تذْهب الأزقةُ إلى العَمل باكراً وتبْقى المدينةُ مُعلقةً بالجِبال.. تأبَى الانْحدار، كأنَّ الذي سمَّرَها هُناك كان يخْشى عليْها من الوَحل.. وكان يُريد للمَدينة أن تبْقى مُطلةً مِن الأعالى محميةً بشُموخها.. سموٌّ جُغرافي يجْعلها أقربَ إلى الشَّمْس ربيعاً وصيفاً، ومُعمَّمة بالغُيوم البيْضاء والدَّاكنة خَريفاً وشتاءً..
هُناك مفارقة يتعايش طرَفاها المُتباعدان في هذا الفَضاء الأسْطوري: مدينةٌ جاءتْ تَسْتجدي طبيعةً عنيدة، فظفِرت بالأعَالي، وهُناك أرْخَتْ بياضَها المُتعَجْرف على الجَنبات؛ وطبيعةٌ بالكادِ أعطتْ ثغْرها للحَضارة رافضةً النوْمَ في الفِراش الوَطيء.. إنَّه التمنُّع الذي يَزيدُها بَهاءً وخفْراً!
من أيِّما جهةٍ جئتَها تسْتقبلك بِلا حُرَّاس.. وحدَه الأزْرقُ يُرافقكَ في مَقاماتِها السامية: زرقةُ السماء التي تسْتضيف غُيوماً مُسافرة على الدَّوام، وزرْقة النِّيلة المنْقوعة على الأبْواب.. ثم هذه السكينة التي تَضِجُّ بها الفضاءاتُ فتملأ النفس بطُمأنينة غريبة وفرح مُباغت..
هذه هي شَفشاون، قصيدةٌ مرئيَّة أبدعتْها يدٌ لا تؤمن بالثرثرة العُمرانية؛ وكل شيء فيها منذور للضرورة القصوى: الأزقة والدُّور موزعةٌ بالعدلِ والقسْطاس على ساكنيها، فلا بَذخ ولا قُصور، ولا فقْر ولا أكواخ.. أما السواقي والشلالات فتباغتُ الشَّوارع ـ أحياناً ـ لكي تذكرَها بأن انْثيال الزمَن لنْ يُنسيها في إمْكان إلغَاء الصَّفقة المُجحفة معَ الزيْف الحَضاري.
أكادُ أسْمع النَّحْل وهو يَهْزِجُ فوق كؤوس الشَّاي الباذخة بساحة “وطا حمَام”.. الساحة التي لا يفْصلُها عن السماء إلا دعاءُ عازف الشبَّابة العَجوز، فيما أنْغام الطقْطوقَة الجبليَّة تنْداح من المَقاهي المجاورة تحْكي عن العُشاق الذين احترقتْ أكبادُهم تَولُّها والتياعاً..
مدينةٌ بهَذا البَهاء لنْ تلد سِوى الشّعراء والعُشاق !
> بقلم: عبد السلام المساوي