سيتولى الكمبيوتر والربوت في المستقبل القريب تنظيم حياتنا اليومية، وستتحكم تكنولوجيا الألفية الثالثة بالمساكن البشرية، التي ستتحول إلى مراكز عمليات تحميها إجراءات أمنية مشددة، يمكن من خلالها القيام بأنشطة متنوعة، لن يضطر الإنسان فيها للخروج إلى الشارع، كل هذا ضمن نمط عيش داخل ما أصبح يسمى بـ “المدن الذكية”.
ويطلق مصطلح المدن الذكية على الأنظمة الإقليمية ذات المستويات الإبداعية التي تجمع بين النشاطات والمؤسسات القائمة على المعرفة لتطوير التعليم والإبداع، وبين الفراغات الرقمية التي تطور التفاعل والاتصالات، وذلك لزيادة القدرة على حل المشكلات في المدينة.
من الخصائص المميزة للمدينة الذكية الأداء العالي في مجال الإبداع، وذلك لأن الإبداع وحل المشكلات من أهم ملامح الذكاء. كما يمكن القول: إن المدينة الذكية هي تجمع عمراني يضم ثلاثة عناصر أساسية: تقني، واجتماعي، وأساس بيئي، فهي ومن ثَم ثلاث مدن في واحدة وهي: افتراضية/ معلوماتية، ومعرفية، وبيئية، وهي المكان الذي يلتقي فيه العالم الافتراضي والواقعي. من الناحية التقنية، هي مدينة رقمية وافتراضية، إِذ تزود بتقنيات المعلومات والاتصالات، والشبكات اللاسلكية، الواقع الافتراضي، وشبكات أجهزة الاستشعار، بحيث تشكل عناصر أساسية من البيئة العمرانية، كما أنها عبارة عن تمثيل رقمي متعدد الطبقات للمدينة المستقبلية الواقعية بوصفها نظاماً لتشغيل المجتمع الذكي، وللإدارة العمرانية الذكية، أو البيئات الذكية الرقمية، فما هي إذن مواصفات المدن الذكية؟ وما هي أبرز المدن الرائدة في هذا المجال؟ وكيف السبيل لبسط مدن ذكية في المغرب؟.
أولا: مواصفات المدن الذكية
تتميز المدن الذكية بكونها لها مواصفات تختلف من خلالها عن باقي الأنماط الأخرى من المدن العادية التي لا تأخذ بعين الاعتبار التكنولوجيات الحديثة كأحد وسائل عملها، هذه الصفات يمكن إجمالها في النقط التالية: تكامل البنية التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات؛ توفر جهاز إداري مركزي للمدينة الذكية؛ وتقديم التدريب المستمر للمستخدمين للتطبيقات المتعددة خصائص المدن الذكية.
وتستخدم المدن الذكية على نطاق واسع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (TIC)، لجعل البنية التحتية التقليدية أكثر كفاءة واستدامة، ملائمة للعيش، وآمنة. ونجاح المدينة الذكية يعتمد على ما يلي: النشر على نطاق واسع جميع مكونات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (TIC)؛ الشفافية، الحكم الفعال؛ والانخراط واتصال جميع المقيمين في المدينة.
كما أن من مقومات المدن الذكية المستقبلية أنها ترتكز على تقنيات المعلومات والتكنولوجيات الحديثة، من أجل تطوير كفاءة وبيئة العمل وتجاوز المعيقات والإكراهات التي تعرفها المدن التقليدية، التي أصبحت متجاوزة في ظل التطور التكنولوجي المتسارع الذي يعرفه عالم اليوم، والذي يستدعي أكثر من أي وقت مضى البحث عن إمكانيات وحلول جديدة مرتبطة بالوسائل المتاحة حاليا، وهو الشيء الذي مكن من بروز “المدن الذكية” كحل من أجل مسايرة التطور الحاصل من جهة، ومن أجل تكريس الفعالية والجودة والسرعة في العمل التي تتيحها “أنترنت الأشياء” من ناحية أخرى.
