متابعات.. البيانات المسرحية المغربية والمستقبل

الندوة الثالثة للمؤتمر الفكري للمهرجان
يحق لنا أن نعتبر الندوة الثالثة من سلسلة ندوات المؤتمر الفكري للدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي بالرباط امتدادا لندوة مئوية المسرح المغربي، بحيث لا يستقيم أي تحقيب لتاريخ المسرح المغربي منذ البدايات إلى الآن من دون الوقوف على مرحلة مهمة من مسار هذا المسرح، وهي الفترة التي كانت فيها حركة مسرح الهواة في أوج العطاء، إذ كانت مشتعلة بالبيانات المسرحية التي أعلن أصحابها من خلالها عن تيارات فنية تستند على أوراق أو تنظيرات تقعد لتجارب أو توجهات فنية بخصوصيات ومبادئ معلنة.. ومن أهم التجارب التي كانت بارزة في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، سواء على مستوى البحث والتنظير أو على مستوى الإبداع والإنتاج، نذكر المسرح الاحتفالي لرائده عبد الكريم برشيد، والمسرح الثالث لمؤسسه المسكيني الصغير، والمسرح الفقير للمخرج سعد الله عبد المجيد، والإخراج الجدلي لواضعه المخرج عبد القادر عبابو، ومسرح المرحلة لصاحبه الراحل الحسين حوري، ومسرح النقد والشهادة لمبدعه الراحل محمد مسكين..
هذه التيارات كلها كانت حاضرة في ندوة أمس الثلاثاء التي ترأسها قيدوم الاحتفاليين العرب الكاتب المسرحي الدكتور عبد الكريم برشيد، حضرها المؤسسون الأحياء، وناب عن المؤسسين الراحلين من عايشهم وكان شاهدا على تجاربهم..
في البداية حدد المتدخل الأول في الندوة الباحث الدكتور مصطفى الرمضاني الإطار العام الذي بدأت فيه حركة التنظير في المسرح العربي، وما قبله من النظريات المسرحية عند الغرب، كما عرج على السياق التاريخي والثقافي الذي أفرز تجربة التنظير في المغرب، ووقف بشكل خاص عند تجربة المسرح الاحتفالي التي تأسست واستمرت بفضل اجتهادات الاحتفاليين، وعلى رأسهم عبد الكريم برشيد الذي دشنها حينما أصدر بيانه الأول الذي سماه “بيان المسرح الاحتفالي” عام 1976.. وهي التجربة التي واصلت إصدار البيانات حتى صارت اليوم من أهم التنظيرات التي يوليها النقد المسرحي والبحث الأكاديمي عناية خاصة في العالم العربي. وبفضل استمراريتها وتجددها، صارت حاضرة بالقوة وبالفعل في الخطاب المسرحي العربي إبداعا ونقدا، حيث اضطلعت بدور هام في تطوير دينامية التجريب المسرحي التي بصمت المسرح العربي عموما..
وتجدر الإشارة في هذا الباب إلى أن برشيد أصدر ما يناهز العشرين بيانا مسرحيا ينظّر فيها للاحتفالية، ويدافع عنها بكل ما أوتي من جهد وخبرة ووفاء، هذا إلى جانب كتاباته الإبداعية التي تتضمن بداخلها مواقف ورؤى تندرج في خانة التنظير؛ وقد ظل عبد الكريم برشيد مصرا على إغناء مشروعه التنظيري، في الوقت الذي توقفت فيه كثير من المشاريع النظرية التي كان هاجسها الأساس هو تأسيس نظرية مغايرة للخطاب المسرحي العربي. وكل هذه المشاريع جعلت الهم التأصيلي منطلقا لتصوراتها وغاية من غاياتها، بحثا عن هوية متميزة للمسرح العربي، لا تتعارض مع مبدإ التنوع الذي تفرضه عملية التجريب وتلاقح الثقافات والتجارب الإنسانية كما تشي بذلك جل بياناتها وأوراقها تصريحا أو تلميحا. وإلى جانب هذا النزوع المكثف نحو التجريب والاستفادة من التجارب والاتجاهات المسرحية العالمية، ظل هاجس البحث عن الذات والهوية، أو ما يمكن تسميته بالخطاب التأصيلي، حاضرا بكل ثقله في الخطاب الاحتفالي. وهي خاصية تلتقي فيها الاحتفالية مع جل التنظيرات المسرحية المغربية. وقد تبلور هذا الهاجس وانتعش أكثر خلال فترة أواخر السبعينات وبداية الثمانينات: زمن انتعاش حركية التنظير والبيانات المسرحية في المغرب على وجه الخصوص.
