التراجعات المسجلة على صعيد الانخراط في الأحزاب والنقابات وغيرها ليست ظاهرة مغربية أو أنها جديدة وطارئة، ولكنها تحيل على تحولات عميقة تشهدها المجتمعات المعاصرة، وتعني مختلف مؤسسات وآليات التأطير السياسي والمهني، وتكشف عن قيم تتبدل، ورؤى تكتسب معايير مختلفة.
عند مقاربة الظاهرة لدينا، يجب أيضا استحضار هذه التحولات القيمية الكونية، والتحديات التي تواجهها كل الشعوب، وضمنها شعبنا، ولكن، في نفس الوقت، يجب عدم إغفال بعض “مميزاتنا” المحلية، التي تضاعف من الأثر وتزيد من حدته.
عندما نتمعن في واقع ممارستنا الحزبية والنقابية والجمعوية والانتخابية والإعلامية، ونستعرض حجم ما يلفنا من تدن وتراجع وهشاشة، فليس موضوعيا تحميل الفاعل الحزبي أو الفاعل، بشكل عام، وحده المسؤولية كاملة، وأن نخلص، بتبسيطية فجة، إلى تحديد كبش الفداء، ونشرع في جلده أو سلخه، وذلك كما لو أنه هو وحده من أنتج ضعفه، وألا ندرج في الحسبان كل العوامل الأخرى.
من المؤكد أن أحزابنا السياسية ومركزياتنا النقابية ومنظماتنا المهنية والجمعوية تتحمل جزء من المسؤولية في صنع المآلات التي صرنا عليها، وفي ضعف التأطير السياسي العام وسط شعبنا وشبابنا ونخبنا، ولكن أيضا إفساد الانتخابات وإغراقها بالأموال، وجر النخب والكفاءات، بوسائل متعددة ومعروفة، للابتعاد عن الأحزاب والنقابات، والإمعان في شق هذه القوى ذات التاريخ والمصداقية وتفكيكها وإضعاف وحدتها وقوتها، كل هذا كانت له تداعيات وآثار على تمثلات الناس، وعلى مستوى إقبالهم على الالتزام، وعلى الثقة في العمل المنظم والاهتمام بالشأن العام.
وعندما لا نتيح فرص التفاعل والتشاور والحوار أمام الأحزاب والنقابات والمنظمات المهنية، ولا تؤخذ مطالبها ومرافعاتها بعين الاعتبار، ولا يسمع لها في حل المشكلات أو صنع السياسات العمومية وتنفيذها، فهذا أيضا يعطي الانطباع للناس أن هذه القوى بلا أي أهمية، وبأن تحقيق المطالب وحل المشكلات يمران عبر المساعي الفردية والوساطات الشخصية..
وعندما يتم تشجيع كائنات ريعية أو شعبوية على هامش القوى المجتمعية الجادة والمنظمة ومن خارجها، وتحويلها إلى نخب وأصحاب رأي ونفوذ من دون أي جدارة أو استحقاق، ويجري زرع هذه الكائنات المفتقرة إلى المصداقية في كل الدواليب والمنظمات والقوى، وتشجيعها على التغول، فكل هذا يزيد في إبعاد الناس عن العمل المنظم، ويعمق ابتذال السياسة والعمل النقابي والانتخابات والتنظيم الجمعوي والمهني…
ولما تضاف مثل هذه الممارسات إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية لفئات واسعة من شعبنا، وإلى ضعف المستويات التعليمية، فإن عمل القوى الجادة يصير صعبا.
الأخطر في كل هذا، أن الكائنات واللوبيات المستفيدة من هذه المخططات والسياسات، تتقوى وسط الناس، وتتحكم في المآلات.
ورغم أن المجتمع والبلاد لا يستفيدان منها شيئا، فإنه يصير صعبا التخلص منها أو الانفلات من فضائحها، وتتحول، هي ذاتها، إلى مشكلة أمام البلاد، وعائق أمام الإصلاح والتأهيل.
إن مؤسسات الوساطة والتأطير، الأحزاب والنقابات والجمعيات الجادة ووسائل الإعلام المهنية، تعتبر ضرورية لاستقرار المجتمع ولتطور الوعي والتعددية، ولترسيخ المواطنة والاهتمام بالشأن العام والالتفاف حول قضايا الوطن، ومن ثم من الضروري استحضار ذلك، والحرص على قوة ومصداقية ووحدة واستقرار هذه الهيئات، والعمل لتأهيلها، وصيانة انفتاح المجتمع وتعدديته، من خلالها، وتفادي تعميق التشرذم والفراغ، والحذر من إضعاف آليات التأطير والوساطة.
محتات الرقاص