معرض استيعادي احتفاءً بالفنان التشكيلي محمد شبعة بالرباط

يحتضن فضاء التعبيرات التابع لمؤسسة الإيداع والتدبير بالرباط معرضاً استيعاديّاً احتفاءً بتجربة الفنان التشكيلي الراحل محمد شبعة، وذلك طيلة الفترة ما بين 08 فبراير و24 مارس 2018.
حظي الفنان شبعة (1935- 2013) بتكريم من طرف اتحاد كتاب المغرب وأصدر بالمناسبة كتابا مونوغرافيّاً يؤرِّخ لتجربته الجمالية موسوما بـ»الوعي البصري بالمغرب كتاب مونوغرافي»- يوليوز 2001، كما عاش تجربة الحبس بسبب نضاله داخل صفوف اليسار المغربي، حيث قضى فترات من الاعتقال ضمن نشطاء حركة أقصى اليسار سنة 1972. سبق له إدارة المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة بتطوان خلال تسعينيات القرن الماضي (1994- 1998). وفي ما يأتي ورقة حول مسار الفنان محمد شبعة.

قتل الأب بيرتوتشيقتل الأب بيرتوتشي      حين حط الفنان محمد شبعة الرحال بتطوان وعمره لا يتجاوز عشرين سنة، قادما إليها من طنجة، مسقط رأسه، طالبا ممتلئا بالحيوية والحماس، كان يحمل في ذهنه مشروعا جماليا لم تتضح أبعاده الحقيقية سوى بعد ولوجه مدرسة الفنون الجميلة في بحر الخمسينات والتتلمذ على يد الأستاذ ماريانو برتوتشي Don M. Bertuchi الذي أرسى دعائم الفن التشخيصي والتصوير الزيتي بشمال المغرب..     هناك، ومنذ ذلك الوقت، سيتجاوز محمد شبعة تقنية الألوان المائية التي كان يمارسها بسهولة وسينفتح على مواد وأسناد تعبيرية أخرى، كالطين والجبس وما نحا نحوهما. كما سيكتسب – رفقة مجموعة من زملائه الفنانين، وفي طليعتهم رفيق الدرب محمد المليحي، الكثير من المفاهيم البيداغوجية والتقنيات الأكاديمية المتنوعة التي سيتم تفجيرها لاحقا، خصوصا بعد التوجه إلى روما وأمريكا التي أعجب الفنان محمد شبعة بفنونها المعاصرة، لاسيما تجربة الفنانين جاكسون بوللوك وفرانز كلاين..فـ “بتأسيس مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، على الرغم من عيوب برنامجها، أتيحت لنا الفرصة لتعلم أشياء أساسية ما كنا لنتعلمها لولا هذه المدرسة، بل إن الثورة على ذلك لم تكن ممكنة إلا بما تعلمناه” – الكلام للفنان شبعة..مضيفاً: “غير أنني لم أبدأ بصياغة مواقف وإنجاز أعمال ضد ما كنت تعلمته بالمدرسة إلا بعد انصرافي منها، إذ لم يكن من المعقول يومئذ أن أنصرف للدراسة والتحصيل، وأنتقد ذلك أيضا بصدق !!”..     