سي علي..
نحيي الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل قامة كبيرة في حركة التحرر الوطني، لمناضل ثوري الذي خلف بصماته على أجيال كاملة من المغاربة وعلى مناضلين شباب. وبتأثر بالغ وبتواضع كبير أحيى وأنحني باحترام أمام ذكراه.
لقد خصص الراحل أكثر من نصف قرن من النضال بدون كلل على كل الواجهات للدفاع عن القضايا التي اعتنقها منذ سن مبكر.
إن هذا التكريم الذي أقوم به ببعض فقرات لا يدعي أبدا رسم مسار هذا القائد في جوانبه المتنوعة، هذا المسار الذي تغذى بنضالات مستمرة على كل الجبهات. وخلال هذا المسار واجه محنا كثيرة منها السجن والمنفى، وهذا لم يمنعه من مواصلة نضاله بقوة وإصرار متحديا كل الخصوم. لقد بين لنا، بمثابرته، أن الطريق نحو التغيير الديمقراطي متعرج ومليء بالمزالق، لكن هذا لا يجب أن يثنينا عنه أبدا.
لقد كان قائدا كاملا يربط المعرفة النظرية بالممارسة، وفي هذا الإطار فإن مساهماته النظرية حول عدد من الإشكاليات تبقى من قضايا الساعة مثل التوافق التاريخي، الثورة الوطنية الديمقراطية، القضية الوطنية. لكن الفكر بالنسبة له هو موجه للعمل. لقد كان غالبا في الميدان منصتا للناس ولتظلماتهم.
وبصفته كبرلماني فإن مكتبه في الدار البيضاء كان ممتلئا بالمواطنين بشكل مستمر، لقد كان يجد الوقت لاستقبال عشرات المواطنين يوميا من جميع الفئات الاجتماعية.
إن دراسة مثل هذا المسار يجب أن يكون موضوع أبحاث جامعية عديدة للباحثين في العلوم التاريخية والعلوم السياسية وعلم الاجتماع لإنتاج أساس نظري يغني تراثنا الثقافي ويضمن استمرار فكر وممارسة هذا القائد الكبير الذي أعطى الشيء الكثير لبلده بسخاء وتضحية.
لقد كنت محظوظا بالتعرف على السي علي مبكرا، مثل عدد من المناضلين، في نهاية السبعينات من القرن الماضي، والعمل بجانبه كمتعاون بجريدة البيان التي كان مديرا لها، وكعضو في اللجنة الاقتصادية التي كان يرأسها الراحل عزيز بلال، ثم لاحقا كعضو باللجنة المركزية المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثالث للحزب.
وكصحفي متألق كان للسي علي طريقته الخاصة في الكتابة، فافتتاحياته المحررة بأسلوب واضح وبعمق نظري متخلصا من أي تصنع، كانت تعبر عن مواقف الحزب بأكبر قدر من الوضوح وبدون أي تنازلات. وهذه المقاربة حاول نقلها إلى كل المناضلين المتعاونين مع الجريدة في نسختيها العربية والفرنسية. لقد كان حريصا بصفته مدير الجريدتين على التنسيق يوميا بين كل المساهمات وتناسق الجريدة لإعطاء القارئ منتوج ذي جودة ليس على مستوى الورق والتقديم بل على مستوى المضمون والتحاليل. ولضمان الاستمرارية كان السي علي ينظم يوميا (حوالي الساعة العاشرة صباحا) اجتماعا للجنة التحرير المكونة من عدد من المناضلين كلهم متطوعون، ويكون في جدول الأعمال تقييم عدد اليوم وتهيئ الصفحة الأولى لعدد الغد وتبادل الرأي حول موضوع الافتتاحية، داعيا كل رفيق لتقديم الموضوع الذي ينوي معالجته. كل هذا يتم في جو رفاقي وعائلي. وأتذكر أن السي علي عندما يكون مضطرا لتقديم ملاحظة، أو حتى نقد، لأحد الرفاق، فإنه يقدمه بهدوء ولباقة. لقد علمنا السي علي فن النقد البناء والصرامة الأدبية، وهذا ما صنع قوة البيان إلى اليوم.
