تفيد التجارب الميدانية بأن للعروض السينمائية المتنقلة أثر كبير في تقريب المنتوج السينمائي من الناس، وخلق فرص حقيقية للتواصل الفني والفكري بينهم، وفك العزلة عن الأقاليم والمناطق البعيدة عن القاعات السينمائية التي صارت تنقرض يوما بعد آخر في المغرب والعَالَم العربي عموما، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة التفكير بشكل جدي في إحياء القوافل السينمائية، والتعريف بالأفلام المغربية التي تدعمها الدولة، ولا يراها إلاّ نزر قليل من المغاربة، فقد أبرزت تجاربُ العروض السينمائية بالعالم القروي والفضاءات المفتوحة داخل بعض المدن، سيما منها الأحياء الهامشية، مدى النجاح المتحقق والتفاعل الحاصل مع القضايا التي تطرحها الأفلام.تندرج العروض المتنقلة ضمن ما يمكن أن يسمى عروض ال,قرب التي تذهب إلى الناس حيث هم، وتستدعيهم إليها، كاشفة عن رؤى مغايرة من شأنها أن تحفز المتفرجين على تأمل أحوالهم وذواتهم، وفتح علاقات المقارنة في ما بينها وبين الأشباه أو الأغيار، فليست السينما عاكسة دائما لانتظارات الناس، بل قد تكون صادمة، ومخلخلة للمعتاد لديهم أو فاتحة لأعينهم على الجديد.
ولنا في تاريخ مثل هذه التجارب منذ الزمن الكولونيالي مرورا بفترة ما بعد الاستقلال خير دليل؛ إذ كانت الأفلام الوثائقية والدرامية الصحية والفلاحية والترفيهية تذهب إلى القرى والمداشر والتجمعات الحضرية الصغرى، بعضها مُغْرِضٌ وأيديولوجي، وبعضها الآخر وثائقي توعوي يهدف إلى الارتقاء بالناس ومساعدتهم على تحسين أوضاعهم، ووقاية أنفسهم، والرفع من مردودهم الفلاحي.
وتراجع المغرب بشكل كبير في ما يتعلق بالعروض السينمائية القروية، فقد اهتمت المهرجانات والتظاهرات والملتقيات السينمائية المنتشرة في جل البقاع بالمدن فقط، وصارت تنظم داخل الأماكن المغلقة (دور السينما، قاعات متعددة التخصصات، دور الشباب، قصور المؤتمرات…)، ولم يعد يخرج منها إلى الفضاءات العمومية المفتوحة إلاّ القليل، وغالبُ الظن أن الأمر يرجع إلى الحد من التجمع، والخوف المضمر من النقاش العلني الذي كان النادي السينمائي يشكل بؤرته الأساسية إبان الستينات والسبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث انتشر الفكر اليساري التقدمي المدعوم بالأفكار التنويرية، فكانت الأفلام وسيلة حقيقية لنشر الفكر النقدي التغييري، فضلا عن نقل الأفكار الجديدة التي تؤزم مثيلاتها التقليدية مما ساهم في خلق نخب بديلة كان لها الفضل في خلق ديناميكية في دفع المجتمع السياسي والمدني نحو التطور رغم الكلفة الباهظة التي دفعتها ثلة من المناضلين.
وتلجأ بعض المهرجانات والتظاهرات السينمائية المغربية إلى اعتماد العروض السينمائية المتنقلة، لكن غالبيتها تظل محصورة على المدارات الحضرية، وقلة منها تحظى بالانتشار في الأوساط القروية المقصية من الحق في الفرجة، وقد مكنتني تجربتي الشخصية الأخيرة كمكلف بقسم السينما خلال الدورة الرابعة لمهرجان الحوز من ملامسة مدى النجاح الذي حققته العروض السينمائية المتنقلة في قرية آزرو، وفي منطقتي غمات وإمليل، إذ تفاعل الجمهور الذي وصل عدده في بعض الأحيان إلى ثلاث مئة شخص مع كل الأفلام بما فيها الوثائقية.
