تملك كل مدينة في العالم بصمتها الفريدة التي تميزها عن غيرها من المدن. إلا أن القدرة على تلبية احتياجات اليوم من دون التفريط بمتطلبات الغد هي التي تصنع الفارق بين ما تسمى بالمدن المستدامة وتلك التي تستنزف مواردها.
حاليا، يعيش أكثر من أربعة بلايين شخص ضمن المدن، أي أكثر من نصف سكان العالم. وهذا العدد يشهد نموا متسارعا، خاصة في آسيا وأفريقيا، حيث يزداد أعداد سكان المدن على حساب تراجع أعداد سكان الريف. وفي سنة 2050، من المتوقع أن يقيم 70 شخصا في المدن من بين كل 100 شخص.
المدن تبقى أماكن جذب للمواهب والاستثمارات، وتساعد مئات الملايين على التخلص من براثن الفقر المدقع، وتولد أكثر من 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لذلك فإن تطوير المخططات التنظيمية وتقوية البنى التحتية وتحديث إدارة النفايات الصلبة، تشغل حيزا واسعا من اهتمامات مجالس المدن، ومن دونها لا يمكن لأي مدينة التجاوب بشكل مرن مع النمو السكاني الناتج عن الزيادة الطبيعية والهجرة من الريف.
ما هي المدن المستدامة؟
المدينة المستدامة هي مستوطنة بشرية نابضة بالحياة وأرض للفرص الكثيرة، تتناغم مع البيئة الطبيعية لتوفير حياة كريمة لجميع المواطنين. وتتميز المدينة المستدامة بأنها مدمجة متجانسة ومتكاملة، وهي نظيفة، تستخدم مواردها بكفاءة، ومتجذرة في الطبيعة وتفاعلية. كما أنها تنهض على العمل الإيجابي وتوفر المعيشة الكريمة والأجر المناسب، وتحكمها سياسات مبنية على الاحتياجات الإنسانية. ويكون ذلك كله من دون التفريط بقدرة أجيال المستقبل على تحقيق المكاسب ذاتها.
هناك العديد من الإجراءات التي يجب اتباعها لجعل المدن مستدامة ومحدودة الأثر على البيئة. منها، على سبيل المثال، خفض انطلاق ملوثات الهواء التقليدية والحد من انبعاثات غازات الدفيئة، واستخدام الحد الأدنى من مصادر الطاقة غير المتجددة كلما كان ذلك ممكنا، والتخلص من المنصرفات في المجاري المائية بعد معالجتها وإزالة مجمل ملوثاتها الخطرة، واستخدام الطاقة والمياه والموارد الطبيعية الأخرى بأفضل كفاءة متاحة، والعمل على إقلال المخلفات وتدويرها لإقلال أثر النفايات التي يجرى التخلص منها مهما كان حجمها.
إن البنى التحتية هي أكبر عائق يمكن أن يعرقل التحول إلى مدينة مستدامة. فهي تتطلب استثمارات كبيرة وتستغرق فترة طويلة لإنجازها. في حالة مدينة نيويورك، يمكن اعتبار مشروع نفق المياه الثالث الذي سيكتمل في سنة 2021 مثالا على طبيعة مشاريع البنى التحتية، حيث استغرق تنفيذه خمسين سنة من التخطيط والعمل، وتطلب خمسة بلايين دولار من الأموال العامة.
مشروع نفق المياه الثالث يتيح لمدينة نيويورك توفير المياه بشكل فعال ومجد، ومع ذلك لم يباشر بتنفيذه إلا بعد تداعي الشبكة القديمة التي يقارب عمرها المئة سنة وفقدان الجدوى من إصلاحها. بفضل المشروع الجديد، ستحظى مدينة نيويورك ببنية تحتية متطورة للتزود بالمياه، تستفيد من النظم البيئية والجريان الحر وأفضل ممارسات إدارة نقل المياه، بنوعية عالية وكلفة متدنية نسبياً.