ويرتكز حجر أساس المدينة الذكية على توسيع العمل بالتقنية الرقمية في كافة الميادين، وبالخصوص المجالات والأبعاد التالية: الصحة الذكية«Smart health» ؛ العيش الذكي «Smart living»؛ الحكومة الذكية «Smart government»؛ الطاقة الذكية والبيئية «Smart energies»؛ التعلم الذكي «Smart learning»؛ التنقل الذكي «Smart mobility»؛ الاقتصاد الذكي «Smart economy»؛ المباني الذكية «Smart buildings»، ومواطنين أذكياء«Smart People» .
وتتطلب المدن الذكية من أجل مباشرة عملها ووصولها إلى مبتغاها وأهدافها، أن تقوم على عدة ركائز ووجود عدة ميكانيزمات أساسية ورئيسية مهمة من أجل الوصول إلى أعلى درجة من الفعالية، هذه الوسائل والركائز تتمثل في ضرورة وجود الآليات التالية: الشبكات اللاسلكية واسعة النطاق أو ما يطلق عليه بـ ((WI-FI، شبكات الألياف البصرية (Optical Fiber)؛ تقنيات جمع البيانات؛ وأدوات إدارة المحتوى والبيانات (البرمجيات.
ثانيا: نماذج لمدن ذكية
نهجت العديد من دول العالم المتطور، مسار بناء مدن متطورة، أساسها الاستعانة بكل ما هو تكنولوجي مستقبلي من أجل تسهيل الحياة في وجه المواطنين، ومن أجل مسايرة التطور الحاصل في ميادين الاتصالات أو التكنولوجيا المستقبلية في عالم اليوم والذي يعتبر “عالم للتكنولوجيا” بامتياز، فمن خلال الاستعانة بالتقنيات الحديثة تحاول الدول الداعمة لهذا التوجه والعاملة به، إلى تطوير بنيتها التحتية وتطوير اقتصادياتها وكيفية تدبيرها وتسييرها لحياتها الاجتماعية أو الاقتصادية في اتجاه تحسينها وتكييفها بما نعيشه من نقلة نوعية في مجال التكنولوجيات الحديثة.
فدبي مثلا، من خلال استراتيجية “دبي المدينة الذكية”، تشمل أكثر من 100 مبادرة وخطة لتحويل1000 خدمة من الخدمات الحكومية إلى خدمات ذكية. ويهدف المشروع إلى تشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص لتحقيق ستة أهداف “ذكية” في مجالات تشمل: الحياة الذكية، النقل الذكي، المجتمع الذكي، الاقتصاد الذكي، الحكم الذكي، والبيئة الذكية. إذ تعتمد على ثلاثة مبادئ أساسية هي: الاتصالات، الاندماج، والتعاون.
وتشمل استراتيجية وبرنامج “دبي المدينة الذكية” لسنة 2021 تحقيق الأهداف التالية: مدينة السعادة والإبداع؛ مدينة ذكية ومستدامة؛ مجتمع شامل ومتماسك؛ مدينة مساهمة بشكل محوري في الاقتصاد العالمي؛ المكان المفضل للعيش والعمل والزيارة؛ وحكومة رائدة وممتازة.
وتسعى دبي في المستقبل في المجال الصحي، لتنفيذ مبادرات التطبيب عن بعد، ويرتكز ذلك على تطوير التطبيقات الإلكترونية التي تسمح للمرضى بالدخول إلى قاعدة البيانات المتصلة بالمستشفى، والحصول على فكرة عن وضعهم الصحي حالتهم ومشاكلهم الصحية. بالنسبة لبعض الحالات الطبية، يمكن أن يقدم الأطباء المشاورات الإلكترونية، بهذا يمكن اختصار قوائم الانتظار في المستشفيات، وزيادة رضا المرضى وتحسين التشخيص.
