1ــ مقدمة:
منذ السنوات العشرة الأخيرة بدأ يترسخ الهايكو في الشعر العربي المعاصر إذ أصبح مدا شعريا يثير الكثير من اللغط الفارغ والنقاش الجاد بين مرحب ومستهجن:
المرحب يرى فيه اقتراحا جماليا ينضاف إلى شعرية اللغة العربية الغنية ليشكل إضافة نوعية لها، وهو ليس بأي حال بديلا شعريا، وليس من المعـقول أن يظل شعرنا العربي بمعزل عن هذه الحركية والانفتاح الذي تشهده شعريات العالم على هذا اللون الشعري الياباني الجذور.
المستهجن يرى الهايكو نصا شعريا يعكس في عمقه ثقافة الزن المغايرة تماما، بل المنافية لجذور ثقافتنا العربية.
وعموما يمكن القول إن تجربة الهايكو أخذت في الانتشار السريع بشكل يثير الدهشة في العشر سنوات الأخيرة، بحيث سجلت طهور أسماء لامعة في هذا الفن الياباني الأصول نذكر منهم: بالمشرق العربي: زكريا تامرــ علي القيسي ــ حسن التهامي ــ سمير منصور ــ ربيع الأتات ــ توفيــق خميس ــ فاتــن أنور…
ومغاربيا: معاشو قرور (الجزائر)؛ سامح درويش ونور الدين ضرار ومصطفى قلوشي وأحمد لغيمي وبكاي كضباش وهدى حاجي..(المغرب)؛ سونيا بن عمار (تونس)…
هذا المد المتنامي يفرض علينا مواكبة نقدية تقيم التجربة بكل ما لها وما عليها، لذا ظهرت مقالات متفرقة بالمجلات والصحف والمنابر العربية، كما سجلت أطروحات ورسائل أكاديمية نذكر منها رسالة الصديقة آمال بولحمام من الجزائر والتي نالت بها شهادة الدكتوراة بتميز من جامعة باتنة جنوب شرق الجزائر… نفس الرسالة ستعرف طريقها إلى النشر عن دار النشر/خيال بالعاصمة الجزائر قبل بضعة شهور.
2ــ شعر الهايكو: بحث في الأصول اليابانية والخصوصية العربية:
بدأ الكتاب بمقدمة عامة تحدثت فيها الدكتورة آمال بولحمام عن خصوصية الشعر العربي وتحولاتها منذ بداية الحداثة الشعرية العربية خروجا من الثابت الذي جمد القصيدة العربية قرونا من الزمن ووصولا إلى المتحول في القصيدة العربية التي عرفت تحولات عميقة مكنتها من تنفس آفاق جديدة ومنحتها حللا شعرية جديدة وعميقة.
الكتاب من خلال تصفحه يتضح انه مجزأ إلى شقين: شق نظرى وآخر تطبيقي تحليلي.
* الشق النظري:
تناولت فيه الباحثة إشكالية مصطلح الهايكو ومفهومه/معناه وتطوره منذ العصور اليابانية القديمة: منذ عصر الياماتو (590م ــ 710م) وصولا إلى العصر الياباني الحديث الذي يبدأ من 1868 إلى الآن. فقد تطورت القصيدة اليابانية من الكاتاواتا ثم سيداوكو وتشاوكا ثم التانكا والرنجا ثم الهوكو وصولا إلى الهايكو الكلاسيكي.
وقد أفاضت الباحثة الحديث عن الخوصوصيات البنائية والفنية للهايكو الذي رأى النور لأول مرة من الهايكيست ماوتسو باشو ومع نصه الشهير المعروف بــ (ضفدع باشو) في منتصف القرن الســابع عشر:
“يالها من بركة عميقة
ضفدع يقفز
صوت الماء.”
هذا النص فــتح باب الهايكو مكــتملا على يد باشــو وتلاه شعراء آخرون أبدعوا فيه وأضافوا تقنيات جديدة فأصبح الحديث عن السنريو والهايبوين وهما شكلان جديدان يرتكزان على الهايكو الذي ظل في عمقه متأثرا بفلسفة الزن اليابانية، معتمدا على تقنــيات فنية وأسلوبية كالكيغـــو والموكي وتــشنكو هايكو والكيرجي والتوراوسي والتريهاماي والنينوتسوشكي…
وقد ارتكزت الباحثة على مراجع النقاد المتخصصين في هذا الفن من أمثال: معاشو قرور ــ نور الدين ضرار ــ سمير منصور – جمال عبد الناصر الفزازي ــ توفيق النصاري ــ سامر زكريا..
