شكلت السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، فورة على مستوى تكوين الفرق الغنائية الشعبية، في هذه الفترة، ظهرت “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة” و”المشاهب” و”تكدة” و”مسناوة” و”الأرصاد” ووو.. وغيرها من الفرق التي كرست لاتجاه غنائي حظي بتجاوب كبير من لدن الجمهور آنذاك، ولا يزال التجاوب مستمرا مع هذا الإنتاج الغنائي حتى مع الجيل الحالي، بالرغم من التحولات التي طرأت على مستوى الذائقة الفنية، وهي تحولات راجعة بالخصوص للانفتاح على الإيقاعات الغنائية الأجنبية بفضل وسائط الاتصال الحديثة.
صمود الفرق الغنائية الشعبية التي ظهرت في ذلك الإبان، راجع بالأساس إلى كونها انطلقت من الجذور، عبر استلهامها للثقافة المغربية الأصيلة، كلمة وإيقاعات موسيقية على حد سواء.
لقد رأينا كيف أن جيل جيلالة على سبيل المثال اشتغلت على قصيدة الملحون، وقدمتها في قالب موسيقي مختلف، دون التنكر للهوية المغربية، وهو ما جعل أحد الأسماء الأساسية في إنشاد الملحون الراحل الحسين التولالي يبارك هذه التجربة ولا يتردد في مد يد المساعدة للفرقة، وهناك فيديو يظهر هذا الرمز الثقافي يشرح بعض الكلمات التي استغلق فهمها على أحد أفراد فرقة جيل جيلالة.
مع مرور الوقت، كنا نعتقد أن فرقا غنائية أخرى على شاكلة تلك الفرق، ستظهر وستأتي بنفس جديد، وربما قد تحقق النجاح ذاته الذي حققه أسلافها، لكن ما تم الوقوف عنده، كان على العكس من ذلك، حيث أن تلك الفرق القديمة – إذا جاز التعبير- هي التي ظلت سائدة، واستمرت تردد الإنتاج السابق، بمعنى أنها لم تبدع جديدا منذ عدة عقود، إلا في حالات نادرة، كما هو الحال بالنسبة لفرقة “تكدة”، ومما ساعد هذه الفرقة على أن تواصل السير على درب الخلق والإبداع والإنتاج، كون الأعضاء الأساسيين الذين يشكلونها لم يغيبوا عنها وظلوا متماسكين في ما بينهم، على خلاف الفرق الأخرى التي غيبها الموت أو أي اعتبار آخر، أبرز أعضائها: بوجميع أحكور والعربي باطما وعبد الرحمان باكو وعلال يعلى.. من ناس الغيوان. ومحمد الدرهم وباقبو وحسن مفتاح ومحمود السعدي والطاهري وسكينة الصفدي.. من جيل جيلالة. والأمراني الشريف ومحمد باطما والسوسدي وسعيدة بيروك.. من المشاهب.
إلى غير ذلك من الأسماء التي انفرطت من عقد تلك الفرق لأسباب مختلفة، وهي أسماء كانت تشكل ركيزة أساسية داخل فرقها.
وبالرغم من أن بعض هذه الفرق قد حاولت أن تجد بديلا لها؛ فإن هذا الرهان لم يكن موفقا تماما، بدليل أنه لم يتم مواكبة ذلك بإنتاج جديد، يضاهي ما تم إبداعه في بداية التأسيس على الخصوص؛ فما زال العديد من عشاق الموسيقى الأصيلة يحنون إلى الأعمال الغنائية الأولى لتلك الفرق، أكثر من تعبيرهم عن الرغبة في الاستماع إلى ما أنتجوه في وقت لاحق.
ولذلك نجد أغلب إن لم نقل كل تلك الفرق المطعمة بأعضاء جدد، دأبت خلال العقود الأخيرة على تكرار أداء ما أنتج سلفا، في مختلف الحفلات الغنائية والمهرجانات التي يحيونها، لا بل إن منهم من جازف بإعادة تسجيل الأغاني القديمة بأصوات جديدة وإصدارها في ألبومات وبتوزيع موسيقي جديد، وباتت الإذاعات تبث هذه الألبومات في حد ذاتها، في حين صار يتم التغاضي عن الأداء الأصلي، وهذا يشكل بلا شك إساءة لجزء أساسي من تراثنا الغنائي الشعبي.
كانت هناك محاولة للحفاظ على استمرارية هذا الاتجاه الغنائي، عبر تلقين الأجيال الجديدة الأسس التي ينبني عليها، وقفنا على ذلك من خلال المشتل الذي خلقته فرقة تكدة بمركز سيدي مومن للتنمية البشرية بمدينة الدار البيضاء، حيث يسهر بعض أفراد الفرقة أنفسهم على إعطاء دروس للأطفال في ما يخص الأداء الغنائي الذي اشتهرت به فرقتهم.
وهناك فرقة تسمى أحباب الغيوان، بادرت من تلقاء نفسها إلى حفظ الربتوار الغنائي لناس الغيوان وأدائه في مناسبات مختلفة.
الشيء نفسه بالنسبة للفرق الأخرى: المشاهب، الأرصاد، مسناوة..
غير أنه لم تظهر فرق مستقلة بذاتها، فرق لها بصمتها الخاصة ولها إبداعها الخاص، داخل هذا النمط الغنائي الشعبي الذي لا يزال بحاجة إلى البحث فيه وسبر أغواره.
هناك مجهودات لحماية هذا الفن من الاندثار، مجهودات لا يمكن إنكارها، من قبيل ملتقى سنوي يقام تحت اسم مهرجان الظاهرة الغيوانية الذي يسعى كما يبدو من خلال اسمه إلى الحفاظ على المنتوج الغنائي الذي أدته – ليس فقط فرقة ناس الغيوان- بل كل الفرق التي تبدع على منوالها.
كما لا يمكن التغاضي عن مبادرة عمر السيد – وهو أحد أفراد ناس الغيوان- في ما يخص توثيق مجمل القصائد التي أدتها الفرقة، من خلال إصدار ورقي بعنوان “كلام الغيوان”، وقد ساهم هذا التوثيق في الأداء السليم لنصوصه من طرف هواة محاكاة الفرقة.
إلى غير ذلك من المبادرات، لكن لا بد من بذل مزيد من المجهود، على مستويات عدة؛ لأجل عدم التفريط في تقليد غنائي عمر لعدة عقود.
بقلم: عبد العالي بركات