لا تزال عملية تشكيل الحكومة الجديدة في جمهورية أيرلندا، تواجه الكثير من المصاعب الناشئة عن خلفيات تاريخية. فبعد الانتخابات الأخيرة التي جرت في الثامن من شهر فبراير الجاري، وكان السباق فيها للمرة الأولى، ثلاثيا، بمعنى أن القوى الحزبية المتنافسة أصبحت ثلاثا بعد تقدم فرص الحزب القومي اليساري، “شين فين”، ليصبح منافسا قويا لحزبي الوسط التقليديين “فيانا فيل” و”فايل غايل”.
فبعد أن حل الرئيس الأيرلندي البرلمان الثاني والثلاثين منذ استقلال البلاد، نزولا عند طلب رئيس الحكومة ليو فارادكار في منتصف ديسمبر 2019؛ جرت العملية الانتخابية في سياقات مختلفة من حيث الشكل والمضامين. إذ فُتحت صناديق الاقتراع، للمرة الأولى في عطلة نهاية الأسبوع، وجاءت النتائج بوقائع اقتسام القوى الحزبية الثلاث معظم المقاعد الـ160 في البرلمان، وحقق حزب “شين فين” النسبة الأعلى، بحصوله على 37 مقعدا، وهذه أفضل نتائجه منذ عام 1970. وفي النتائج تراجع حزب “فيانا فيل” المعارض من موقع التلازم والمساندة للحزب الحاكم، إذ حصل أيضا على عدد المقاعد نفسه الذي حصل عليه “شين فين” وهو 37 مقعدا. أما حزب “فاين غايل” الحاكم، فقد حل في المرتبة الثالثة بحصوله على 35 مقعدا!
ورغم أن التطورات الأوروبية، وخاصة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، تؤكد على أن المشهد السياسي الأيرلندي يأخذ منحى جديدا ربما يستمر لسنوات طويلة؛ إلا أن المراقبين اعتبروا ما أحدثته نتائج الانتخابات الأخيرة، يمثل استراحة أيرلندية قصيرة من نظام الثنائية الحزبية.
فالملمـح التاريخي في هذا التطور، هو أنه للمرة الأولى منذ نحو مئة سنة، لم يفز فيها أحد الحزبين المهيمنين “فيانا فيل” وفاين غايل” بالعدد الأكبر من الأصوات. بل إن مجموع ما تحصل عليه الحزبان، كان الأكثر انخفاضا في تاريخ الانتخابات الأيرلندية. ورغم ذلك فإن قادة الحزبين، أصروا على استبعاد احتمال تشكيل حكومة ائتلافية مع “شين فين”، وهذه تمثل إحدى العقبات الكبرى أمام تشكيل حكومة أيرلندية جديدة!
ومعلوم أن ضمان تمرير أيّ حكومة، يحتاج إلى تأييد ما لا يقل عن 80 عضو في البرلمان، ما يعني أن التشكيل يحتاج إلى مساندة أكثر من حزبين أو إلى عدد وفير من الأعضاء المستقلين. وهناك تدبير آخر، وإن كان صعبا، يمكن من خلاله تدبير تفاهم مع طرف حزبي ثالث، يمتنع عن التصويت، عند العرض لنيل الثقة، والتصويت لاعتماد الموازنة!
في هذه الأثناء يتداول مؤيدو الحزبين الرئيسيين، عبارات نقدية طالت رئيس الحكومة ليو فاردكار ومايكل مارتن زعيم المعارضة، لأنهما لا يزالان يتصرفان كما لو أنهما لم يخسرا أمام “شين فين” ولا يريدان الاتصال بماري لاو ماكدونالد رئيسة الحزب الفائز. فالأجدر بزعيمي الحزبين الخاسرين -كما يقول المنتقدون- أن يتعرضا للمساءلة أو أن ينسحبا من الحياة السياسية، وليس الاستمرار في تجاهل “شين فين”. وكان التركيز في النقد على مايكل مارتن، زعيم حزب “فيانا فيل”، لأنه، كما يقولون، خالف المنطق عندما ركز على خصمين وليس على خصم واحد، عندما حارب في آن واحد، على جبهة “فاين غايل” الحاكم و”شين فين” الصاعد إلى القمة، إذ المنطق يقتضي الحرب على جبهة واحدة لضمان نتائج أفضل.
وفي الحقيقة أطلقت نتائج الانتخابات الأيرلندية نقاشا حول قضايا المشروعية والمآخذ المسجلة على حزب “شين فين” ووصمه بالعنف بالنظر إلى دوره في الحرب الأهلية الأيرلندية. وفي هذا السياق استُخدم تعبير النفاق في وصف موقف الحزبين الرئيسيين في الحياة السياسية الايرلندية، إذ استذكر المنتقدون التاريخ كله، وقالوا إن المأزق الراهن لهذين الحزبين، جعلهما يفارقان المنطق ويتجاهلان أنهما أصلا من الجذر الحزبي نفسه الذي لم يجد أمامه سوى العنف لتحقيق الاستقلال التام.
ففي تجاهلهما لهذه الحقيقة، هما يؤسسان لخطاب انتخابي يتمثل في الإدانة الصريحة لـ”شين فين”، وهذا الذي جلب لهما الخسارة. ثم إن استيعاب القوميين اليساريين أو المائلين إلى اليسار، أمر ثبتت جدواه في اليونان التي استوعبت “سيريزا”، وفي إيطاليا مع “حركة خمس نجوم” ، التي أدخلت إلى الحكومة. بل إن من يتمنى لليسار أن يزول، يرى فائدة كبيرة في استيعابه داخل الحياة السياسية والحكومة، لأن من شأن خطوة كهذه إضعاف اليسار بجريرة وعوده الكبيرة، التي تصطدم في العادة مع الحقائق المالية وشروط البقاء في السلطة. لذا فإن “شين فين” في نظر معارضيه ينمو أكثر في فترات العواصف الثلجية التي تتخلل خطابه أثناءها وعود غير قابلة للتحقيق. وعليه فإن القائلين بهذا المنطق، ينضمّون موضوعيا إلى مؤيدي “شين فين” الذين يرون من الواجب الأخلاقي والديمقراطي، استيعاب هذا الحزب القومي واليساري وليس استبعاده ومحاولة تهميشه.
ثم إن حزب “فيانا فيل” المعارض، والأكثر خصومة لحزب “شين فين” ينزلق إلى النفاق عندما يتناسى أن مؤسسيه حملوا السلاح في الحرب الأهلية ضد الجمهورية الأيرلندية، التي أُعلن عن مشروع ولادتها في إبريل 1916 وصادق البريطانيون على ذلك الإعلان في يناير 1919 واعترفوا بوجوب قيام جمهورية أيرلندا في ديسمبر 1922 وولدت الجمهورية عمليا في ديسمبر 1937.
فالطعن في “شين فين” لغايات انتخابية، لم يعد منطقيا، لاسيما وأن إشراك حزب قومي متشدد في الحياة السياسية وفي المسؤولية، من شأنه التخفيف من حدة خطابه بمفاعيل الدور الذي يؤديه في الحكم.
اللافت في التطور الذي أحدثته الانتخابات الأخيرة أن حزب “شين فين” أقرب إلى تأييد فكرة الخروج من منظومة القارة الأوروبية، إذ يعتمد سياسة نقدية حيال الاندماج الأوروبي، ويعارض الدور المهيمن للألمان وللأعضاء الكبار في الاتحاد، ويرى في هذا الدور محاولة لتخفيض مستوى السيادة الوطنية.
فعدلي صادق كاتب وسياسي فلسطيني