ونظرا لتواتر بيانات المسرح الاحتفالي وما تطرحه من مواقف ثقافية ورؤى جمالية، فقد كان طبيعيا، يقول الرمضاني، أن تعرف الاحتفالية ردود فعل متباينة، وصلت حد التشنج أحيانا، خصوصا عند أولئك الذين يولون الأهمية الأساسية للبعد الإيديولوجي على حساب الأبعاد الأخرى المتحكمة في الإبداع أو التنظير، رغم أن الخطاب الاحتفالي لم  يكن يوما في معزل عن القضايا المصيرية والحيوية التي تشغل بال المواطن في إنسيته العامة، دون التركيز على قضية سياسية أو اجتماعية بعينها، لأن الاحتفالية كما يرى برشيد “لم تراهن على العرَضي والمتغير والظرفي، ولكنها راهنت على الأساسي والجوهري والأبدي والحقيقي..”.
إذن، يستنتج الباحث الرمضاني، فالاحتفالية حاضرة بالفعل بما راكمته من إنجازات ساهم فيها الاحتفاليون أنفسهم: مبدعين ونقادا ومنظرين، وعلى رأسهم عبد الكريم برشيد، إلى جانب زملائه في جماعة المسرح الاحتفالي من أمثال عبد الرحمن بن زيدان، ورضوان احدادو، ومحمد أديب السلاوي، ومحمد بلهيسي، وعبد المجيد فنيش وغيرهم. كما ساهم فيها كل النقاد والمبدعين والمنظرين الذين وجودا في الاحتفالية صدى أو رجعا لذاك الصدى، فأبدعوا ونقدوا ونظّروا تبعا لذلك.
الدكتور عبد الكريم برشيد، المنظر الأول للاحتفالية، كان حاضرا بقوة في هذه الجلسة من خلال المداخلة التي قدمها في آخر الندوة والتي لخص من خلالها الفلسفة التي يقوم عليها المسرح الاحتفالي ومقصديته العامة. وركز بالدرجة الأولى على المرتكزات أو المفاصل، كما سماها، التي تعتبر المداخل الكبرى للاحتفالية وهي: أولا السعي نحو تعريب المسرح العربي بمقاربة تأصيلية وليست توصيلية، ثانيا تجديد منظومة اللعب التمثيلي، ثالثا تطوير المجتمع المغربي وإخراجه من ماضويته وتخلفه نحو الذهاب به في طريق الحداثة..
هذا التأصيل الذي تحدث عنه الرمضاني وبرشيد نجده في تجليات أخرى عند المسكيني الصغير المنظر الأول للمسرح الثالث في المغرب.. فعند حديثه في مداخلته عن الهاجس الذي سكنه أثناء التفكير في صياغة تنظير مسرحي بمنظوره الخاص، أكد المسكيني أن المسعى العام هو البحث عن مسرح عربي مغربي يبتدئ من سبر واختراق واستنبات معطيات الثقافة الشعبية كأدب قائم يمثله الأفراد والجماعات والأمة في السلوك الجمعي والعقلي والنفسي. فالتراث الشعبي كمرجع ميتولوجي سيف ذو حدين، يقول المتدخل، وهو نتاج اجتماعي طبقي قد يكرس في جانب منه سيطرة “طابو” معين في ممارسة حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولهذا ولكي يكون هناك سبر واختراق سليم وصحيح وعلمي يجب الالتجاء إلى فهم ودراسة إيديولوجية الطبقة المنتجة لهذا التراث والتعرف على حقيقة المحتوى الأدبي والفني المقترح كمادة للنص والعرض المسرحي.  