وتطرح هذه المعطيات إعادة التفكير في الترويج للمنتوج السينمائي المغربي، ومسألة العدالة الترفيهية والثقافية، وقضية فك العزلة عن المناطق الهامشية والبعيدة عن طريق التفكير في دعم المبادرات الرامية إلى بناء قاعات القرب، وتشجيع ثقافة الصورة بشكل واسع.
للسينما علاقة وطيدة بالفضاءات العمومية، وهنا تكمن قيمة وأهمية مثل هذه العروض، فهي تقترب من الناس وتُجَمِّعُهُم، تحثهم على التواصل كقيمة إنسانية كبرى تدفع الفاعلين نحو فتح أواصر الحوار، وتطوير آلياته وأخلاقياته، وذلك بغية الوصول إلى خلق وتطوير فعل إنساني من شأنه أن يرقى بالممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها نحو الأفضل، فالفضاء العمومي حقيقة واقعية عاكسة لما يعتمل داخل المجتمع، وما يروج بين الناس من قيم وأفكار وتصورات. وبهذا المعنى تكون السينما داخل هذا الفضاء مساعدا أساسيا على رفد المخيال الفردي والجماعي بمقترحات جديدة تحفزه على النقد والتجديد والمقارنة.
ويمكن أن تكون العروض السينمائية المتنقلة مُنْقِذًا لبعض المهرجانات التي لا تعرف إقبالا جماهيريا كبيرا رغم ميزانياتها الضخمة، فغالبا ما نجد أن المدعوين هم الذين يؤثثون قاعات السينما ويحضرون الندوات وكأننا نستضيف الناس مقابل الترفيه والمآدب كما يحدث في الأعراس والحفلات، وذلك في ظل غياب (هروب) شبه تام للجمهور العادي، وكأننا أمام مقاطعة منظمة لمثل هذه التظاهرات! ومن الأمثلة الناجحة والهامة التي يمكن أن نضربها في هذا الباب، العروض الجماهيرية التي ينظمها مهرجان مراكش بساحة “جامع الفنا” الشهيرة، والتي تعرف تفاعلا كبيرا مع الأفلام والضيوف، سيما إذا كانت لأصحابها شعبية كبيرة كنجوم هوليوود وبوليوود.
وعرفت الفترة الاستعمارية رواجا كبيرا للعروض السينمائية المتنقلة بالنظر لأهمية التواصل مع “الأهالي” كأولوية لدى السلطات الفرنسية، فقد كانت تسعى لنشر قيم ومعتقدات بديلة عن تلك التي يعتنقها الناس، ويذيعها المقاومون.
ولئن ظلت تلك الممارسة حاضرة بعد انصراف المستعمر، فقد تقلصت نتيجة انتشار قاعات السينما بالمدن، والتي وصلت إلى رقم قياسي في سنوات الثمانينات من القرن الماضي (حوالي 250 قاعة)، بالرغم من أن سكان البوادي يعانون إلى اليوم من غياب فضاءات الترفيه والقراءة.
ويمكن للقافلة السينمائية أن تلعب دور الوسيط بين صناع الأفلام والجمهور البعيد من جهة، وبين الدولة والمواطنين من جهة ثانية، فقد تعجز الوسائل الأخرى من قبيل التلفزيون ووسائط التواصل الاجتماعي عن نشر قيم الحداثة والمواطنة والتعدد في ظل انتشار الأمية، وتقلص فرص النقاش العمومي التفاعلي.
وبناء عليه، فإن العروض المتنقلة تشكل حلا مؤقتا لعرض الأفلام في ظل عجز الدولة عن تعميم الثقافة بشكل عام، وقطعا للطريق على أصحاب الفكر الواحدي الذين ينتعشون في الأماكن البعيدة بطرق خاصة وملتوية، ويحاربون السينما الجادة بشتى الوسائل لاقتناعهم الراسخ بقدرتها على تحريك الجماهير والدفع بالنقاش نحو التحرر والتطور.
محمد أشويكة
القوافل السينمائية بالمغرب.. طريق معبد نحو نشر قيم ومعتقدات بديلة
الوسوم