لم يكن الموقف سهلا أن يعلن التلميذ ثورته على الأستاذ وتجاوز دروس بيرتوتشي الأب الذي كان من الضروري قتله – رمزيا- لخلخلة الفهم الجامد التي ساد التصوير المعاصر بالمغرب وإعادة صياغته على قاعدة جديدة تنطلق من إحياء الفنون الشعبية الوطنية التي رسخت حضورا عضويا عميقا في التربة المغربية الخصبة التي تمتد جذورها إلى التراث العربي الإسلامي والإفريقي..     كان ذلك بمثابة المنطلق الرئيسي لتشكيل وجدان جمالي وطني يقوي تشجيع الفنان المغربي ويؤهله لامتلاك ناصية الصنعة العمل الفني. كما كان السياق التاريخي والسياسي وقتئذ مشتعلا صعبا ومركبا ومليئا بالصراع الإيديولوجي، ولم يكن من السهل كسب الرهان وسط هذا الغليان وإنقاذ جيل (أو أجيال) مرتبك من الرسامين والمصورين وتأطيرهم ثقافيا وإبداعيا لتجاوز الإعاقة التي أحدثتها العقلية والسياسة الكولونيالية في الجسم الإبداعي المغربي، وبالتالي الانخراط بروح وطنية في بناء مغرب بداية الاستقلال..     بهذا التفكير السامي، وبهذا الوعي الجمالي الصاحي، بذل الفنان محمد شبعة جهدا كبيرا لكي ينتصر لمواقفه الإبداعية المعاصرة، تمثل أساسا في قيادته لحملة وطنية توعوية، إلى جانب بعض زملائه الفنانين، والذي ظل يروم من ورائها وضع تجربة وقيمة برتوتشي في سياقها التاريخي والجمالي، وبالتالي إعادة الاعتبار للموروث التراثي والجمالي الوطني ومنه النقوش والزخارف الشعبية والمنسوجات والجبس والفسيفساء والمطروزات والزليج والمشربيات Moucharabiehs ..ومختلف الصنائع والمشغولات اليدوية التي ينتجها الحرفيون التقليديون..     هذا الجهد، الذي وجد أرضية خصبة عكستها أجواء الأفكار السياسية والإيديولوجية التي كانت تملأ مساحات واسعة من انشغالات المثقفين والمفكرين المغاربة التقدميين، تجسد كثيرا في البحث الصباغي والنحت وإدماج الفن التشكيلي في البناء المعماري والانفتاح على ثقافة وفنون القرى والأرياف، فضلا عن الكتابات التنظيرية للحداثة الفنية (باللغتين العربية والفرنسية)، وقد نَشر الكثير منها بعدة منابر ثقافية وإعلامية وطنية وعربية: الثقافة الجديدة، ماروك آرت، أنتغرال، الإشارة، فنون، رواق..ثم مجلة مجلة “أنفاس” Souffles (ذات التوجه اليساري) التي كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي وقد خصصت هذه المجلة عددا مزدوجا (7 و8 غشت 1967) للفنون التشكيلية بالمغرب رصدت من خلاله حصيلة أكثر من عشرين سنة من الإنتاج الجمالي بالمغرب.      ولا شك أن الأفكار والأسئلة البصرية والقضايا الجمالية التي أثيرت في ذلك الوقت – والتي كان الفنان محمد شبعة من أكبر المدافعين عنها- كان لها أثرها داخل الساحة التشكيلية في المغرب..
من تطوان..إلى روما..