وهنا يدعو الكاتب المسرحي المسكيني الصغير إلى إعمال البحث الواعي بضرورة التراث الشعبي والاستفادة منه واستثماره، وهذا يستوجب، في نظره، شرطين أساسسين، أولهما القيام ببحث ميداني قصد تجميع المادة ودراستها وتحليلها، فاختراق تراكم هائل من القصص والحكايات والأحاجي والأمثال والسير والطرف والخرافات والأساطير التي رافقت طفولة الإنسان يتطلب فهما جيدا لطبيعة الموضوع ودلالاته ورموزه الظاهرة والخفية وارتباطها التاريخي والعاطفي من أجل تثوير أبعادها وقيمها الاجتماعية. ثانيهما استثمار تقنية المتن الأصلي في تطوير جمالية التواصل بين المتلقي والموضوع، ذلك أن تشخيص المحكي بجميع أغراضه الفنية سوف يحقن ذهن المتلقي العربي بخيال منظور ينفتح على واقع النص المعيش في زمان ومكان معينين، ويذكي حماسه ويحرك وجدانه تجاه محيطه  المنفتح أو المقعد.. ومن خلال هذا البحث خلص المسكيني إلى “أننا نستطيع إنتاج نص متميز، وعرض ينتمي إلى ثقافتنا ويتمثل خطابنا الوطني والقومي والإنساني، ويستفيد من أشكالنا المسرحية الموجودة في فضاءات ثقافاتنا الفرعية المغربية الغنية”.
ويعتبر المسكيني أن المسرح الثالث استوعب مفهوم المسرح في أشكاله المتعددة، انطلاقا من مرجعيات الثقافة العربية المغربية والإسلامية العالمية، وأن البحث عن لغة درامية يتطلب عودة واعية بأهمية هذه المرجعيات، وقد قدم المسرح الثالث مجموعة من الأعمال أثارت فضول النقاد والمهتمين داخل المغرب وخارجه، “حيث تأكد جليا صدق تعاملنا مع المعطى الثقافي المغربي والعربي، وبخاصة الثقافة الشعبية والأشكال الفرجوية”، يقول المتدخل.
وفي تقديره لتعاطي وتفاعل المسرح الثالث مع الثراث في شتى مصنفاته وتعبيراته المختلفة والغنية في الأدب الشعبي والفنون الشعبية والتاريخ والآثار، يعتبر المسكيني الصغير أنه قد تم بالفعل تثوير الجانب المحكي والمكتوب، وتعددت النظرة إليه في تجادل مستمر داخل واقع متخيل خرافي أسطوري ماضوي تم استحضار مواقفه من خلال رموز ودلالات المتخيل الشعبي والمحكى الشعبي العجيب والمدهش، عبر رموز ودلالات تتحرك خلف أقنعة الحيوان والجماد والنبات، ورموز ودلالات تنتج مشهدية عجائبية في النص والعرض، ومن خلال رموز ودلالات الزمان والمكان والأسماء المكرورة في التاريخ والأخبار، ومن خلال رموز ودلالات الشخصيات الكاريزمية من قبيل الأولياء والأبطال والمتصوفة والشهداء…
ومن أجل تأسيس مسرح مغربي عربي إنساني، يرى المسرح الثالث أنه من الضرورة توفير بعض الشروط منها: حضور المشروع الوطني والقومي، أي حضور الهم المغربي والعربي المشترك في السلوك والخطاب في مواجهة الآخر. وحضور المرجعية الوطنية، أي حضور الذاكرة المغربية العربية في البحث الميداني، في استخراج واستنبات المتون الدرامية في جميع مستوياتها الأدبية والفنية. وأيضا حضور الديمقراطية، أي حضور الحق في التجريب، والحق في اكتساب المعرفة، والحق في الاجتهاد والابتكار.
وارتباطا بنظرية التفاعل الجدلي التي تشكل النسيج المرجعي والفكري للمسرح الثالث، يؤكد المتدخل صاحب التجربة، أن مضمون المسرح الثالث يقوم بناء على تطور جدلي لتعامله مع أي نص انطلاقا من الفكرة في إطارها الواسع، وتعني وتتجلى الفكرة في تركيب المسرح الثالث في ثلاثة أبعاد على شكل ثالوث معقد ومركب من: الفكرة الأولى/ الأصلية وتعني الفعل الحركي المنتج، والفكرة الثانية/ الفكرة الضد وتعني التصور المنطقي المضاد للفعل الحركي المنتج، والفكرة الثالثة/ الفكرة ضد الضد وهي التصور المنطقي للفعل الحركي المنتج الذي يتجه إلى الأمام بعيدا عن التصور التلقائي للفكرة الأولى، ومستفيدا من التصور المضاد للفكرة الضد..
