إصداراتي الجديدة المعدة للطبع
كان الأجدر أن تسألني ماذا أقرأ الآن، سأجيبك أنني أقرأ كتابا عن الشعر والذاكرة، وهو من الإصدارات الجديدة لبيت الشعر في المغرب، كتاب يجمع مجموعة مداخلات لشعراء ونقاد مغاربة في المتن الشعري المغربي، موضوع متميز ونادر، ويفتح القراء والشعراء على مطبخ الشعر وتوهجه وحيويته الإبداعية، كما ينفتح على أحد أغوار الكتابة الشعرية في المغرب.
أما بالنسبة للطبع فهو تجربة أخرى في حياة الكاتب الإبداعية، وعبور آخر نحو مجهول الكتابة لديه، ونحو ضفة أخرى في مشروعه الإبداعي، كما أفهم الكتابة، وكما أعيشها، وكما تعلمتها وتربيت عليها من طرف من سبقني من الكتاب بالمغرب وخارجه. طبع كتاب مسؤولية، وليست مجازفة أو نزوة، وهذا هو السائد مع الأسف، لها حيويتها وفرحها في الإضافة وليس في الكثرة السهلة. أن تطبع كتابا معناه أن تختم على منتوج جديد ومختلف في أرض الكتابة، وتسهم في فتح آفاق القارئ على لغة جديدة ومنظور جديد، وإضفاء المعنى على الحياة كوجود منفصل عن التكرار والثبات والوثوقية وتقديس الماضي. طبع كتاب هو قراءة في الذات وفي المجتمع، إعلان عن رؤية أخرى للعالم وللذات بما هي اختلاف، وكشف عن بنيات وأغوار وحده اللانهائي يتمتع بها. لقد سبق لي وأن قلت في حوار سابق أنني أنتظر صدور مجموعتي الشعرية الرابعة “أقيم في ليل الحدود” عن المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، أنتظر الاحتفاء بها كمولود إبداعي في حياتي، وبما جادت به أصابعي، في طرس الكتابة الإبداعية بالمغرب. كما أنني أتوفر الآن على مجموعتين شعريتين جاهزتين للطبع، أرتبهما على نار هادئة، حطبها قلقي وحزني على ما يمور به المشهد الإبداعي والثقافي من تسرع وركض نحو احتلال المواقع والمنصات.
وعلى رواية لا أعرف طريقة نشرها، أتمنى أن أحصل على جائزة دولية تتكلف بذلك. أمزح معك لأن أغلب الشعراء هاجروا إلى الرواية، للحصول على الجوائز والأوسمة. الرواية مشروع حضاري كبير، يحتاج إلى دراسة وإلى توثيق، وتأمل كبير ليكون الإنجاز في مستوى الأعمال الكبيرة، أو على الأقل، ليطرح أسئلة جديدة ومغايرة. وهذا يحتاج إلى وقت كبير، وإلى تفرغ للكتابة ورعايتها صباح مساء، وليس إلى وقت إضافي، قد لا يكون في صالح الرواية كمشروع فكري واجتماعي. وهناك إشكال آخر يرتبط بالطبع وبصناعة الكتاب، وهو أن أغلب دور النشر تهتم بالبيع وبالربح أساسا، ولذلك تهتم بالسرد أكثر مما تهتم بالشعر.
متسللون إلى المجال الثقافي
الحركة الثقافية في المغرب أصابها ما أصاب السياسة من فتور بسبب تطفل عدد كبير من المتسللين إلى المجال الثقافي، ليس بهدف ثقافي ولكن بهدف الحصول على الامتيازات والمواقع. بينما الحركة الثقافية في البلدان المتقدمة، والتي تعطي أهمية كبرى وأساسية للثقافة، تقاس الحركة الثقافية فيها بالنوعية والتراكم؛ النوعية في المنتوج والمنجز الثقافي، في مختلف الميادين والأجناس، وليس المهرجانات الجهوية أو الإقليمية وحتى الوطنية التي تراهن على المسايرة بدل الانفصال والتميز بالمفهوم الحيوي للإبداع؛ والتراكم يتمثل في تراكم التجارب الإبداعية المغربية، بالمواكبة والنقد، بدل المحاباة والإخوانية المحسوبة العواقب. وهذا تلاحظه في النشر وفي تقديم الدعوات، في المهرجانات والمعارض والمناسبات وغيرها؛ مجالات الثقافة أصبح يتحكم فيها الربح المادي أساسا وليس النوع والتراكم والتميز. كما من الصعوبة بمكان أن تحل مؤسسات الثقافة التقليدية اليوم بالمغرب، إشكالات “الثقافي”، أي في تطوير الحس الثقافي، واللغة الثقافية للمغاربة، وأن تساهم في التنشئة الثقافية للشباب المغاربة، إذا لم تغير من فلسفتها، وتصوراتها وآلياتها في خلق ثقافة التسامح والاختلاف والاحترام والتطور داخل المجال المغربي؛ وإذا لم تساهم مختلف مكونات المجتمع المغربي السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية.
