مسرحية “كونكسيون” سمفونية عبثية تعري لا وعينا ووجودنا الفاقد للبوصلة

في إطار الاحتفال باليوم الوطني للمسرح، قدمت فرقة مسرح الطلائعي بمدينة أكادير عملها المسرحي الأخير الموسوم ب “كونيكسيون”، تأليف علي الداه، وإخراج حسن بديدة، وتشخيص كل من الفنانين محمد أوراغ وحسن عليوي، سينوغرافيا البشير إركي وإدارة الخشبة لإبراهيم فم غليل.
العمل المسرحي “كونكسيون” يستمد مقوماته الجمالية والفكرية من خلفيات فلسفية متنوعة خاصة مسرح العبث وفلسفة الوجود، منجز مسرحي قوامه الأداء الفرجوي الحي القائم على استرشاد عميق بتقنيات المسرح الطلائعي، وفاء لنهج المايسترو حسن بديدة الذي يؤمن دائما بأن المسرح يجب أن يكون مشاكسا لكل الطابوهات، مسرحا عقليا وفكريا كما نجد في جل أعماله المسرحية مع فرقته الطلائعي كـ “حلو الباب” و”البركاصة” التي قُدمت للجمهور نهاية القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، وهو نهج قائم على مشاغبة الفكر، ومخاطبة العقل، واستفزاز الإحساس، كما نجده عند الآباء الروحانيين للمسرح الحديث كالرواد الطلائعيين كبرتولد بريخت وبيسكاتور وألفريد جاري وغروتوفسكي وأرطو… ورواد مسرح العبث كصامويل بيكيت ويوجين يونسكو، هذا الأخير الذي أكد أن أساس مسرح العبث هو محاولة تعرية الواقع وزيف الشعارات.. فقد أراد جيله “من الكتاب والفنانين أن يصور هذه الحيرة وأن يعبر عن هذا الشك وأن يتحدى النفاق الإعلامي الدولي بصيحة عالية تقول: إن الإمبراطور لا يلبس أي ثياب وإنما عار كما ولدته أمه، وأن هذا العالم غير معقول.” (1)