هذه المنظومة الفكرية الجدلية هي مربط الفرس في كل العروض التطبيقية والإبداعية التي راكمتها جماعة من المبدعين المتبنين لتيار المسرح الثالث في المغرب وخارجه؛ إذ أن التنظير في المسرح الثالث لم يقتصر على اجتهادات المسكيني الصغير فحسب، وإنما امتد ليشمل أيضا مبدعين ممارسين أمثال المخرج سعد الله عبد المجيد صاحب ورقة “المسرح الفقير” وعبد القادر عبابو صاحب مشروع “الإخراج الجدلي”.
ذلك ما أكده المخرج سعد الله عبد المجيد في مداخلته ضمن أشغال هذه الندوة، حيث نبه في البداية إلى أن تنظيرات المسرح في العالم العربي عموما لا تخرج عن إطار “النص الأدبي” و”النص المسرحي” و”سلطة النص” و”كتابة المضمون” الأمر الذي يستدعي “التنظير التطبيقي” لخلخلة أضلاع “الفبركة الدرامية” وتحليل منظومة “اللعبة المسرحية” ولن يتم ذلك إلا من خلال أسئلة مباينة حول عناصر وأدوات العرض المسرحي في تجلياته المتعددة..
من ثمة جاءت أوراق المسرح الفقير لتنتصر للعرض المسرحي بكل عناصره ومكوناته.. حيث تسعى في هدفيتها العامة إلى “محاولة إعتاق المسرح من شرنقة (السلطة الأدبية) والتجاوز به عبر العناصر الدرامية وسلطتها وقوتها”. وهنا يحدد المخرج سعد الله عبد المجيد مجموعة من حقول الاشتغال التي قاربتها أوراق المسرح الفقير منها: المسرح كمنبر أدبي؛ سلطة المخرج؛ تعقيدات الديكور المسرحي باعتبار العرض المسرحي رؤية ورؤيا؛ دراسة الفضاء الدرامي: حيث أن كل مادة سينوغرافية تحمل دلالة شعرية تخيلية؛ دراسة الممثل وتحديد تحولاته التشخيصية وانتقاله من مرحلة البيان والتبليغ إلى درجة التحول الميتافيزيقي والعودة إلى درجة “الطبيعي”؛ دراسة الحركة والمؤثرات وعلاقتها بـ “المكان المسرحي” و”مكان العرض” و”البعد الاجتماعي والسيكولوجي للمشاهد” و”تحديد مقياس الأحجام باعتبار اللعبة المسرحية هي “فن الأحجام” في إطار “فضاء معماري حي”…
ويدقق المتدخل هذه المجالات عندما يتعلق الأمر بالواقع التطبيقي في ورشة العمل والإنجاز، بحيث يتم الانطلاق في عمله الدراماتورجي من عملية إنتاج نص درامي، ثم يعرج على فنية الكتابة الإخراجية أي إنتاج نص فرجوي سمعي بصري، وينتقل إلى فن الكتابة السينوغرافية باعتبارها ترنيمات نصوصية في الفضاء والزمان والمكان. وكتابة باقي العناصر الدرامية ومنها سحر الملابس والأزياء والملحقات. ثم ينتقل لفن الكتابة التشخيصية أي ضرورة البحث عن لغة أخرى في جسد الممثل. ثم فن الكتابة الموسيقية والكوريغرافية، وأخيرا فن الكتابة التواصلية: أي دراسة سوق المتفرجين (الجمهور المسرحي)، وتحديد مكان العرض المسرحي.