أبرز حدث ثقافي
الحدث الثقافي تركيب لمجموعة من الوقائع والقضايا المرتبطة بالجوانب الرمزية والروحية للمجتمعات والشعوب، التي قد تشكل تحولا في مسارها، وفي بنياتها الفكرية والسياسية والأخلاقية. ولذلك قد تجد بعض الندوات الوطنية والدولية، قد تشكل حدثا ثقافيا يطرح مجموعة من الأسئلة، كما قد تشكل فرضيات للبحث والكتابة والإبداع بشكل عام، كما تسهم في رسم السياسات الثقافية للدول في إطار مشروعها الحضاري؛ هذا إذا كانت الثقافة تشكل أولوية بالنسبة لتلك الدول، في إطار سيرورتها السياسية والمجتمعية. كما قد يشكل إصدار كتاب حدثا ثقافيا، خاصة إذا كان يسائل المرجعيات والمفاهيم، ويساهم في خلخلة القناعات
التي شكلت الأرضية الثابتة للأفكار؛ كما أنها تخلق نقاشا وجدالا في أوساط النخب المثقفة والمتعلمة، التي تسعى إلى الإصلاح والتغيير. أذكر هنا بخاصة كتب الأستاذ العروي وتدخلاته خلال مختلف القضايا التي تطرحها الساحة الثقافية والاجتماعية على العموم. طبعا الحدث الأبرز ثقافيا ومغربيا الذي أصبح يسترعي الانتباه، هو المعرض الدولي للكتاب بالبيضاء، والذي قد يكون مناسبة للحوار الثقافي الجاد، ولكنه مع الأسف يغلب عليه الترضية الأفقية لمختلف القطاعات المشاركة، والرهان على الحضور الكمي للجمهور،دون الاهتمام بالأسئلة الآنية للإبداع ، وللقضايا الكبرى الراهنة. وقد تتمظهر الثقافة في تقديم أنشطة ثقافية رسمية وحزبية وجمعوية دون أن تحقق أي هدف، لأنها مرتبطة برهانات ليست ثقافية، باستثناء الجانب الإشعاعي، و الجانب المادي للمنظمين والمشاركين أساسا. ولكنها للأسف لا تصل إلى طرح الثقافي.
إذ الثقافي عامل أساسي في التغيير الاجتماعي، في تغير التمثلات والذ هنيات، والواقع بصفة عامة. إذ العالم يعرف تحولات كبيرة على المستوى العلمي والثقافي، وهنا يلعب دوره السياسي، كما يتجلى ذلك في الرهان على مجتمع المعرفة، كما يتجلى بالخصوص في الدول المتقدمة ودول الخليج، الإمارات نموذجا.
من أجل تطوير الحس الثقافي
أعتقد أننا لا زلنا في حاجة إلى دور الجمعيات الثقافية الوطنية والجهوية في تطوير الحس الثقافي للمغاربة، وفي إضفاء المعنى على الحياة، بخلاف من ينادي بانتهاء دور اتحادات الكتاب أو باقي الجمعيات؛ لكن بالمشروع الثقافي الذي يسعى إلى التغيير والتنوير، وليس كوسيلة للاستفادة الفردية. المشروع الثقافي المغربي الذي يجب في نظري المتواضع أن تساهم فيه الدولة والجمعيات، وتستثمر فيه، هو المشروع الثقافي المندمج، الذي يستهدف تنمية الإنسان وقدراته، ويراهن على خلق ثقافة مغربية جديدة لمغرب صاعد جديد، تنطلق من الحفاظ على التراث والاعتناء بالإبداع المغربي، لاستثماره في مختلف الأنشطة الاقتصادية والسياحية المغربية، و لمواجهة كل أصناف التطرف الديني والعرقي وغيرهما.
القضايا الجديرة بالطرح والمناقشة
ما يغلب على نقاش المغاربة بشكل عام هو ما تقدمه وسائل الإعلام بشكل عام، مثل سؤال التدين، واللباس والأخلاق وغيرها، وليست قضايا ثقافية، تهم الحفاظ على التراث، والحفر في القيمة التاريخية للثقافة المغربية، للحفاظ على الشخصية المغربية وتميزها.الثقافة يجب أن تسهم في تطوير المجال الحضري والريفي عموما، وفي تكوين مواطن الغد، وذلك بطرح القضايا الأساسية التي تعيق التقدم الفكري والاقتصادي، ولكن لا يمكن أن يكون لها مفعولها في المجتمع إلا بامتدادها في المنظومة التربوية، أي داخل المدرسة بالأساس، وكيف تتحول المفاهيم والقيم إلى قناعات وسلوكات لدى المواطن، مثلا ثقافة المسؤولية والعمل والاحترام والجمال والفن وغيرها، أي ثقافة الإنسان. ولهذا لا بد من أن تلعب المدرسة دورها التربوي والثقافي، وهو مدخلها للإصلاح، أي أن تسود فيها الحياة الثقافية والأسئلة الثقافية والتكوينية، التي تربي على هذه القيم وعلى ثقافة المواطنة. وكذلك لابد من استحضار دور الدولة في الاهتمام بالثقافة، ليس كترفيه ولكن كضرورة تاريخية لمواكبة التحولات المجتمعية والعالمية التي تخترق المجتمع والإنسان بواسطة وسائل العولمة وأفكارها التي لا تقدر الأسر والمؤسسات على مواجهتها. الدولة مسؤولة عن توفير شروط الإقلاع الثقافي بالمغرب، أفقيا وعموديا. تقوم خلالها وزارة الثقافة بتحضير وتدبير السياسة الثقافية، إلى حين تشبع المغاربة بثقافة الحقوق والواجبات، واحترام دولة المؤسسات، والقيم المغربية ذات الجذور التاريخية، من حيث الانتماء إلى حضارة ودولة متجذرة في التاريخ.
