باروخ سبينوزا” (Baruch Spinoza) في كتابه المعروف (رسالة في اللاهوت والسياسة – Traité théologico-politique)، و”جون أستروك” (Jean Astruc) في كتابه Conjectures sur la genèse)، و”ريشارد سيمون” (Richard Simon) في كتابه الذي أثار جدلا كبيرا (Histoire critique du vieux testament)، وأخيرا “يوليوس فلهاوزن” (Julius Wellhausen) من خلال كتاباته في مجال نقد التوراة، أي نظرية المصادر.
إن الحديث عن رحلة التوراة الطويلة والممتدة من عهد “موسى عليه السلام” إلى عصرنا الحالي، وعن تأسيس علم مقارنة الأديان ونقد التوراة، حتم على الباحثة اعتماد المنهج التاريخي موازاة مع المنهج التحليلي المقارن أثناء المقارنة بين كل من “ابن حزم الأندلسي” و”باروخ سبينوزا”، في حين كان المنهج الاستقرائي مجالا رحبا أثناء دراستها لبعض نصوص التوراة.
كانت هذه مجمل القضايا التي شكلت مادة هذا الكتاب الذي تهدف من خلاله الكاتبة أن يكون عونا للباحثين وعموم القراء في التعرف على مكونات وقضايا العهد القديم. من حيث الشكل فإن الكتاب من الحجم المتوسط أما صورة الغلاف فهي عبارة عن مخطوطة للعهد القديم وتحديدا مقاطع من سفر التثنية.