وفي ختام عرضه لخص سعد الله عبد المجيد الرؤية الإبداعية الجمالية التي هي مجموع عناصر المسرح التي تؤلف ما أسماه بـ “المعجبة”. فـ “المعجبة” هي العرض المسرحي الذي يمشي فوق سلك رقيق ممدود بين القوة والهشاشة، بين المذكر والمؤنث، بين العنف والحنان. مضيفا ان “المعجبة” هي العرض المسرحي الذي يضل في اللاتوازن الذي يحفظ التوازن. هو اللاتوازن الذي ننتظره من الجمهور، مفسرا أن هذا الجمهور عندما لا يفهم العرض، فإنه يعود مع ذلك ليفهم شيئا. هذه هي العلاقة التواصلية التي تربط صناع “فرجة المعجبة” بالجمهور.
وضمن نفس العائلة المسرحية، عائلة المسرح الثالث، يتدخل المخرج عبد القادر عبابو لتسليط الضوء على مشروعه التنظيري الموسوم بـ “الإخراج الجدلي” معلنا منذ البدء الخانة الفكرية التي يمتح منها فلسفته المسرحية، وهي فلسفة المنهج الجدلي التي تنحو منحى تحرريا رافضا للقيود والجمود، والتي تحمل، يقول المخرج عبابو، “رؤية جمالية فكرية إبداعية تعتمد صراع المتناقضات أداة للتطور، والحركة المبدعة مسارا لتجاوز سكونية القديم المتخلف، ونهج التجديد والتجدد آلية لاقتراح مسرح مخالف في طبيعة مشروعه الجمالي/الإبداعي وموقفه في الزمان والمكان من المنظومات الثقافية والفكرية والجمالية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية ، وإقناع الذات والآخر بأن كل شيء في الحياة يتغير ويتطور ولا دوام أو سكون لأي ظاهرة أو شيء أو كائن في الوجود..”.
انطلاقا من هذا الوعاء المرجعي، يؤكد المتدخل، أن الإخراج الجدلي والمسرح الثالث، ضمن إطار منطلقهما الفكري ورؤيتهما الجمالية في الإبداع المسرحي ومنهجية تعاملهما مع أبعاد التاريخ والزمان والمكان، اشتغلا على متن الأسطورة مثلها مثل المتون الثراثية الأخرى، لكنها مختلفة عن الطرق المشاعة والمألوفة.. ولعل الاختلاف هنا يكمن في نوعية الاشتغال في المسرح على التراث، لأن مفترق الاتجاهات في طبيعة هذا الاشتغال يكمن في نوعية الجواب على سؤال الكيف: أي على أي أساس أو أي توجه يتم الاشتغال على التراث؟ ففي تصور الإخراج الجدلي والمسرح الثالث، يبقى تناول التراث في الإبداع المسرحي إما بهدف التغيير والتطوير أو بهدف التكريس والانشداد للماضي والواقع المهيمن. والمنهجية الجدلية في الكتابة الدرامية والإخراج المسرحي، يقول عبابو، “مكنتنا في واقع الأمر من تجاوز معضلة إشكالية التعامل مع التراث عموما والأسطورة على وجه الخصوص”.
ويوضح المتدخل، بعد أن سرد مجموعة من نماذج النصوص التي راكمتها التجربة وخصوصا كتابات المسكيني الصغير، أن الإخراج الجدلي اشتغل ومازال على الأسطورة أو الحكاية بوصفهما أنوية ثقافية/فنية حمالة لقيم إنسانية جمالية فكرية تاريخية تستطيع تخصيب إبداعية العرض. بحيث يتم اختيار هذه الأنوية حسب نوعية المخزونات القيمية التي تكتنزها والتي من المفروض أن تشكل بعض عناصرها على الأقل محفزات إبداعية لعملية التجادل المسرحي، ويقع هذا التجادل في مستوى أول مع مكونات النص الأصلي في أفق توليد بنية نص جديد يسمى في رؤية الإخراج الجدلي بنص العرض، وفي مستوى ثان يحدث التجادل مع مجمل مكونات العرض الإخراجية والسينوغرافية، وفي مستوى ثالث تتحقق المساهمة الإبداعية في تأهيل العرض لامتلاك قوة الانفتاح المبدع على مجادلة الجمهور جماليا / فكريا.. خصوصا وأنه في العرض المسرحي الجدلي، لا يتلقى الجمهور الأسطورة كما يعرف تفاصيلها في الواقع، ولكنه قد يكتشفها في بنية جديدة ومضامين جديدة وجمالية جديدة وقد لا يتعرف عليها ولكنه يجد نفسه في حالة تفاعل خفي مع بعض من شظاياها وهي تجادل مخيلته وأحاسيسه وأذواقه وذاكرته وفكره وأوضاعه..        