لقد نجح فريق العمل المسرحي “كونكسيون” في تعرية واقعنا المزيف، وفضح بطولاتنا الوهمية وانكسار سيوفنا الخشبية، باستدراجنا عاطفيا إلى عوالم العرض لنكتشف أعطاب ذواتنا وزيف هذا الوجود الذي نحياه، بكشف الستار عن كل مظاهر السكيزوفرينيا التي تنخر مجتمعاتنا الليبرالية، على مختلف الأصعدة والمستويات، فالعرض متاهة لا متناهية من العلامات السيميولوجية المتسلسلة على شكل رحلة دراماتورجية محكمة البناء والدلالة الرمزية، فالسفر في العرض كذبة، والأحلام مؤجلة، والمشاعر يشوبها النفاق، والقطار الذي تنتظره الشخصيتان في بعده الرمزي لن يصل، ليستمر انتظار غودو الذي لن يأتي في زمن انقطعت فيه الكونكسيون على كل المجالات، على التنمية، وعلى الاقتصاد، وعلى السياسة، وعلى المجتمع… ليفقد الفرد في هذا المجتمع بوصلته ويسير كالسفينة التائهة في البحر ومصيرها إلى المجهول، بشكل يتماهى ومجموعة من التصورات الفلسفية التي كشفت عن عدم قدرة الليبرالية في فهم وجودها الطبقي والوعي بمصيرها، لنكون أمام إنسان مفكك البنية، مفكك الهوية، مفكك الوجود.. فالفلسفة الوجودية عند سارتر وألبير كامو وغيرهما تنبأت إلى ضرورة تحرير الإنسان نفسه بنفسه من هذا الخوف الوجودي العبثي الذي يعيشه، هذا الإنسان المشيء في زمن الأنترنيت والكونكسيون حولته منتوجاته إلى روبوتات متحكم فيها، مما جعل الوجود في المجتمعات المتخلفة خاصة وجودا مفككا بالمفهوم الذي أتى به هربرت ماركوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” (2) حيث الإنسان الجديد يتعرض لأبشع مظاهر الاستغلال في زمن العقلانية التكنولوجية.
مسرحية “كونكسيون” شبكة رمزية من الدلالات، لا تطرح تيمة موضوعاتية واحدة بل شبكة من الموضوعات، نجح العرض إلى حد كبير في التطريز بينها، من خلال طرح العديد من القضايا بالاستناد إلى الرمزية ودلالة الموقف الدرامي، فهنا مشكل التنمية وهناك آفة ما أضحي يعرف بظاهرة “المؤثرين الاجتماعيين”، وهنالك إشكالية الثقافة والفن والتعليم والبطالة والوعي… كلها مواضيع نجح العرض في مشاكستها وطرحها بطريقة كاريكاتورية، مما جعل العرض متشعبا موضوعاتيا وفنيا.
من الأسس الفكرية والجمالية القوية التي يرتكز عليها هذا المنجز الفني نجد مسرح العبث، إلى جانب جماليات أخرى، مما شكل لنا عملا مسرحيا مركبا يسعى إلى فضح عبثية الوعي الشقي لدى مثقفي المجتمعات المتخلفة ويحتاج إلى وقفات تأمل أخرى، فهذه روح “صامويل بيكيت” حاضرة بقوة معنا في العرض، من خلال هذا الاستناد الفني والجمالي إلى تيمة الانتظار في النص والعرض معا، كما الأمر في المسرحية الخالدة “في انتظار كودو”، إلا أن الانتظار في العرض قدم لنا بطريقة جديدة من رِؤية المؤلف والمخرج كركيزة مركزية للبناء الدرامي والأداء الجمالي، فإذا كان علي داه قد وفق إلى حد ما في استنبات تقنيات العبث في النص من خلال شخصيتي العربي وعلال بشكل يذكرنا بشخصيتي “فلاديمير” وأستراجون” عند بيكيت وتيمة الانتظار حيث الشخصيتان تلتقيان بشكل عبثي في محطة القطار لتجدا نفسيهما في حالة انتظار لا نهائي، انتظار رمزي، انتظار قطار لن يصل أبدا، كما لم يصل “غودو”، الشيء الذي استثمره المخرج حسن بديدة الذي جعل من الانتظار تيمة جمالية موج بها إيقاع العرض، حيث يبدأ العرض بخطى متتاقلة، لكن الإحساس بالانتظار في محطة القطار تسلل إلى الجمهور بشكل مقصود من قبل المخرج، بشكل يلقي بظلاله على نفسية المتلقي، فإيقاع البداية سيختفي فجأة، قبل أن يبدأ الإيقاع بالتصاعد من جديد باعتماد تقنية “الفلاش باك”، مما قدم لنا عرضا متموجا من حيث الإيقاع، الأمر الذي جعل منه معزوفة متناغمة..