     في سنة 1955، سيحصل الفنان التشكيلي محمد شبعة على دبلوم استكمال الدروس من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان ليتجه إلى روما بعدما استفاد من منحة لمتابعة التكوين بأكاديمية الفنون الجميلة بالعاصمة الإيطالية..من هناك كانت البداية الحقيقية لانفتاحه الجمالي المباشر على مختلف التعبيرات الحداثية التي تميز بها الفن التشكيلي الأوروبي في ذلك الوقت. هذا الانفتاح بدا جليا في مجمل القماشات والورقيات التي نفذها الفنان شبعة على إيقاع صباغة حركية غنائية تعتمد السواد كقوة تعبيرية لتبرير البياض..بياض اللون وبياض السند..     أليس في الأمر مفاضلة طيفية ما؟ ربما..أعتقد..ذلك أن “الألوان المتباينة إذا جمعت في المنظر تكون أحسن من الصفرة، لقرب ما بينه وبين الأسود ” كما يقول ابن سنان الخفاجي في سِرِّ الفصاحة/1969..     وقد أدى إعجاب الفنان محمد شبعة بالفن الأمريكي المعاصر الذي تسرب آنذاك إلى إيطاليا وبخاصة أعمال الفنانين فرانز كلاينF. Kline   وجاكسون بوللوك J. Pollock بكل خصائصها الجمالية التي تتجذر في تربة الفن البصري ” الأوب آرت ” والفن الحركي َAction painting إلى إنجاز مجموعة من الأعمال الصباغية بألوان شبه أحادية ، أو اعتماد أسلوب اللونية الواحدة، أبرزها الأحمر الطابوقي، المعروف أيضا بالأحمر المعدني الآجوري، على الأبيض..     عقب ذلك، سيعود الفنان محمد شبعة إلى بلاده المغرب مزوَّداً بتكوين فني أكاديمي منحه رصيدا جماليا غنيا سيمكنه من فهم وفك أسرار الصباغة الحديثة فهما جيدا وإنجاز مجموعة من اللوحات والجداريات والتصاميم المعمارية الحديثة المبنية على الدقة والانضباط، والمؤسسة وفق أساليب هندسية عصرية تعكس طبيعة التفكير العقلاني الذي تميز به إنسانا وفنانا..إلى جانب استعمال الألوان الصارخة والمتقدة التي كانت تبدو في قطعه الفنية صافية وهادئة استنادا إلى الاستنتاج الذي توصلت إليه الناقدة طوني مارايني، مثلما كانت تمتد لثقافته الفنية وتعكس فلسفته الجمالية الواسعة التي كان يجسدها فوق السند بخبرة عالية ومتطورة..فكل هذه المنجزات أمست تجسد شعاره الإبداعي: “الصباغة رفض للعاطفة..ونظافة للعين”..وبعد فترة طويلة دامت زهاء عقدين من الوقت اتسمت بالصمت والتأمل ومراجعة التجربة ظلت خلالها “الصباغة تشتغل في الرأس” (التعبير للفنان شبعة)، سيطالعنا هذا الأخير- مع بداية الثمانينات- بتجربة صباغية جديدة أطلق عليها “بلاغة الشفافية والنور”، وهي سلسلة أعمال صباغية (أكريليك على القماش والورق) بدت مفعمة بالكثير من العلامات والرموز الراقصة والمتطايرة في الهواء وكأنها أشكال هندسية مذوبة صارت خفيفة ومتشذرة بعد أن تخلصت من بناءاتها الرياضية المتماسكة، هي بمثابة التوق نحو الحرية والانعتاق والتحليق في سماء المطلق واللامحدود..نها بلا شك مغامرة جمالية جديدة..أو نور على نور وشعر من شفافية نورانية، حيث قام الفنان شبعة بتصوير الشفوف وكتابة النور.  ولا شك أن لهذا التحول الجمالي في تجربة الفنان محمد شبعة ما يبرره ثقافيا وإبداعيا، إذ حلت المرونة مكان الصرامة..والشفوف مكان الغوامق. يقول الفنان شبعة مبررا ومعللا: ” إن صباغتي لسنوات الثمانين كانت فضائية ومهواة بالأكسجين، هوائية وطائرة سجلت قطيعتي مع الإيديولوجيا كاشتراط لصباغة الإبداع. إن التصميمية الصارمة التي ميزت أعمالي السابقة، قد أخلت الطريق لصباغة ” تتنفس” فطرة وشبابا مسترجعين. هذه الصباغة تدرجت في المكان والزمان من 1983 إلى 1993..لم أكن أدرك آنذاك أنني كنت أؤسس لاتجاه ما بعد حداثي “.. من ثم، سيغدو التعبير التشكيلي عند الفنان محمد شبعة أكثر قوة وتحرُّرا، إذ سيقدم في معرض تشكيلي تاريخي أقامه خلال شتنبر 2004 برواق باب الرواح بالرباط مجموعة من اللوحات والمنحوتات التي تجسد انخراطه الجمالي في إبداع تشكيلي جديد بلغ حده الحداثي بالشكل الذي ظل ينظر-من التنظير- له منذ سنوات طويلة وإلى أن رحل.. 
