في قاعة نصف فارغة، غاب عنها رؤساء الوفود، ألقى الرئيس محمود عباس كلمة فلسطين في الدورة السنوية للأمم المتحدة، استعاد فيها شرحه للقضية الفلسطينية أمام ممثلي المجتمع الدولي، ويمكن أن نسجل بضعة ملاحظات رئيسية منها:
• أنه تحدث بصفته رئيساً في نظام رئاسي، متجاوزاً أن النظام الفلسطيني، كما أقرته وثيقة الاستقلال (15/11/1988) نصت على نظام برلماني، وأن الحالة القيادية الفلسطينية تقوم الآن على ثنائية المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. لذلك جاء قوله « إن المجلس الوطني كلفني»، أو «طالبني» أو «دعاني»، فيه تعبير صريح عن النزعة الجامحة لتحويل النظام الفلسطيني إلى نظام رئاسي، وإلى إعادة صياغة العلاقات الوطنية، المفترض أن تقوم على مبدأ الشراكة والتوافق الوطني، إلى نظام رئاسي، يدار المراسيم، على غرار مرسوم إعادة تشكيل دوائر اللجنة التنفيذية. لقد كلف المجلس الوطني اللجنة التنفيذية، لا رئيس السلطة، ولا رئيس دولة فلسطين. هكذا يقول البيان الختامي. وبالتالي جاءت هذه الفقرات من الخطاب لتقدم النظام الفلسطيني على غير ما هو عليه، ولتكشف أن معركة إصلاح الأوضاع في المؤسسة الفلسطينية معركة قاسية ومعقدة، وهي مدخل رئيس لإصلاح الخلل القائم في العلاقات الوطنية.
• أنه استفاض في إدانته لما أسماه الإرهاب. دون أن يميز بين الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه المنظمات المتعارف عليها أنها إرهابية، أو الإرهاب المنظم الذي تمارسه قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وبين حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، والدفاع عن حرياتها وسيادة أرضها وكرامتها الوطنية. وبدا خطابه في هذا الجانب وكأنه إدانة للمقاومة الفلسطينية بتاريخها المجيد، وحاضرها وثباتها المشرف، والمستقبل الذي يحمل لها في طياته واجبات ومهام صعبة، تتطلب بلا شك تضحيات بلا حدود. كان من الواجب أن يشير إلى الحروب العدوانية الاسرائيلية، ليميز بين الإرهاب الاسرائيلي والمقاومة الوطنية الفلسطينية. أما حصر المقاومة بالمقاومة الشعبية «السلمية» (التي لم يقدم لنا حتى الآن تعريفها ونموذجاً لها) فهو حشر للقضية الوطنية، كحالة الحشر التي تعتبر المفاوضات الثنائية خياراً سياسياً وحيداً، وتستبعد باقي الخيارات.
• أنه أقحم الخلاف مع حركة حماس أمام المجتمع الدولي، مع أنه قضية وطنية داخلية تعالج في إطار الحوارات الوطنية التي ترعاها القاهرة. وبالتالي جاء التهديد لحماس، ومن خلفها لقطاع غزة، في غير مكانه، ويصعب على أي كان أن يدافع عنه. فالقضية الجوهرية هي قضية الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، لا تساويها أية قضية أخرى، مهما كانت معقدة ومثيرة للشجن ومؤثرة على الوضع الوطني العام. هناك تفاهمات وتوافقات واتفاقات تم الوصول إليها في أكثر من محطة، لذا يعتبر نقل القضية إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة «خروجاً على قواعد اللعبة».
* * *
القضية التي استحقت الاهتمام الأكبر هي عودة الخطاب إلى تبني «رؤية الرئيس»، كمشروع للحل. «الرؤية» التي كان قد أعلن عنها في مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018، وأعاد التأكيد عليها في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني في 30/4/2018، والتي تجاوزها البيان الختامي للمجلس ودعا، بدلاً منها، إلى مؤتمر دولي بقرارات ملزمة، وسقف زمني محدد، ووفق قرارات الشرعية الدولية ورعاية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. بينما «الرؤية» تستعيد اتفاق أوسلو وما يسمى بمفاوضات الحل الدائم، وتحمل في طياتها سلسلة تنازلات مسبقة، تطال حدود الرابع من حزيران، وقضية اللاجئين وحق العودة، والأسس السيادية للدولة الفلسطينية، وأشياء أخرى.
