العديد من الفنانين المغاربة الذين ينشطون في مجال الغناء، بدأوا مسارهم ضمن فرق ومجموعات، وشحذوا موهبتهم هناك، وتمرسوا بفن الأداء والعزف، وحققوا شهرتهم باعتبارهم ينتمون إلى فرق معينة، إلى حد أنه حين ذكر أسمائهم يحضر بالبال في الحين اسم فرقهم الخاصة.
إن الممارسة الفنية ضمن فرقة غنائية، لا شك أنها تحدد الأسلوب الفني لكل عنصر على حدة، ولهذا السبب تشكل الفرقة نوعا من التكامل، يعد سر نجاحها وتألقها، ففي كل فرقة غنائية، هناك حاجة إلى أن لا تكون الطبقات الصوتية لأفرادها متشابهة، وكذلك أسلوب عزفهم والآلات التي يقومون بالعزف عليها.
وكل إخلال بهذا النظام، يكون من الصعب على فرقة غنائية ما أن تفرض وجودها، ويحدث أن يتوفى أحد عناصر هذه الفرقة أو تلك، أو ينفصل لهذا السبب أو ذاك، يجد المكتب المسير للفرقة صعوبة كبيرة في العثور على من يعوضه، فمثلا حين توفي بوجميع الذي كان يعد عنصرا أساسيا ضمن فرقة ناس الغيوان، لم يتم تعويضه، لأن هذا الفنان الراحل كان له أسلوب فني متفرد سواء في الأداء أو في العزف – كان يعزف على آلة الدربوكة، وحتى هذه الآلة لم يتم تعويضها بآلة أخرى مماثلة لها- كما كان لهذا الفنان كاريزما خاصة وسط الفرقة.
وحدث لبعض الفرق أن حاولت تعويض غياب عنصر ما داخل الفرقة، لكن هذا التعويض لم يكن في محله، لا بل شكل إساءة للتاريخ الفني للفرقة، بالنظر إلى أن العنصر الذي تم تعويضه لا يمكن العثور على بديل له بكل بساطة.
إذن هناك العديد من الفرق الغنائية المغربية التي أصابها التشقق، بالنظر إلى أن بعض أعضائها لم يعودوا يجدون أنفسهم بداخلها، بمعنى آخر أنهم لم يعودوا يرتاحون لاختياراتها الفنية وللمسار الجديد الذي يمكن أن تكون قد خطته لنفسها. وبالتالي كان لا بد لهم من اتخاذ قرار صعب وهو الانفصال عنها.
إن الفنان الذي يترعرع داخل فرقة غنائية معينة، ويحقق معها تراكما هاما على مستوى الإنتاجات الفنية، فإنه بطبيعة الحال، مع توالي السنين، يصل إلى مستوى من النضج، ويكتسب وعيا فنيا، يدفعه إلى التفكير في تطوير التجربة، وقد يصطدم مع القناعات الخاصة لبقية زملائه الفرقة، وبالتالي لا يجد أمامه غير حل وحيد هو الانعزال.
من الفنانين من انفصلوا عن فرقهم الغنائية، لكنهم لم يعتزلوا الفن، بل قرروا أن يواصلوا مسارهم الفني بمفردهم، وحققوا ذواتهم، واستطاعوا من جهة أن يؤسسوا لتجربة فنية جديدة ورائدة إذا صح التعبير، ومن جهة أخرى أمنوا عيشهم وضمنوا لأنفسهم حياة كريمة.
طبعا ليس كل الذين انعزلوا عن فرقهم وفضلوا ممارسة الفن بمفردهم، قد نجحوا في اختيارهم هذا، وقد يعود ذلك إلى كونهم لا يمكن لهم أن يقدموا عطاءات سوى داخل مجموعة، حيث تنصهر ذاتهم في العمل الجماعي وتتفتق عن إبداعات متميزة، وهناك فعلا من جربوا العمل على انفراد غير أنهم سرعان ما عادوا لفرقهم الخاصة، بعد أن أدركوا أن فرقتهم هي بمثابة ماء الوعاء بالنسبة للسمكة الحمراء الصغيرة التي نربيها في بيوتنا، إذا جاز التعبير.
ومن الفنانين الذين انطلقت تجربته الفنية من داخل الفرق الغنائية، قبل أن يشقوا طريقهم في عالم الفن بمفردهم، نجد على سبيل المثال: محمد الدرهم، عبد العزيز الطاهري، عموري مبارك، مصطفى بورغون، فريد غنام…