أما في لندن، فقد تبنت رؤية عمدتها لعام 2020 “Mayor’s Vision 2020″، والتي ترتكز على ست نقاط أساسية تتمثل في الآتي: جعل اللندنيين في صميم الرؤيا؛ النفاذ إلى البيانات المتاحة؛ رفع نسبة البحث والتكنولوجيا والمواهب الإبداعية في لندن؛ التجمع من خلال الشبكات؛ تمكين لندن من التكيف والنمو؛ وتعزيز التعاون بين اللندنيين وحكومة المدينة.
ثالثا: المدن الذكية بالمغرب وحلم التطبيق
البنية التحتية لمدينة ما تضم ضمن جملة أمور، الإسكان، والمرافق الصحية، وإمدادات المياه والمجاري، الإمداد بالطاقة الكهربائية والتوزيع، والنقل وإدارة النفايات والاتصال. فالهياكل الأساسية للمدينة الذكية تميز نفسها من البنية التحتية الحضرية التقليدية، من خلال قدرتها على الاستجابة بذكاء للتغييرات البيئية، بما في ذلك متطلبات المستخدم وغيرها من الهياكل الأساسية، من أجل تحقيق أداء أفضل. لذلك، فالبنية التحتية في المدينة الذكية توفر الأسس لجميع المواضيع الرئيسية الستة المتعلقة بالمدينة الذكية، هي التنقل الذكي، الاقتصاد الذكي، العيش الذكي، والإدارة الذكية، الناس الأذكياء، والبيئة الذكية.
فمن أجل نجاح المدن الذكية بالمغرب، لابد من وجود بنية تحتية ملائمة أولا، قادرة على استخدام واستيعاب التقنيات والوسائل والأدوات التكنولوجية المستقبلية، الشيء الذي لا نجده في الحالة المغربية. فالبنية التحتية تشمل المستشفيات، والجامعات، والمساكن المجهزة والعاملة والمدارة بالذكاء الاصطناعي، وأجهزة الاتصالات والهواتف ذات سرعات تحميل عالية بأضعاف مما هي عليه الآن قد تصل إلى ديتا جيجا، أي مليار جيجا، وهو الشيء الذي يعمل عليه علماء تقنيات المعلومات الآن، زيادة على مدن خالية من ثاني أكسيد الكاربون عام 2030، تستخدم الكهرباء عوضا عن النفط ومشتقاته. الشيء الذي يستدعي منا العمل بجهد أكبر من أجل الوصول إلى طريق بسط نموذج المدن الذكية على الحالة المغربية، التي تحتاج إلى العديد من التغييرات سواء على مستوى بنيتها التحتية أو على مستوى تغيير نمط تدبيرها لمشاريعها بشكل تقليدي، إلى التوجه نحو استعمال الأدوات التكنولوجية والتطبيقات الذكية في حميع برامجها وخططها المستقبلية لتي تهم النهوض بالبنية التحتية ببلادنا.