قماشات مطبوعة بقوة اللمسة..     ما يثير الانتباه في القماشات الصباغية الأخيرة التي أبدعها الفنان محمد شبعة قبل رحيله، هو تلك اللمسات الفنية وضربات الفرشاة العريضة الواثقة التي تطفو على السطح معلنة عن حضور بصمات لونية متعددة المعاني والتجليات، لذلك تظل هذه اللمسات تتحرك داخل فضاء اللوحة..وتطرح أكثر من سؤال بصري لمعالجة المساحة وفهم التكوين.. اللمسة، كما كان يوقعها الفنان شبعة داخل نسق صباغي متفرد، شعاع ضوء في ظلام دامس..وانغماس الذات في أشيائها، أو هي بعبارة أصح: امتزاج الخبرة باللحظة الإبداعية..لمسة/لمسات ممتدة شبه كاليغرافية مدورة تميل إلى التكور والاستدارة..ومفتوحة على ما يكملها لتصير دوائر متعاضدة ومتكومة حول نفسها..بناء اللوحة عنده تقرّره أشكال متحرّكة تمثل شرائط عريضة منقوشة قائمة على التضاد والتنويع: تتعدد..تنثني وتأخد هيئات متشابكة مستمدة من مرجعيات بصرية كثيرة قد تشكل في تاريخها الجمالي المتواصل امتدادا لبناء سابق يقوم على دلالات تجريدية من الممكن متابعتها داخل حدوس الفن الشعبي: تقسيمات هندسية متمايزة الشكل واللون، تركيبات زخرفية مستعارة..إلخ..  فهذا التحوّل الإبداعي يظل طبيعيا في تجربة الفنان محمد شبعة اعتبارا لتعدد أسئلته الجمالية وسفره الدائم واللامحدود في عوالم الثقافة والفكر والإبداع.. لذلك يظل الحضور البليغ والمتواشج للمسة العريضة يبرز حركة التحوّلات الأسلوبية التي تميز طريقة اشتغاله في علاقته بالمساحات والفراغات. فبلجوئه إلى التلاعب بالتضادات Contrastes  كسر الفنان كثافة اللمسات بتوظيف ألوان متباينة تكثر فيها الغوامق والشفوف..     هي أعمال صباغية تجمع بين نزوع جمالي وتعبيري في آن..وقائمة في إنشائها على تخطيط لوني مدروس شفاف أحيانا..حاجب أحيانا أخرى..لكنه يظل في الحالتين معا مشحونا بقوة التعبير وبحرارة اللون في اشتعالاته المنطفئة..وانطفاءاته المشتعلة.. قماشات الفنان محمد شبعة، القديم منها والجديد، تتطلب أكثر من سبيل ملكي Voie royale  للعبور إلى عالمها الداخلي المليء بحبور لوني متدفق يومض خلف الأشياء المصبوغة ويرسم انخراط الفنان المبكر في صباغة ما بعد حداثية عاكسة لفهمه واستيعابه الجيد لمرحلته..  عالم الفنان هو اللوحة..واللوحة هي عالم الفنان..ولفهم الخلفية الجمالية لهذا العالم، ينبغي استشفاف الرُّوح الداخلية لعناصر البناء ومفردات التكوين: اللمسة واللون والعلاقات البصرية القائمة بينها..     ومثلما برز ملوِّناً Coloriste ومنظرا في الفن، فقد تميز التشكيلي محمد شبعة نحاتا بارعا أيضا، حيث تشهد على ذلك العديد من القطع النحتية التي أبدعها على مواد وسنائد صلبة متنوعة وعالج بواسطتها الكثير من القضايا والأسئلة الفكرية والبصرية ذات الأبعاد الجمالية والإنسانية أيضاً..

>ابراهيم الحَيْسن 

Related posts

Top