ووقف عبد القادر عبابو بإسهاب في التحليل والنمذجة والتشخيص على أهم وظائف الاشتغال على التراث / الأسطورة في الإخراج الجدلي، ومنها الوظيفة الثقافية، الوظيفة الجمالية، الوظيفة الفكرـ أيديولوجية، ثم الوظيفة التواصل ـ جدلية.. وحلل خصوصيات كل وظيفة على حدة وعناصرها ومؤداها مع تبيان انعكاس ذلك على تجربة الإخراج الجدلي وتقديم نماذج وأمثلة من المتون التي تم الاشتغال عليها.
وبخصوص تجربة مسرح النقد والشهادة للكاتب المسرحي الراحل محمد مسكين، قدم الباحث الدكتور جلال أعراب بشأنها قراءة في أهم معالمها وخصائصها التي تميزها عن سائر التجارب التي عاصرتها.. وهكذا شكلت كتابات مسرح النقد والشهادة لمحمد مسكين رؤى فكرية همت الحركة المسرحية العربية، ووضعت تصورا عميقا لتجليات وخفاء مواطن السلب والإيجاب في المسرح العربي عبر محطاته ومنعطفاته التاريخية. وأسهب المتدخل في تحليل تجارب المسرح العربي  ومحاولات التأصيل المتعددة قبل الولوج إلى تجربة محمد مسكين.
وفي ما يتعلق بأهم خصائص مسرح النقد والشهادة، فهو مسرح عضوي في جوهره، يستمد قوته وفعاليته من خلال فهمه الدقيق والعميق لبنيات الواقع العربي في تجاه طرح بديل مغاير لما هو سائد. وتبرز سمات هذا المسرح في عدة أبعاد نقدية ودلالية، وأبعاد أخرى على مستوى نقد وتكسير السائد والمألوف، وعلى مستوى الاتجاه نحو فضح وتعرية قمعية الواقع، وضد الاستلاب، وعلى مستوى تحديد معنى مسرح الالتزام في صلته الوثيقة بقضايا وهموم الشعب العربي، وعلى صعيد إعمال العقل، واعتماد البحث والتجريب، وفي الأخير هو مسرح السؤال والشهادة.
ولعل أهم ما يمثله مسرح محمد مسكين، في نظر جلال أعراب، هو ما كان يسميه محمد مسكين، في حديثه عن اشتغال الحقل المرئي فوق الركح، بـ «الكولاج المسرحي» أو ما يمكن أن نسميه بـ « هدم نص الذاكرة وبناء نص العين». والكولاج المسرحي بنية تضع في اعتبارها أهمية حضور الجانب المرئي في العملية المسرحية، وتعطي نفسا جديدا للممارسة المسرحية عبر استثمار المواد المؤثثة للعرض المسرحي، وتحديد وظائفها، التي هي بقدر ما تسجل حضورها، بقدر ما تمتص اهتمام المتلقي، وتجذب عينه، “لهذا فالمسرح النقدي يجب أن يعتمد على الجانب المرئي في خطابه الإبداعي من خلال مخاطبة عين المتلقي عبر أشكال ومواد جديدة (خيوط – أسلاك- زجاج – ورق- حجر- جلد – عظام- قصب…الخ”) .
ولعل تسخير هذه المواد لخدمة العرض المسرحي عبر الديكور يقلل من شأنها، ويقلص حقلها الدلالي، لأن مفهوم الديكور أصلا يحيل على الثبات والسكون: تحضر الأحجام، وتغيب الوظائف، في حين أن الكولاج المسرحي، يتخذ سمة التحول والانفتاح على التأويل والقراءة المتعددة باعتبار «الوحدات المكونة للكولاج المسرحي، هي علامات، ورموز، ودلالات»  وبذلك يصبح العرض المسرحي خاضعا لعملية «السميأة» التي تحدد مدى اشتغال العلامات والدلالات. «لأن الكولاج المسرحي هو لغة، واللغة هي رمز، إنها إحالة لشيء ما، لهذا يجب الحفاظ على هذه الدلالة الرمزية اللاواقعية لمكونات الكولاج المسرحي».