وكما أن نص الهايكو ــ ولا أسميه قصيدة كما سمته الباحثة ويسميه الكثيرون ــ (2) في جماليته الأسلوبية يعتمد في التقاط تفاصيل المشهدية من محيط الشاعر على الساتوري والسابي والوابي والسابي وابي…وأثناء معرص حديث الباحثة عن هذه التقنيات البنائية والأسلوبية والفنية للهايكو كانت تستشهد بنصوص لشعراء عرب منهم: معاشو قرور ــ سامح درويش ــ فاتن أنور ــ توفيق أبو خميس ــ هدى حاجي ــ حسن التهامي ــ مصطفى قلوشي ــ سامر زكريا.. تقارب نصوصهم وتوضح شكلها البنائي والفني المعتمدين الذي يستجيب ويرتكز على ما ذكرته سالفا.
* الشق التطبيقي ــ تحليل ومقاربة النصوص:
شكلا، لم تعتمد الباحثة على تبويب مباحثها وتقسيم كتابها إلى فصول أو أبواب أو مباحث.. بل إنه ــ الكتاب ــ يتداخل فيه النظري مع التطبيقي (تحليل ومقاربة النصوص) باستثناء الصفحات الأولى التي خصصت لمقدمتين: الأولى بقلم الهايكيست الجزائري معاشو قرور والثانية بقلم الباحثة نفسها، أما الصفحات التي تلتها تطرقت فيها إلى كرونولوجيا تطور النص الشعري الياباني في تعاقب العصور اليابانية وإشكالية المصطلح.
وقد حاولت الدكتورة انتقاء نصوص متفرقة لشعراء عرب في الهايكو منهم من له دواوين شعرية ورقية صادرة ومنهم من له نصوص مننشورة بالمنابر والمجلات العربية ورقيا وإلكترونيا نصوص تستجيب للتقنيات البنائية والفنية التي تميز هذا الفن، ولاحظت الباحثة أن شعراء الهايكو الــعرب حاولوا منح النص العربي بصمة ونفسا متشبعا بالثقافة العربية أثناء التقاط المشهدية فتحدثوا عن الحناء والرحى والوشم وخبز الأم وحزمة الثوم، وأكواز الذرى ومغزل الجدة و.. بل إن الخاصية الأساس التي تميز النص الهايكوي في أصوله اليابانية يفرض التنحي ــ أي إلغاء الذات الشاعرية ــ والابتعاد عن المجاز والاستعارات.. والارتكاز إلى البساطة اللغوية وهنا بدأ الكثير ممن استسهلوا الهايكو والنتيجة ظهور نصوص وأسماء تسيء إلى هذا الفن الجميل..
وقد حاول شعراء الهايكو تكييف هذا النص مع خصوصيات الشعرية العربية التي ميزت القصيدة العربية منذ قرون.. وقد استشهدت الباحثة بمجموعة من النصوص مثلا:
“سيفوتني ما حييت
سماع أنين صخرة
تجرحها قطرة ماء.”(3)
هناك حضور واضح للمجاز والاستعارة.. الشيء الذي يجعلنا نطرح سؤالا جوهريا: هل سينجح الهايكيست العربي في التنحي عن الذات، والابتعاد عن الاستعارات والكنايات والمجاز.. وعن موروث شعري غذى كيانه وتغذت به ذائقته؟؟
شخصيا لا أظن ذلك.
****************
هوامش وإحالات:
(1) شعر الهايكو: بحث في الأصول اليابانية والخصوصية العربية إصدار دار النشر (خيال للنشر والترجمة) الطبعة الأولى 2023
(2) الكثير يسمي “نص الهايكو” بقصيدة. بينما القصيدة هي نص شعري أُطلق منذ المهلهل (عدي بن ربيعة بن الحارث التغلبي) على بناء عمودي يتكون من أبيات ذات صدر وعجز بعد أن هلهل بناءها (ولذا سمي المهلهل) لأنه لم تكن هناك قصائد قائمة الذات.. بل كانت تسمى “نتفا” ببيتيـن شعريين أو ثلاثة. وقد تغيرت خصائصها الشكلية – أقصد القصيدة – مع تغير العصور فاتخذت شكل الموشحات في الأدب الأندلسي.. وتغيرت أيضا مع السياب ونازك مع التزامها بعنصرين أساسيين هما: الوزن والقافية.. وظهرت قصيدة النثر مع أنسي الحاج وأدونيس والماغوط… مغايرة تماما لكل الأشكال التي سبقتها؛ فنحتت شعريتها من بنائها اللغوي وانزياحاتها.
(3) شعر الهايكو: بحث في الأصول اليابانية والخصوصية العربية ص 155
بقلم: مصطفى قلوشي