«الرؤية» هذه، هي مرة أخرى خطوة انقلابية على قرارات المجلس المركزي (15/1/2018) والمجلس الوطني (3/4/2018) وتعبير عن سياسة لا تبالي لأمر المؤسسة الوطنية الفلسطينية ولا لقراراتها، ولا للتوافقات الوطنية. قرارات المجلسين المركزي والوطني(والتي يصر لفيف من الصحفيين الموالين على أنها مجرد توصيات مرفوعة للرئيس وليس للجنة التنفيذية) تحولت في الخطاب إلى مادة للمقايضة. بحيث بدا الخطاب في موقع الرهان على إمكانية عودة ترامب عن «صفقة العصر»، مع أن صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لا يتردد في الاعتراف أنه تم تطبيق 70% من هذه الصفقة، (القدس، الاستيطان، حق العودة، تعريف اللاجئ، محاصرة وكالة الغوث، قطع التمويل عن السلطة، اعتبار م.ت.ف منظمة إرهابية، إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن… والحبل على الجرار) كما يراهن الخطاب على تراجع نتنياهو عن خطواته علماً أنها خطوات عملية وميدانية تصنع وقائع استيطانية، من شأنها أن تعمق حصار القدس وتوسع عملية تهويدها وطمس معالمها العربية والفلسطينية، كزيادة عدد السكان اليهود، وتدمير اقتصادها الوطني، وتدمير مكونات مجتمعها الفلسطيني، والتمهيد بالخطوات العملية لواقع جديد للمسجد الأقصى، على قاعدة التقاسم الزماني والمكاني، على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل..
وبالتالي يمكن القول إن وصف الخطاب بأنه ارتقى إلى مستوى أعلى، حين وضع الأميركيين والاسرائيليين أمام معادلة «الالتزام مقابل الالتزام» ما هو إلا وصف فيها تزييف للحقيقة. فلا واشنطن تلتزم بالتفاهمات مع السلطة الفلسطينية، ولا نتنياهو يلتزم اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس. وحدها السلطة الفلسطينية، ووحدها القيادة الرسمية، هي الملتزم الوحيد في هذا الميدان. مازالت تلتزم اتفاق أوسلو، وتراه سبيلها إلى الحل ما يفسر إصرارها على تعطيل قرارات إعادة النظر بالعلاقة مع إسرائيل.
* * *
تصريحات مقربة من رئاسة السلطة، وأعضاء في اللجنة التنفيذية كشفوا أن خطاب نيويورك، سيكون هو الأساس والموجه لأعمال المجلس المركزي في دورته القادمة، المتوقع انعقادها ما بين 20-25/10/2018 وذهب البعض في التوضيح خطوة إلى الأمام حين قال إن المجلس المركزي سيكلف اللجنة التنفيذية وضع خطة لتطبيق لقرارات المجلسين المركزي والوطني.
ما يعني بوضوح أنها عودة جديدة إلى الدائرة المفرغة، وإلى لعبة الأبواب الدوارة. فقد أحالت اللجنة التنفيذية هذه القرارات أكثر من مرة، قبل المجلس الوطني، وبعده، إلى لجان لوضع خطط وآليات تطبيقها، كان آخرها ورقة العمل التي عرضت على المجلس المركزي الأخيرة(الدورة 29) والتي صادق عليها وأحالها إلى اللجنة التنفيذية لتنفيذها. لكن رئيس السلطة، وفي كلمته الختامية اعتبر ما تم الاتفاق عليه مجرد توصيات، داعياً أعضاء المجلس إلى التفكير بما يمكن القيام به في المستقبل، خاصة بعد عودته من الأمم المتحدة. ما يشير بوضوح أن الوقوف عند «رؤية الرئيس» ما هي إلا لعبة مكشوفة للبقاء في المربع الأول. أي أن بقايا أوسلو هي الاستراتيجية المعتمدة عملياً من قبل القيادة الرسمية، وأن الرهانات على الوهم مازالت هي الأساس، وأن الوضع بات أشبه بلوحة لمجموعة من الفاشلين يقفون عند ضفاف العجز مثل هذا الوضع لا يساعد إطلاقاً على تمتين الأوضاع الوطنية ولا يوفر الشروط الضرورية لمواجهة «صفقة العصر» بخطوات ميدانية وفاعلة.
معتصم حمادة