محمد الدرهم: من جيل جيلالة إلى الدندنة بصيغة المفرد

اشتهر الفنان محمد الدرهم بعزفه على آلة الطمطام ضمن المجموعة الغنائية جيل جيلالة، وكان صوتا غنائيا متفردا داخل هذه المجموعة، حيث أنه كان يستحوذ على أداء الجزء الأكبر من القطعة الغنائية، سواء كانت تنتمي إلى قصيدة الملحون أو الشعر الزجلي المعاصر، وكانت بعض المقاطع التي يؤديها تمتاز بصعوبة تطويع مقاماتها صوتيا، حيث تتطلب طبقات صوتية خاصة، لم يكن يملكها غير هذا الفنان داخل مجموعته، دون التقليل طبعا من القيمة الفنية لباقي أعضاء جيل جيلالة.
غير أنه بعد سنوات من العطاء ضمن هذه المجموعة، شعر محمد الدرهم بأنه استنفد تجربته معها، وهو ما جعله يفكر في الانفصال عنها. وبالنظر لأن الفنان لا يمكن أن يتقاعد، أو ربما أن يمارس أي حرفة أخرى خارج مجال الفن الذي يمارسه والذي يبدع فيه، فإن الدرهم بعد فترة من التأمل والاستعداد لخوض غمار تجربة فنية جديدة خارج إطار المجموعات، أتى بأسلوب غنائي جديد، شكل إضافة نوعية إلى الساحة الغنائية المغربية، وتمكن أكثر من إبراز طاقته الصوتية وموهبته المتفردة في الأداء الغنائي، الذي يرتكز بالأساس على مسرحة المشهد الشعري، نستحضر في هذا الإطار أغنيته الشهيرة التي تحمل عنوان: دندانة.
لقد مكنه تحرره من قيد مجموعة جيلالة، في أن يشتغل بشكل مكثف في هذا المجال الفني الذي يعشقه، حيث أثمرت تجربته عدة ألبومات غنائية، فضلا عن مشاركاته في تجارب فنية، سواء من خلال إبداعه الزجلي أو أسلوبه اللحني أو توجيهاته وتحكيمه.
عموري مبارك:  مجدد الأغنية الأمازيغية

قليلون يعرفون أن الفنان المرحوم عموري مبارك، بدأ مساره الفني داخل فرقة غنائية، كانت هذه الفرقة التي توقفت في بداية الطريق تحمل إسم: أوسمان، وعناها بالعربية البرق. لقد شكلت هذه الفرقة إضافة نوعية للأغنية الأمازيغية التي تؤدى جماعيا بالخصوص، سواء من حيث الآلات الموظفة: آلة القيتار، الكمان، إلى غير ذلك، أو في ما يخص اللحني الذي كسر الإيقاع الأمازيغي المعهود، وإن تم الاحتفاظ بالقاموس اللغوي لهذه الثقافة الشعبية.
غير أن صعوبات اعترضت هذه الفرقة الغنائية التي كانت واعدة، أدت بها إلى التوقف، ومن ثم كل عضو من أعضائها، -لا نقول: ذهب إلى حال سبيله- بل شق لنفسه مساره الخاص الذي يؤمن عيشه ويشبع قناعاته المتعلقة بالممارسة الفنية.
ومن بين هؤلاء طبعا، كان المرحوم عموري مبارك، الذي أصاب الاختيار، حين قرر مواصلة السير على درب الغناء، فقد اشتغل بمفرده، مصطحبا معه آلة القيتارة، واستطاع بفضل موهبته في اللحن والأداء، أن يحرز على جوائز قيمة، لعل أبرزها تلك التي نالها أواسط الثمانينات من القرن الماضي، المتعلقة بالجائزة الوطنية للأغنية المغربية، عن أغنيته: جونفيليي، التي تتحدث عن وضعية المهاجرين بفرنسا، يمكن القول إن هذا الفنان قد نجح في مساره الفني وكان له إسهام حقيقي في تجديد الأغنية الأمازيغية.