إشكالية التحول إلى بنى تحتية مستدامة لا تقتصر على الكلفة والوقت، بل تتداخل فيها الاعتبارات السياسية أيضا. ويميل رؤساء المدن والقادة المنتخبون إلى تبني المشاريع الاستثمارية التي يمكن إنجازها ضمن فترة ولايتهم الانتخابية، لتعكس التطور الذي أنجزوه. في المقابل، تتصف مشاريع إدارة النفايات الصلبة وشبكات الكهرباء الذكية وأقنية جر المياه وقطارات الأنفاق بأنها مشاريع مكلفة لا تلفت انتباه الصحافة عادة، وتكون في أغلب الأحيان غير منظورة النتائج على المدى القصير.
الاستدامة والانسجام مع البيئة
وفقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تستهلك المدن 75 في المائة من الموارد الطبيعية للأرض و80 في المائة من الطاقة العالمية المنتَجة، وتتسبب بنحو 75 في المائة من انبعاثات الكربون سنويا. لذلك فإن التحدي البيئي الأبرز الذي تواجهه المدن المستدامة هو طبيعة استخدامها للطاقة وكفاءتها في الحفاظ عليها.
يمكن لشبكات الطاقة الكهربائية أن تكون أكثر استدامة مما هي الحال عليه اليوم، إذ يضيع مقدار كبير من الطاقة خلال مرحلة نقل التيار أو نتيجة عدم الإفادة من كامل الكهرباء المتولدة خارج أوقات الذروة. يبلغ الفاقد نتيجة نقل وتوزيع الكهرباء في الولايات المتحدة نحو 6 في المائة فقط، لكن هذه النسبة ترتفع بشكل كبير في الدول النامية لتصل إلى أكثر من 40 في المائة، بسبب ضعف عزل الشبكات واستخدام تجهيزات غير موفرة للطاقة، إلى جانب ضعف ثقافة الترشيد.
في مجال المواصلات، تعتمد المدينة المستدامة وسائط نقل متعددة كحل للامتداد العمراني الأفقي وتتجنب استخدام السيارات الخاصة. ويرتبط ذلك بتخطيط استخدامات الأراضي وقوانين تحديد المناطق. فمدن مثل نيويورك وبغداد والرياض هي أكثر استهلاكاً للطاقة في نقل الفرد الواحد مقارنةً بمدن مثل لندن وباريس وطوكيو.
امتداد المدينة أفقيا هو انعكاس لتكاليف السكن المرتفعة في مركزها، وكلما كان الإسكان بمختلف أشكاله متاحا لجميع فئات المجتمع كلما نقصت المسافة التي يضطر الكثيرون لقطعها من أجل الوصول إلى مكان العمل أو الدراسة. ارتفاع استهلاك الطاقة في دبي، على سبيل المثال، عائد في جانب منه إلى ارتفاع كلفة السكن في الإمارة، ما يجبر الكثيرين على السكن في مناطق بعيدة تستلزم قطع مسافات طويلة يوميا.
ويقع على الحكومات المحلية أن توفر لمواطنيها مياه الشرب والتنظيف والطبخ والاستحمام. والمدن المستدامة تضع الخطط لتضمن أن تكون المياه متاحة وكافية من حيث الكمية والنوعية في كل الأوقات ولكل الأجيال، خاصةً مع تراجع موارد المياه العذبة.
منظمة الصحة العالمية تقدر أن نصف سكان العالم سيعيشون في مناطق تعاني من ضعف مواردها المائية بحلول عام 2025. وتقرير “البيئة العربية في 10 سنين” الصادر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية عرض لمظاهر الندرة المائية التي تواجهها الدول العربية، إذ انخفضت حصة الفرد من المياه العذبة من نحو 990 مترا مكعبا في السنة إلى 800 متر مكعب، أي نحو عشر المعدل العالمي. بينما تقل حصة الفرد في معظم الدول العربية عن 500 متر مكعب سنويا.
