هذه حلقات وسمتها بـ “النظرية الأخلاقية في الإسلام”، جوابا عن سؤال: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟. أضعها بين يدي القارئ الكريم سلسلة منجمة في هذا الشهر الفضيل، لعلها تسهم ولو بقدر يسير في إعادة إحياء السؤال، في زمن أصبح فيه سؤال الأخلاق ملحا أكثر من أي وقت مضى. فالناظر العارف المطلع يفهم أن باب السؤال، سؤال الأخلاق هو من الأسئلة المتسعة والتي تم تصنيفها منذ الفلسفة الأولى كباب من الأبواب الكبرى التي تهم الفلسفة. وعليه فباب الأخلاق وسؤال الحسن والقبيح والخير والشر وغيرهما من الثنائيات لم يخل مجتمع من المجتمعات المعرفية من الاهتمام بها والكتابة عنها وفيها. وربما كان هذا هو السبب في جعلي في هذه الحلقات لا أولي اهتماما كبيرا للجانب النظري والمناقشات النظرية، التي هي على كل حال مدونة مشهورة يعلمها العالمون. فقد ركزت بالأساس على ما يظهر من أخلاق المسلمين وبما يضمر اعتمادا في تفسير ذلك على خطاب الدين والمعرفة العامة.
وعلى جملة هذه المفاهيم يبدأ المسلم في التحرك داخل المجتمع، دون أن يعي غالبا هذه الخطاطة المتضمنة في نصوص القرآن، فهو يفهم فقط أن عليه أن يؤدي الشعائر حتى يبقى على الأقل محسوبا على زمرة المسلمين. وقد ساهم في هذا التمثل وغيره كثير مما يثبط العمل بالمقصد الخطابات الوهابية التي تراهن فقط على الإنجاز. فالوعاظ والخطباء يحثون الناس على أداء الشعائر ويستعظمونها أيما استعظام؛ حتى يجعلوها تعظُم مقاصدها التي قامت من أجلها. وبدلا من أن تترسخ مفاهيم مثل التقوى والعمل الصالح والإحسان، يحل محل هذا فصل شبه تام بين الإنجاز والقصد، فتجد الرجل أول ما يسألك عنه هو الصلاة، ويحثك على الصلاة، بل إن هذا الخطاب حول هذه الشعيرة العظيمة المقصد إلى إلزام دنيوي يتسابق الناس إلى المساجد للتخلص من ثقلها، بدلا من اعتبارها وسيلة لتزكية النفس وإراحة البدن سيرا على القول المشهور في الخبر: أرحنا بها يا بلال.
إنه إسلام العادة الذي حل محل إسلام المقاصد. فالشرع إنما شرع العبادات لغاية كبرى هي تحقيق التقوى وإشاعة العمل الصالح. وقد سبق أن ذكرت من قبل كيف أن القرآن جعل الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وكيف نفى الخبر والأثر فائدة الصلاة على من لا ينتفع بصلاته عملا واقعا. فالمؤمن ملزم بالوقوف أمام ربه خمس مرات في اليوم والليلة، وهذا معناه أنه يكون من المفروض عليه أن يذكر الله فيخشاه فينتهي بنهيه ويأتمر بأمره، ولهذا قال الله: ولذكر الله أكبر. فبهذه الآلية تحصل التقوى التي هي غاية العبادة، نجد هذا في قوله تعالى: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون” فجعل التقوى حاصلة بذكر الغيب..ولما تحدث عن شعيرة الحج قال: “لن ينال اللَّهَ لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” وقال: “فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” ولما تحدث عن الزكاة قال: تطهرهم وتزكيهم بها” ولما تحدث عن الصيام قال: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” وفي الخبر يظهر الأمر جليا في قوله صلى الله عليه وسلم: مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه”.
لقد استعظم الناس أمر الشعائر وأحلوها محل المقاصد، وقد ساهم في ذلك الخطاب السلفي البئيس الذي روج لخطاب الإنجاز واستعظم الإنجاز بصرف النظر عن الغايات، فالخطاب السلفي مغرق في الظاهرية، مغرق في التنظيرات العقائدية الفارغة التي تعدم غالبا أي فائدة على حاملها، بل إنه غالبا ما يروج لذلك الخطاب البئيس الذي يجعل المصلي الفاسد خيرا من التارك العامل. فطالما تم حشو الناس بخطاب مثل قولهم في ما تردد من أناشيد: إلا صلاتي لا أخليها هي حياتي دنيتي فيها… وهذا معناه أن المسلم غايته الصلاة وأنه مستعد للتسامح في مادون ذلك.
ليس تنقيصا من أمر الشعائر المأمور بتعظيمها واجبا في نصوص الشرع، فالقرآن يقول: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، ولكن وجب التخلص من ذلك الخطاب الوعظي الذي يحيد بالدين عن مقاصده ليحوله إلى أضحوكة بئيسة في كثير من خطابات الوعاظ والتي سنعرضها في حينها في ما يأتي من حلقات.
إن الإسلام أمر بالصلاة ليس إنجازا فقط، ولكنه قرنها بالإقامة حتى تحقق مرادها في ما سبق ذكره من التزكية. والله أمر بالإيمان ومدحه لكنه جعله غالبا مقرونا بالعمل حتى يؤدي مقاصده في التقوى والإحسان، وإلا كان إبليس بتصديقه بالغيب أتقى الناس. والله تعالى عندما مدح المؤمنين قال:
قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (11).
والمعنى هنا مشروط بما سيأتي لا بما تم، ومثله أن يقول المنادي: قد قامت الصلاة، فليس معناه أنها قامت ولكن حان قيامها كما ذكر الفراء في هذا المعنى. ولهذا فالمؤمن الحق هو بالضرورة مؤمن عامل، ليس أي عمل ولكنه العمل الذي يحقق مراد الله.
إننا وكما اعترفنا في البداية بكون الإسلام لم يغفل جانب الدعوة للأخلاق في كثير من نصوصه الصريحة، حيث جعلها غاية تفضل ما استعظمه الناس من مشاق الأعمال من الصلاة والصيام والقيام، فإننا نسجل في هذه النهاية الأولية خلاصة مفادها: أن ربط الإسلام عمله بالغيب وتعلقه بالغيب غالبا ما لا ينجح في تجسيد مقاصده التي تبقى مقبولة ووجيهة. لكن الإسلام على كل حال لم يقف عند حدود ما ذكرنا من هذه الخطاطة النظرية التي على الأقل استطعنا من خلالها معرفة شيء من حركية العمل داخل الإسلام، فالأكيد أن الإسلام يتسع أكثر خارج سلطة الغيب إلى سلطة الواقع، والأكيد أن له من الآليات الأخرى القادرة على سد كثير من الثغرات والفراغات التي تعجز عن تحقيق الغاية الأكبر المتجسدة في قوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
خالد الاشهب