استهل العرض بدخول كل من علال والعربي منشغلين بهاتفيهما، وهما يحادثان محبوبتيهما الافتراضيتين قبل أن تنقطع عنهما “التغطية” (الكونكسيون)، هنا أخذ حدث الانقطاع بعده الواغل في الرمزية التي أقحمتنا في دوامة الانتظار استعدادا للولوج في عوالم الشخصيات وأبعادها النفسية. لتصير “الكونكسيون” أداة للتحكم، ورمزية للتواصل الحقيقي المنقطع، وهي العمل السياسي الجاد الغائب، وهي الطبقية، وهي الوعي الشقي، كوجه من أوجه الشقاوة عند “العربي” باعتباره شخصا متعلما يدرك أن “الكونكسيون مقطوعة بينا وبين الفوق”.
وعليه فإن العرض المسرحي “كونكسيون” نموذج من نماذج الأعمال المسرحية الجادة، التي تشهدها الساحة المسرحية المغربية والعربية كونها تطرح انشغالات الفكر الإنساني الحديث، وقد تمكن المخرج حسن بديدة في الدمج بنجاح بين العناصر الجمالية لصناعة فرجة مسرحية متكاملة، بدء من النص المتسم بحبكة دراماتورجية محكمة، بتصوراته الفكرية المشبعة بخلفيات فلسفية واعية لواقع الليبرالية الجديدة في زمن الأنترنيت، ورؤية إخراجية ذات بعد استيطيقي متفرد قائم على تقنية المونتاج السينمائي المستند إلى تنوع مسارات السرد السينمائي والتقطيع المشهدي، بالإضافة إلى قوة الأداء التشخيصي للممثلين حيث أبدع كل من الفنانين حسن علوي ومحمد سيموكا أوراغ في أداء شخصية كل من “العربي” الرجل المثقف الذي سئم انتظار غد مشرق، و”علال” الذي أراد الانضمام للجيش ليتبت للجميع أنه جدير بالاحترام في وطن أصبحت فيه كل الأحلام مؤجلة.. كما نجح الفنانان في تقديم مجموعة من الشخصيات الأخرى في حالة التذكر كشخصية الأم وشخصية البحري وشخصية الكراب…. مما جعل من العرض سمفونية متناغمة من الأحاسيس والمشاعر استدرجت المتلقي عاطفيا للاندماج في الموقف الدرامي، مع أحاسيس هذه الشخصيات ومواقفها وأفكارها يبكي لبكائها ويفرح لفرحها ويحزن لحزنها ويبتسم لابتسامتها في ظل كوميديا سوداء كما أسس لها ألفريد جاري كفسحة وجد من خلالها المخرج والممثلين منفذا لمواكبة التيمات الموضوعاتية للنص المتنوعة، لذلك امتاز أداء الممثلين بشحد مخزون الذاكرة الانفعالية بوعي تام بقصدية الأداء الدرامي لإتاحة إمكانية الانتقال السلس وتموجات الانفعالات السيكولوجية والثقافية للشخصيات باحترام تام للواقعية السيكولوجية كما أرسى دعائمها المخرج الروسي قوسطنطين ستانيسلافسكي. أما العلامة فكما أشرنا سابقا لبعدها المتاهاتي، استطاعت المسرحية أن تشكل من خلال الكرسيين في المحطة سيميوزيسا متكاملا للعرض عبر هذا السفر العلاماتي المتنوع بشكل يتعالق وكل مكونات السينوغرافيا من مؤثرات بصرية وسمعية رغم أننا نرى أنها في حاجة إلى مزيد من التطوير الجمالي والأدائي نظرا لإمكانياتها اللا متناهية، بالانفتاح أكتر على المستجدات الجمالية للعرض المسرحي، لتجاوز جملة من الملاحظات التي قد تقدم للعرض هنا وهناك جماليا فليس هناك أي عرض متكامل.
مجملا فإن العرض المسرحي “كونكسيون” شكل للجمهور فرصة للاستمتاع جماليا وفكريا، باعتباره نموذجا للصنعة المسرحية الجادة المتفاعلة مع قضايا المجتمع والمؤمنة بأن المسرح لحظة فكر ومتعة، واكبت رؤية مجموعة من الرواد الذين استندوا في مختلف أعمالهم لرؤى فلسفية وجمالية متنوعة للتأسيس لممارسة دراماتورجية جادة وفعل تمسرحي واع بكل مقوماته الفنية والفكرية.

هوامش

1 يوكين يونيسكو ، نقلا عن محمد جلال أعراب ” مظاهر الكوميديا السوداء في المسرح المغرب” منشورات جامعة ابن زهر، ط 1 غشت 2012 ص 75
2 هربارت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابشي، دار الآداب، 2004.

<بقلم: محمد أيت لحساين

Related posts

Top