وفي كل الاجتماعات التي عقدناها مع السي علي على مستوى اللجنة الاقتصادية للحزب خلال الدراسة السنوية لمشروع قانون المالية، كنت منبهرا بقدرته على التركيب بفضل قدرته على فهم تعقد المشاكل ووضع روابط بين مختلف المستويات وفرز الأساسي منها والثانوي، المفيد وغير المفيد.
وقبل اجتماع لجنة الاقتصاد والمالية في البرلمان يدعونا، نحن أعضاء اللجنة الاقتصادية للحزب، للقاء من أجل تبادل الآراء، يقدم خلاله كل رفيق رأيه حول سمات مشروع قانون المالية الذي ستتم مناقشته في اللجنة البرلمانية، بعد ذلك يشرع السي علي في العمل لصياغة وثيقة شاملة من عدة صفحات يقدمها أمام اللجنة البرلمانية قبل نشرها على أعمدة الجريدة. وحده رجل من عيار السي علي قادر على مثل هذا العمل الاستثنائي. لقد كان لوحده، طيلة الفترة التشريعية الاولى للبرلمان، يقوم بعمل يفوق عمل فريق برلماني: حاضر في كل اللجان، متدخل في كل المواضيع المطروحة مخلفا آثار مكتوبة، مخاطرا بالرجوع متأخرا إلى بيته في الدار البيضاء عبر سيارته.
وبصفته أمينا عاما للحزب، فقد طبع المناضلين على كيفية العمل (المهارة) لكن أيضا على كيفية الوجود. فباعتباره منتميا لجيل من قادة الحركة الوطنية المشكل في خضم النضال من اجل استقلال البلاد، فقد اكتسب بالضرورة شخصية متميزة وهالة خاصة. فمع مواجهته لمشقة العمل فإنه عرف كيف يشرك مجموع المناضلين والمسؤولين متفاديا الدخول في التفاصيل تاركا لكل واحد إمكانية تحمل مسؤوليته، موسعا بذلك مجال الرهان الديمقراطي داخل الحزب. لقد كان يقوم بدوره كمنظم دون تدخل مفرط، كانت له شخصية قوية دون شك، لكنه لم يكن أبدا يفرض رايه بأي ثمن، بالعكس كان ينصت لكل الآراء متقبلا للانتقادات، طالبا أحيانا لتوضيحات أكثر. ومن اللحظات التي أثارتني أكثر شخصيا ما كان يقدمه في نهاية اجتماعات اللجنة المركزية من أجوبة على مختلف التدخلات والتركيب بينها، أجوبة تتوخى الجمع وليس التفريق، التوحيد وليس العزل. يقوم بذلك بصوت معلم وبأسلوب يتراوح بين المرونة والصرامة، ولا يعبر عن أي انزعاج إذا عبر أحد الرفاق على رأي يخالف رأيه، بالعكس كان ذلك يحفزه على تطوير حججه. أن يسعى قائد للإقناع، فهذا أمر طبيعي، لكن أن يتم هذا السعي بالشكل الذي كان يقوم به السي علي فيكون أفضل.
ويبقى السي علي رجل التوافقات الكبرى، توافقات محركة وخلاقة، كان يدرك أنه لا يمكن الحصول على كل شيء دفعة واحدة وأن أي مكسب يحفز المناضلين للسير إلى أمام للحصول على مزيد من المكتسبات. فالثورة الوطنية الديمقراطية التي ساهم بقوة في بلورتها تندرج ضمن التوافق التاريخي بين قوى لا تتقاسم نفس الانتماء الإيديولوجي وليس لها نفس التصور للمستقبل.
وعلى حزبنا اليوم أن يجمع كل كتابات السي علي، عبر مؤسسة علي يعته، للتعريف بها لدى المناضلين الشباب ومجموع المواطنين، وجعلها مصدر إلهام للتأثير بنجاعة في الواقع والمسار التاريخي في اتجاه بناء مجتمع العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية واحترام كرامة الانسان. ومن أجل هذه القيم كرس السي علي أهم فترات حياته، وعلينا أن نكون جميعا في مستوى هذا الطموح الجماعي.
* عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ووزير سابق
عبد السلام الصديقي*