تستقطب مؤتمرات أحزاب وطنية، منها التي تقام هذه الأيام وأخرى في الأسابيع أو الشهور القليلة المقبلة، اهتماما كبيرا، ذلك أنها تنعقد ضمن انتظارية سياسية كبيرة تعم البلاد، وأيضا لأنها تلتئم في ظل أجواء تنظيمية داخلية ساخنة لم تعشها هذه الهيئات من قبل، ومن ثم الكثيرون يترقبون كيف ستجري أشغال هذه المؤتمرات وما سيصدر عنها من قرارات وتوجهات، وخصوصا نوعية القيادات التي سيجري انتخابها في ختام هذه المحطات الحزبية التنظيمية المحاطة بكثير من الصخب والصراع حواليها.
الانتظار المركزي الأول، خصوصا من مؤتمرات أحزاب وطنية لها تاريخ عريق، يتجسد اليوم في خروجها هي أولا من الجمود العام الذي يكبلها في السنوات الأخيرة، وبالتالي أن تؤسس لحياة جديدة تتميز بالاستقرار التنظيمي الداخلي ووحدة صفوفها، وبالتفاف مختلف مكوناتها وتجديد صياغة هويتها النضالية والسياسية والفكرية، وإعادة امتلاك شخصيتها وقرارها السياسي المستقل.
أما الانتظار الثاني، فيتمثل في الخروج من مرحلة القيادات الحزبية الشعبوية التي لا تنتج سوى الصراخ والسباب والمزايدات الفجة، وهي التي ربما كانت في السنوات الأخيرة نموذجا، لكن تأكد اليوم للجميع أن هذه الطريق قادت البلد إلى الجمود وإلى تكريس الخواء.
الزعامات الحزبية المطلوبة اليوم هي تلك المجسدة لهوية أحزابها، والممتلكة لمصداقية كبيرة، ولوضوح النظر، وتفكر بحجم الوطن.
والانتظاران المذكوران هما مرتبطان جدليا، ويجعلان مؤتمرات الأحزاب الوطنية الجدية أمام مسؤولية كبيرة تتمثل في التأسيس لمرحلة جديدة على الصعيد الحزبي الداخلي والتنظيمي، وبالتالي أن تستعيد هويتها ووضوحها و… روحها.
من جهة ثانية، مؤتمرات الأحزاب ليست شأنا داخليا يهم المنتسبين لها وحدهم، ولكنها مناسبة لكي ينتبه المجتمع والطبقة السياسية ووسائل الإعلام والدولة، إلى حاجة البلاد برمتها اليوم لقوى سياسية حقيقية ومناضلة، لها تاريخ، وتعيش وحدة واستقرارا داخليين، وذات قرار مستقل وشرعية حقيقية، ومن شأن ذلك أن يساعد على الخروج من عبثية مشهدنا السياسي والتمثيلي، وتغيير وضعية الجمود على الصعيد المجتمعي العام.
ولتحقيق هذه الهدفية، الضرورية اليوم للبلاد ولمستقبلها، لابد أن تنتصر هذه القوى على اختلالاتها التنظيمية الداخلية، وعلى كل تجليات الضعف والهشاشة التي تخترقها، وأن تعيد امتلاك هويتها وقرارها المستقل، ولكن أيضا أن تتحرر من الشعبوية العامة التي باتت تلف الكثير منها، ثم أن يتكرس وعي وسلوك سياسي جديدين في البلد يكون مدركا لأهمية الأحزاب ومحوريتها في البناء الديمقراطي العام.
الجميع يعرف أن هناك جهات ولوبيات عديدة، واضحة وخفية، تتحرك على أكثر من مستوى منذ سنوات، وهي تنظر إلى الأحزاب كلها على أنها مفتقرة إلى أي رهان، بل هي ترى أن هذه القوى جميعها بلا أي أهمية، ولا حاجة للمغرب بها، ويجب إبعادها، وترك المؤسسات والسياسات العمومية بين أيدي تقنوقراطيين مجردين من كل انتماء أو تمثيلية أو ارتباط شعبي أو… شرعية.
هذه الجهات لا تطيق السياسة أو التعددية أو التعبير عن الآراء المختلفة، وتكشف عن ذلك بأشكال وممارسات مختلفة، لكن في النهاية، ما يحياه المجتمع اليوم من استعصاءات وجمود وانتظارية هو النتيجة الحتمية لكل هذا الإصرار على التراجع، ولا بد اليوم أن يجري وقف هذا السير إلى الخلف، وتغيير الاتجاه.
البداية هنا، من مؤتمرات الأحزاب الوطنية، وعليها أن تبدأ في صياغة مقدمات قوية وواضحة لطريق مختلف، وذلك عبر إحكام أطروحاتها السياسية والفكرية، وانتخاب قيادات عقلانية ممتلكة للكفاءة والمصداقية وبعد النظر، ثم لاحقا المساهمة في بناء مشهد حزبي وسياسي رصين وواضح ينتصر للمصلحة الوطنية وللتعددية الحقيقية، ويستحضر أوضاع شعبنا والانتظارات الديمقراطية والاجتماعية والتنموية الواجب تلبيتها.
محتات الرقاص