إن الاستثمار في بنى تحتية عالية الأداء لتوفير المياه هو غالبا مكلف جدا، لكن يجب على المدن أن تعتبر هذا الأمر استثمارا في المستقبل، الذي يمكن أن يأتي سريعا بلا أي مقدمات. والماء ليس خيارا بل هو حاجة أساسية لا يمكن العيش من دونها. منذ مدة طويلة، جرى تحذير مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا من مشكلة نضوب مياه الشرب، ومع غياب الاستثمارات الجدية والمجدية، ها هي تعلن 9 يوليوز 2018 تاريخا لوقوع هذه الكارثة.
من جهة أخرى، تواجه المدن تحديات متزايدة في قطاع إدارة النفايات الصلبة. فكميات المواد التي تستهلك تزداد سنة بعد سنة، ومعها تزداد كمية المخلفات الناتجة عنها. ووفقا للبنك الدولي، سترتفع الكلفة العالمية للتعامل مع النفايات من 205 بلايين دولار في سنة 2010 إلى 375 بليون دولار في سنة 2025، وسيكون الارتفاع حادا في الدول النامية.
إن تغير طبيعة النفايات، من مخلفات عضوية في معظمها قبل القرن العشرين، إلى نفايات تكثر فيها المواد البلاستيكية والخطرة خلال السنوات الخمسين الماضية، يوجب على المدن أن تطور نظرتها المستقبلية حول الإدارة المتكاملة للنفايات. وعلى مستوى السياسات الوطنية، يجب اعتماد مفهوم الاقتصاد الدائري، الذي يتم فيه الحد من مدخلات الموارد والنفايات والانبعاثات وتسرب الطاقة.
العديد من المدن حول العالم نجحت في تحقيق استدامة إدارة نفاياتها البلدية بفضل تقليل تولّد النفايات واسترداد المواد والطاقة بطرق مختلفة. وفي المقابل، نجد قلة من المدن العربية تملك إدارة جيدة للنفايات الصلبة، وتعاني مدن أخرى من مشاكل خطيرة في جمع النفايات والتخلص منها.
وعلى نحو مشابه، تتبنى المدن المستدامة معالجة متكاملة للصرف الصحي. وتنجز هذه المعالجة حاليا على ثلاث مراحل: الأولى هي إزالة المواد الطافية والدهون والشحوم، والثانية هي التخلص من المحتوى العضوي، أما الثالثة فهي كيميائية تخلص المنصرفات من مجمل شوائبها. وفي النتيجة يتحول الصرف الصحي للمدن المستدامة من مصدر للتلوث إلى مصدر للمياه المكررة التي تستخدم عادةً في الري الزراعي.
أما في مجال الغذاء، فيمكن اتباع عدة إجراءات لضمان الاكتفاء الغذائي ضمن المجتمع المستدام، مثل الإنتاج الغذائي المكثف ضمن مساحات صغيرة وباستهلاك قليل للطاقة، مع الأخذ في الاعتبار أن تكون مصادر الغذاء قريبة من المدينة.
إن بعض أنواع الإنتاج الغذائي، مثل اللحوم الحمراء، هي أكثر ضررا للبيئة مقارنةً بغيرها. وتقدر منظمة الفاو أن تربية المواشي مسؤولة عن 18 في المائة من انبعاث غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية. وإذا كان تغيير العادات الغذائية أمرا صعب المنال على المدى القصير والمتوسط، فإن إدارات المدن المستدامة يمكنها أن تفرض على البائعين توفير معلومات حول السعرات الحرارية والقيمة الغذائية، للتشجيع على استهلاك المنتجات التي تدعم صحة المواطنين وتحافظ على البيئة.
في المناطق الحضرية المكتظة، تمثل الحدائق العامة والفراغات المفتوحة جزءا هاما من البنية التحتية. البعض يقترح أن جلب الطبيعة إلى داخل المدن هو أمر ضروري للوصول إلى مدن صحية، علما أن دور المتنزهات لا يقتصر على الترفيه، وإنما يمتد ليشمل دعم الحالة النفسية والاجتماعية للمواطنين وتحسين الوضع البيئي من خلال امتصاص الحرارة وثاني أوكسيد الكربون وإقلال تلوث الهواء والحد من مخاطر العواصف وحماية التنوع الحيوي.
