حدث في السعودية…

الأمر الذي أصدره العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، والقاضي بالسماح بإصدار رخص السياقة للنساء في السعودية، وتحدثت عنه أغلب وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية في اليومين الأخيرين، بقدر ما يبعث على الحزن والأسى لكون المرأة في المملكة العربية السعودية لم يقتنع النظام الحاكم هناك بحقها في سياقة سيارة إلا في القرن الواحد والعشرين، وتطلب الأمر سجالا طويلا عريضا دام عديد عقود، وكان العالم برمته يسخر من هذا التكلس في العقول…، فإن ما حدث يحثنا أيضا على بعض تفكير لا بد من التنبيه إليه.
إن تمكين المرأة من حقوقها وإشعاع قيم ومقتضيات المساواة بين الجنسين في كل الميادين، هو حتما طريق المستقبل، ومهما حدثت من تعثرات أو وقعت انتهاكات وتجاوزات، أو جرى تجاهل تلك الحقوق، فإن الانتصار سيتحقق، ليس فقط عبر منح المرأة في السعودية حق سياقة السيارة، ولكن من خلال تمكينها، هي وباقي النساء في البلدان غير الديمقراطية، من كل حقوقها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلى مستوى الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة والإرث وغير ذلك…
أما الأمر الثاني الذي يجب كذلك الانتباه إليه في سياق موضوع اليوم، فهو موقف رجال الدين، ذلك أنهم هم من كانوا في المملكة الوهابية يقودون جبهة الرفض والتصدي لحقوق المرأة، ويبررون منع السلطات هناك لسياقة النساء للسيارة، لكنهم اليوم، وبالنظر لما يشهده السياق السياسي الداخلي والإقليمي، وبعد قرار السلطات، سارعوا فورا للقول بأن الحكم الشرعي في ذلك، بحسبهم، هو: “الإباحة من حيث الأصل”، ثم أضافوا بأن “مرئيات من تحفظ عليه تنصب على اعتبارات تتعلق بسد الذرائع المُحتملة التي لا تصل إلى يقين ولا غلبة ظن”، وأنهم لا يرون مانعا من “السماح للمرأة بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي تلك الذرائع ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه”.
وهنا، يجب التأكيد على حاجة البلدان العربية والمسلمة، بالفعل، لرجال دين وفقهاء يستطيعون الانفتاح على عصرهم واستيعاب تحولاته، بالإضافة إلى امتلاك شجاعة الاجتهاد والتعبير عن الرأي، وإسناد مسلسلات التقدم والارتقاء وتنمية الوعي في المجتمع، وتطوير الانفتاح والديمقراطية كما هو متعارف عليهما كونيا اليوم.
البلدان الخليجية، بالخصوص، تحتاج إلى خطوات سياسية وإدارية وثقافية ومجتمعية تتصل بكامل حقوق النساء، وبنشر ثقافة المساواة، وتمكين المرأة من الانخراط في كل ميادين وقضايا بلادها، ثم أيضا خطوات شجاعة أخرى تهم سلبيات منظومة الكفيل مثلا، وأوضاع العمالة الأجنبية والمهاجرين، ومقررات التعليم، علاوة على البناء المؤسساتي والالتزام بالديمقراطية، وترسيخ دولة القانون وفصل السلط، وتطوير نظام العدالة والسماح بالتعددية السياسية والثقافية، وتوطيد الانفتاح داخل المجتمع…
أما باقي البلدان العربية، فموقف “هيئة كبار العلماء” في السعودية، والتقلبات الصاروخية في تقييم عناصرها لقرارات السلطة السياسية، يدعو للتأمل، ويحث على ضرورة انخراط رجال الدين في دعم مسارات الدمقرطة والتغيير، وتطوير القوانين والمؤسسات والممارسات، أي عبر رفض الظلم والانتهاكات والفساد، ومن خلال تشجيع الحكامة الجيدة ومحاربة الرشوة والريع وتزوير الانتخابات، وأيضا عبر الإسهام في تطوير القوانين (الأحوال الشخصية، الإرث، الجنسية، إلغاء عقوبة الإعدام، مناهضة التعذيب وكل الممارسات الحاطة بالكرامة، العنف والتمييز ضد النساء…)، ومن ثم، فمتى انخرط رجال الدين  في مثل هذه المسارات المجتمعية، فمن شأن ذلك دعم هذه البلدان لتتخلص من كثير قيود تكبلها اليوم وتمنعها من التقدم إلى الأمام.
إن ما حدث في السعودية، هو بالفعل خطوة إيجابية، ولكنها باعثة على الحزن لكونها تأتي اليوم وليس قبل عقود خلت، كما أن ما حدث هناك يدل على أن تحولات جوهرية أخرى ربما ستشهدها المملكة وباقي إمارات الخليج في السنوات المقبلة، وأن جدار الاستعصاء ورفض حقوق المرأة والديمقراطية ربما بدأ يتفتت هناك، ثم إن “إمبراطورية” علماء الدين بدأت، من جهتها، تتفكك وتتجرد من الهيمنة والسطوة على المجتمع والدولة والعقول…
وإجمالا، فإن المأمول لشعوب هذه البلدان هو فقط أن تتحقق التحولات المطلوبة لمصلحتها، وأن تنجح في تأمين استقرارها ووحدة دولها، وأن تحافظ على أمنها وثرواتها، وأن تتيح لمواطناتها ومواطنيها تطوير الديمقراطية، وتحقيق الانفتاح على العصر والتقدم من دون تداعيات سلبية خطيرة أو حروب وصراعات.

محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

الوسوم , , ,

Related posts

Top