بدأ يلفت انتباهنا خلال الآونة الأخيرة، في العديد من الساحات العمومية بمختلف مدننا، إقدام بعض هواة الموسيقى على تقديم عروض فنية، على شاكلة ما تعودنا على مشاهدته في الدول الغربية.
جماعة من الشبان أو أحدهم على انفراد، هنا وهناك، يمسكون آلات موسيقية مختلفة، وهم يرددون أنغاما أجنبية – إنجليزية في الغالب- لأشهر المطربين وللمجموعات الغنائية العالمية.
هذا النوع من المشاهد لم نألف مشاهدته في ساحاتنا العمومية من قبل، إنه ليس شبيها بتلك الحلقات التقليدية التي كانت تحتضنها الكثير من الأسواق، والتي كان منشطوها يؤدون في الغالب أغاني شعبية، مصحوبين بآلاتهم البسيطة، والتي لم تكن تخرج عن الكمان (الجرة) والبندير أو التعريجة.
لا، إن الأمر يتعلق بشبان أنيقين، يختارون عادة فضاءات أنيقة، في وسط هذه المدينة أو تلك، فضلا عن ذلك فهم ذوو مستوى دراسي عال، شعبة الإنجليزية وما إلى ذلك. لديهم موهبة في العزف الموسيقي أو الغناء، يحفظون الربرتوار الغنائي الأمريكي وغيره من ربرتوارات الغناء الغربي.
صعوبة الحصول على عمل بفضل الشهادات التي حصلوا عليها، فضلا عن العقبات الموضوعة في طريق حصولهم على تأشيرة السفر إلى الخارج، حيث يكون بمقدورهم، إما متابعة الدارسة وإما احتراف الفن، في شروط وأوضاع قارة تحفظ كرامتهم وتساعدهم على تطوير تجاربهم، وربما قد يصبحون مبدعين وليس فقط مجرد مقلدين لما يبدعه الآخرون.
هذه الصعوبات، دفعت بهم إلى الخروج نحو الساحات العمومية، ليس للاحتجاج على انسداد آفاق الشغل، ليس للتخريب وعرقلة النظام العام، ولكن لأجل التعبير بواسطة الكلمة واللحن والنغم الجميل والراقي.
بعضهم صاروا يستعينون بمكبرات الصوت، لإيصال أصواتهم إلى أبعد نقطة.
وأنت مار في الشارع، وليكن في الدار البيضاء، وبمجرد اقترابك من ساحة ماريشال بوسط المدينة، التي تم إعادة هيكلتها، بالموازاة مع الشروع في تشغيل الخط الأول للترامواي، تجذبك أصوات متناغمة، وهي تصدح بأغاني قد تفهم معانيها وقد لا تفهمها، لكنها تشد انتباهك، وتجبرك على التوقف ولو للحظات للاستمتاع بجمال اللحن وحسن الأداء والعزف.
***
تقول كلمات إحدى الأغاني التي يرددها هؤلاء الشبان:
Saturday morning jumped out of bed and put on my best suit
يوم السبت صباحاً، قفزت من السرير وارتديت أفضل لباس
Got in my car and raced like a jet, all the way to you
ركبت سيارتي وقدت بسرعة كالطائرة، كل الطريق إليك
Knocked on your door with heart in my hand to ask you a question
طرقت على بابك وقلبي في يدي
لأسألك سؤال
Cause I know that you’re an old-fashioned man, yeah, yeah
لأني أعلم أنك رجل ذو طراز قديم
Can I have your daughter for the rest of my life?
هل أستطيع أن آخذ ابنتك لبقية حياتي؟
Say yes, say yes
قل نعم، قل نعم
**
إنها حركة ثقافية، يمكن القول إنها غير مؤطرة من طرف مؤسسات، سواء عمومية أو خاصة، شبان قاسمهم المشترك هو حب الموسيقى والحرية والتعايش والتواصل مع العامة، فليس هناك شبابيك لتذاكر الدخول، وليس هناك حتى إشارة لطلب المال من المارة المتتبعين.
لكن بعض المتعاطفين معهم -إذا صح التعبير- يبادرون من تلقاء أنفسهم إلى مكافأتهم، ومنهم من يكتفي بالتعبير عن إعجابه بهم عن طريق التقاط صور سليفي معهم وهم مندمجون في نشاطهم الفني الغنائي.
إنهم لا يستجدون، إنهم أناس بسطاء وتلقائيون، يظهر ذلك من خلال هندامهم، ومن خلال تواصلهم والعلاقات التي يقيمونها مع عموم الناس، كيفما كان مستوى هؤلاء العموم.
السلطات لا تضايقهم ولا تطاردهم، وعيا منها بأن الأمر يتعلق بفنانين يدعون إلى السلم وحب الحياة، ولذلك تسمح لهم باقتطاع مساحة من الملك العمومي، لتقديم عروضهم الفنية بكيفية قارة.
إنه جيل جديد من الفنانين، وهو يحيلني على جيل سابق كان يتعاطى للموسيقى على منوالهم، لكنه لم يكن يتظاهر في الشارع، بل يهتم بالتباري في منافسات عديدة خاصة باكتشاف المواهب الجديدة، عن طريق برامج تلفزيونية، وبهذا الصدد نتساءل حول مآل هذا الجيل، حيث أن أغلب الفائزين في تلك المسابقات، لم ينتجوا ألبومات غنائية خاصة بهم، ولم نعد نسمع عنهم أي شيء، وهناك من يقول إن بعضهم أحبط وتخلى نهائيا عن هذا الفن، والبعض الآخر غيبته العلب الليلية وما إلى ذلك.
لكن الجيل الحالي، الذي صار يلفت انتباهنا بتظاهره في الساحات العمومية، بالمعنى الإيجابي للكلمة، أبان عن إصراره على مقاومة كل مظاهر الإحباط، مشتاقا إلى مستقبل أفضل.
بقلم: عبد العالي بركات