من بين الأهداف التي وضعتها مدينة نيويورك لتحقيق الاستدامة كان العمل لأن يتمكن كل مواطن في المدينة من الوصول إلى أقرب متنزه في غضون عشر دقائق سيرا على الأقدام. فالحدائق، بشكل أو بآخر، هي أداة لدمج الديموقراطية في الحياة الحضرية، حيث يتشاركها الناس بجميع طبقاتهم الاجتماعية ومستواهم المادي من دون تمييز، وتساعد بالتالي على إرساء جو من التفاهم الاجتماعي والاستقرار السياسي.
الحياة في مدينة مستدامة
يرتبط نمط الحياة المستدام بشكل خاص بالقدرة على توفير الطاقة والنقل الجماعي والمساحات الخضراء. وهناك اتجاه متصاعد في المعيشة ضمن المدن المستدامة لتحقيق “الاقتصاد التشاركي”، الذي كان على الدوام جزءا من الطبيعة الحضرية، مثل المكتبات والمرافق العامة.
ويتيح الاقتصاد التشاركي الاستفادة من الأشياء والخدمات من دون الحاجة لتملكها. علما أن الأجيال الناشئة لم تعد ترى في التملك امتيازا كما كانت نظرة الأجيال السابقة، بل أن الكثيرين يعتبرون التملك الشخصي عبئا مضافا. هذا النمط الاقتصادي في “الاستهلاك بلا استحواذ” هو أكثر تآلفا مع البيئة، لأنه يرفع جدوى استهلاك الموارد ويحد من تولد المخلفات والانبعاثات والمنصرفات. وتمثل برامج الإيجارات القصيرة الأجل للسيارات في بعض المدن، مثل أمستردام ولندن، نموذجا للاستهلاك التشاركي. ويتم الحصول على السيارة من أماكن مخصصة في المدينة، باستخدام بطاقات ممغنطة، وإعادتها بعد كل رحلة.
في السنوات الماضية، شهدت المدن تسارعا نحو إحياء فكرة تشاركية النشاط والابتكار. الناس حول العالم حاليا أكثر تقبلا لاستضافة الزوار وتشارك الأدوات والتجهيزات والدفع للركوب في سيارات أشخاص لا يعرفونهم، وأبرز برهان على ذلك هو نشوء شركات تعتمد الاقتصاد المشترك لم تكن موجودة قبل عقد من الزمن.
الأمثلة هنا كثيرة، فشركة (Airbnb) التي تعمل في مجال الفنادق وتشارك خدمات الاستضافة تجاوزت قيمتها السوقية 30 بليون دولار، أي ضعف قيمة سلسلة فنادق ومنتجعات هيلتون الشهيرة. أما شركة (Uber) لتشارك النقل بالسيارات عبر تطبيقات الهاتف الذكي، فتصل قيمتها السوقية إلى 70 بليون دولار. ومن اللافت أن شركتي الاقتصاد التشاركي هاتين تأسستا قبل عشر سنوات فقط بفضل الثورة التقنية في أنظمة الاتصالات.
المدن المستدامة لن تظهر بشكل مفاجئ أو من دون بدايات خاطئة. نحن بحاجة للعمل على نشوء هذه الأماكن وضمان بقائها بحيث تكون جاذبة للسكان والزوار، توفر حياة عالية النوعية وتآلفا أفضل مع المحيط. وتملك كل مدينة ما يميزها، فهناك مدن ذات مناخ معتدل، ومدن تمتلك متاحف هامة، وأخرى تحظى بمرافق ترفيهية متعددة أو منشآت صحية متقدمة. وفي جميع الحالات، يفترض بالمدن أن تسعى للحد من تأثير سكانها على النظم البيئية وما يرتبط بها من ماء وهواء وغذاء.
(عن مجلة البيئة والتنمية)