مصطفى بوركون:  الوفاء للأغنية الشعبية

بدأ الفنان الشعبي مصطفى بوركون فن الغناء في سن مبكرة، واستطاع أن يفرض حضوره ضمن المجموعة التي تحمل اسم الحي الذي تنتمي إليه الفرقة، ألا وهو حي بروغون. حققت مجموعة نجوم بوركون تجاوبا سريعا مع قطاع واسع من الجمهور العاشق للأغنية الشعبية، سيما وأنها وظفت ألحانا وكلمات تتجاوب مع اهتمامات جيل المرحلة، مرحلة الثمانينات بالخصوص، لقد عاشت فرقة نجوم بوركون زمنها الذهبي، حيث حققت ألبوماتها الغنائية، من قبيل: شحال تسنيتك وما جيتيش.. وغيرها من الألبومات، مبيعات قياسية، وكانت كل عائلة تفتخر بأن تحيي هذه الفرقة بالذات أعراسها الخاصة.
غير أنه لكل بداية نهاية، فقد حكم على هذه الفرقة بالتوقف، بالنظر إلى عدم استمرار أعضائها في التوافق في ما بينهم، وبالتالي وجد مصطفى بوركون نفسه أنه عليه أن يخوض تجربته الخاصة خارج إطار المجموعة، حيث استطاع أن يثبت ذاته، وهو ما شجعه على الاستمرار في هذا الإطار بأسلوبه الناجح في الأداء على آلة الكمان، دون أن يخرج عن الطابع الشعبي الذي تشبع به في الفرقة المأسوف عليها، سواء من حيث الكلمة واللحن والأداء، فأنتج عدة ألبومات واستطاع أن يؤسس استوديو للإنتاج الغنائي.
فريد غنام: طاقة صوتية رفيعة

من الفنانين الذين يمثلون الجيل الجديد والذين قرروا بدورهم أن ينفصلوا عن فرقهم الغنائية، ويشقوا مسارهم الفني بمفردهم، يبرز الفنان فريد غنام، حيث كان له حضور بارز في فرقة غنائية تحمل اسم مايارا باند، لا بل يمكن القول إنه كان من بين المساهمين في إنجاح تجربتها التي تتميز باشتغالها على الإيقاعات الموسيقية الغربية ومزجها بالإيقاعات المستوحاة من تراثنا الغنائي، غير أنه ارتأى أن يثبت وجوده خارج إطار هذه المجموعة، بعد أن شعر بأن لديه إمكانيات لا يمكن له أن يبرزها إذا بقي حبيس المجموعة وتوجهاتها الفنية. ومن ثم صار يقدم إنتاجات غنائية بمفردهم، واستطاع أن يثبت وجوده في بداية هذه التجربة الجديدة من خلال مشاركته في بعض المسابقات الغنائية الدولية، من قبيل مسابقة: أحلى صوت..
يبدو أن اختياره لهذه التجربة الغنائية كان في محله، سيما وأنه يمتلك طاقة صوتية رفيعة، من غير المعقول تركها تذوب داخل مجموعة من الأصوات، حتى وإن كانت هذه الأصوات تشكل فرقة غنائية متناغمة.

 > إنجاز: عبد العالي بركات