في يناير من سنة 2016، أطلق الملك محمد السادس مشروع وضع وتثبيت 760 كاميرا للمراقبة من أجل ما “من شأنه تأمين الفضاء العمومي بشكل أكبر والتنظيم الدينامي لحركة المرور”. المشروع سيساهم في ربط كاميرات المراقبة الجديدة بنظيراتها الموجودة سلفا بالترامواي والمطارات والأبناك، والأسواق التجارية الكبرى. هذه الكاميرات المعدة للمراقبة ومتعددة الاستعمالات ستعمل على تنظيم حركة السير، والرصد الأوتوماتيكي للحوادث (السياقة في الاتجاه المعاكس، الأغراض المتخلى عنها، ركن السيارات غير المسموح بها)، والتعبئة الفورية للقوات العمومية، وتحديد الأغراض والأشخاص والعربات المشبوهة. كما سيمكن من التعرف على السيارات المسروقة، وحساب سرعة السير، والتتبع الأوتوماتيكي للأجسام المتحركة، والتدبير الديناميكي للخريطة، إلى جانب إنشاء قاعدة معلومات لتحديد الهويات.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد مشروع e-madina الذي تم تخصيصه كمؤشر لمدينة ذكية بمدينة الدار البيضاء، كما عرفه الموقع الرسمي لهذا المشروع، يهدف إلى جعل مدينة الدار البيضاء أكثر جاذبية وأكثر كفاءة وأكثر تنافسية بالنسبة للشركات، والمواطنين، والزائرين في إطار اتفاقية شراكة عام، خاص، مواطن، وذلك من خلال استخدام التكنولوجيا. فواقع الحال يؤكد عكس ذلك، فالبنية التحية لمدينة الدار البيضاء لا تسمح بوجود أو إمكانية تطوير مدينة ذكية، هذه الأخيرة التي تحتاج إلى بنية تحتية جديدة تستوعب التكنولوجية المستقبلية، وقادرة على استعمالها في أهداف تخدم مصلحة المواطن بالدرجة الأولى. إلى جانب ذلك نجد بأن مدينة الدار البيضاء تحتوي على موقع إلكتروني يحتوي فقط على بيانات وصور ووثائق تخص مجلس المدينة وولاية مدينة الدار البيضاء، في حين أننا نتحدث اليوم عن الجهوية المتقدمة، الشيء الذي يتطلب تحيين الموقع وتزويده بموارد رقمية جديدة، زيادة على امكانية تطويره لولوج المواطنين من أجل قضاء مصالحهم، فالغاية الأولى من وجود مدينة ذكية، هو وصول المواطنين إلى المعلومة الرقمية، وتبسيط الحياة أمامهم، وتزويدهم بالمعطيات والوثائق، وتحقيق الرضى لديهم، وهو الشيء الذي لم نصل له بعد.
الأمر الثاني هو عدم وجود طرق ذكية مراقبة وآمنة، الشيء الذي يمكن من تزويد مرتادي الطريق بالمعلومات اللازمة لمنع الاكتظاظ والتقليل من حوادث السير، وتسهيل المأمورية أمام المصالح الأمنية، وتزويدهم بالموارد الرقمية اللازمة لعملهم، الأمر الذي يعمل على تبسيط وإدارة ومراقبة البنية الطرقية بشكل سلس ومنتظم بمساعدة الوسائل التكنولوجية الحديثة.
لذلك، فالعمل على بسط نموذج المدن الذكية بالمغرب هو رهين بمدى مساهمة الجميع بروح من المسؤولية والمواطنة الإيجابية، والفهم الجيد لمقومات ومتطلبات المدن الذكية، إلى جانب ضرورة وجود قادة أذكياء قادرين على إخراج مشروع مستقبلي ذكي لمدننا، خصوصا وأننا في عصر أصبحت التكنولوجيا تغزو حياتنا اليومية، والعالم اليوم يستفيد بشكل إيجابي من الفوائد العديدة التي تقدمها هذه الوسائل من أجل تطوير حياتنا ومجتمعاتنا واقتصادياتنا إلى الأفضل.
إن مشروع المدن الذكية وممكنات تطبيقه على الحالة المغربية يحتاج إلى سنوات من العمل والجهد من أجل رفع التحديات والمشاكل والعقبات التي تقف في طريق بلورته على أرض الواقع، هذه المشاكل يمكن تجاوزها إذا توافرت الشروط والركائز التي تم ذكرها في متن هذا الموضوع، وإذا تضافرت جهود الجميع من مواطنين أولا، لأنهم النواة الأساسية والحقيقية من أجل التطوير والتنمية ونجاح مشروع المدن الذكية، ومساهمة القطاع الخاص والعام بالموارد المالية الضرورية من أجل رفع التحديات ومواكبة التطورات الحاصلة في عالم اليوم على المستوى التكنولوجي، وتزويد البنية التحتية بالوسائل الرقمية اللازمة حتى يتسنى لنا الحديث عن “مدن ذكية مغربية” مستقبلا.
< بقلم: يونس مليح كاتب وباحث في سلك الدكتوراه