ويأتي الناقد والكاتب المسرحي الدكتور محمد بهجاجي ليقدم قراءة في تجربة تنظيرية أخرى في سياق البيانات التي عرفها المشهد المسرحي المغربي، ويتعلق الأمر بتجربة مسرح المرحلة للراحل الحسين حوري.
في بداية عرضه وقف المتدخل على المعالم الأساسية لتصور الفنان الحسين حوري عن الفن والحياة ضمن مساره الإبداعي كممثل ومؤلف ومخرج. مشيرا إلى أن الراحل حوري اختار أن يسهم في إثراء الجدل الفكري الذي عرفته الساحة المسرحية المغربية بعد صدور بيانات الاحتفالية ابتداء من منتصف سبعينيات القرن الماضي، وما تلاها من تصورات واجتهادات. وأصدر حوري “الورقة الأولى لمسرح المرحلة” بتاريخ 5 غشت 1984، وبعدها بسنة واحدة نشر “الورقة الثانية” بتاريخ 23 ماي 1985. ووضع المتدخل تجربة مسرح المرحلة في سياقها التاريخي الثقافي والسياسي كما حللها كخطاب وكتصور أدبي وجمالي.
وبخصوص السياق الذي أفرز هذه التجربة، يقول بهجاجي، كان الحسين حوري ينتمي إلى ثقافة اليسار فكرا وممارسة ضمن شرط سوسيوـ ثقافي يشهد امتداد المواجهة بين مشروعين للدولة والمجتمع، مشروع محافظ يسعى إلى إدامة الاستبداد مقابل مشروع لبناء الديمقراطية، ولتعزيز مناخ حرية التعبير وحقوق الإنسان.. كان حوري يتابع هذا الجدال النظري الذي يطرح للنقاش مفهوم الفن والمسرح تحديدا، ووظيفته في المجتمع، والأشكال المضمونية والجمالية التي يقترحها. وحدد المتدخل ثلاث مدارات مرجعية لاشتغالات الحسين حوري ومسرح المرحلة، وهي:
– البناء النظري والإبداعي لبرتولد بريشت أساسا.
– بيانات المسرحي سعد الله ونوس.
– ورقة المسرحي سالم اكويندي “مقدمات نظرية باتجاه المسرح الذي نريد”، 2000.
وفي المستوى الثاني، ميز بهجاجي في بنية خطاب مسرح المرحلة بين البيان الذي يرافع فيه حوري من أجل ارتباط المسرح بالدينامية المجتمعية، وبين السجال حيث كان حوري يقترح تصورا جديدا في مواجهة صريحة لما اعتبرهم دعاة التراث..
ولترجمة هذا الوعي، يضيف المتدخل، قسم حوري تصوره إلى محورين: محور الكتابة الدرامية القائمة على معرفة الواقع، وعلى دورها في خلق الوعي الاجتماعي، استنادا إلى القصة الحية، وإلى جدلية الحوار، وإلى علاقة خاصة مع الجمهور. ومحور الكتابة السينوغرافية المعتمدة على اعتبار الإخراج إبداعا ثقافيا، وتحليلا علميا تتبوأ فيه أنساق التعبير التقنية مكانة جوهرية (الديكور، الإنارة والممثل بوعيه الفكري، وبلغات جسده…).
ويخلص محمد بهجاجي إلى أن مسرح المرحلة الذي نظر له وأبدع فيه المسرحي الراحل الحسين حوري في السنتين الأخيرتين من حياته القصيرة، ينم عن تصوره النظري للشروط الواجب توفرها من أجل “خلق مسرح بالشكل الذي نريد”. وهو تصور ذو بعد استشرافي يمثل الاجتهاد الشخصي لصاحبه الذي يرافع من أجل مسرح ملتزم يواجه الواقع من أجل كشف تناقضاته بجرأة ومعرفة ونقد، وذلك لمواجهة ما اعتبره “مسرحا بلا موقف”.

Top