مسألة ملتبسة
النشر يرتبط بإشكالية القراءة ككل، أي ما نوع المنتج الثقافي الذي يحظى بالقراءة، في سياق سياسي متوتر، يغلب عليه الصراع الظاهر والخفي بين مشاريع مجتمعية وسياسية مختلفة. وهذا ما يؤثر على الصناعة الثقافية وعلى النشر، ونوع التسويق المستهدف؛ وبالتالي قد يتحول مجموعة من المؤلفين بين الكتابة في أجناس وأنواع متباينة. والمسألة ملتبسة وتحتاج إلى دراسة علمية؛ ولكن في نظري أن بعض الأسماء التي غابت عن النشر، ربما أصبحت لها اهتمامات أخرى، أو تنشر في منابر أخرى، إلكترونية بالأساس، وبخاصة فئة قليلة منهم تنشر بعض الآراء في الفايسبوك، أو في المواقع الإلكترونية الوطنية والعربية. وتعرف أن النشر الورقي يعاني من مشكل القراءة والمقروئية، إذ أن اهتمام أغلب الشباب
بالجانب الإلكتروني، والسرعة في القراءة، له دوره في ذلك.وهذا يحتاج إلى مواكبة معرفية للمجال الإلكتروني، ولنوعية ما يتم قراءته واستهلاكه في المجتمع بشكل عام.
الخوف من الإبداع
محاكمة الإنتاج الأدبي والفكري، دليل على الخوف من الإبداع والكتابة بشكل عام، وهو موقف سياسي وليس ثقافيا، ومحاكمة الإنتاج الأدبي والفكري، هو أبشع جريمة ضد الإنسانية، ويوميا قد نجد بعض الكتاب في العالم، يتعرضون للمحاكمة والتضييق والتعنيف، وخاصة الكتاب الذي يثيرون القضايا الحقيقية والساخنة، والتي تسائل البراديغمات السائدة والمكبلة للفكر وللذات والمجتمع. ومن جهة أخرى تكون هذه المحاكمات في صالح الكتب والكتاب. أذكر ما وقع في السابق لمحمد شكري، وللمجلات المغربية في بداية الثمانينات وغير ذلك. فربما يصبح القراء ينتبهون لها، ويتم تكريس أصحابها أكثر. وتلاحظ مثلا أن بعض الضجات الإعلامية وغير المبررة والتافهة، قد يكون رهانها البيع والانتشار وليس القيمة الإبداعية المضافة. محاكمة الإبداع والخيال،هي بمعنى آخر لجم لمبدأ الحرية، كتجاوز لخطوط حمراء في السلوك الإنساني،وقمع لانتصار الإبداع كوجود فني وجمالي،على اعتبار أن الكتابة الإبداعية ليست تقارير، أو بيانات، تعبر عن آراء ووجهات نظر مباشرة لأشخاص ولواقع معين بنفسه،ولكنها ترصد حالات وتناقش قضايا تستأثر باهتمام القراء والمتلقين من مختلف فئات المجتمع. كما تنتقد سلوكات معينة، قد تشكل عرقلة في مسار وسيرورة تحول المجتمع نحو الأحسن. ومن هنا قد يقع الالتباس بين الواقعي والتخييلي في العمل الإبداعي كيفما كان. وبالتالي لا يمكن إلا رفض مثل هذا المنع وهذه المحاكمة، التي قد تكون نتائجها وخيمة على المجتمع وعلى وضعية حقوق الإنسان بذلك المجتمع.
هكذا يكون الدخول الثقافي
لا أعرف من يستعد للاحتفال بالدخول الثقافي، وهل عندنا أصلا دخول ثقافي، مثل فرنسا مثلا. هناك دخول مدرسي روتيني يكون بداية شهر شتنبر من كل سنة. الدخول الثقافي يكون بإصدار مجموعة من الكتب وبأنشطة نوعية كبرى، تشكل أحداثا ثقافية، تشييد مآثر عمرانية ومعمارية تاريخية، إعلان عن برنامج سنوي للثقافة من طرف وزارة الثقافة. سنرى أي دور ستقوم به الجهات الجديدة بالمغرب، في بلورة مشاريع ثقافية، باعتبارها أصبحت لها ميزانيات خاصة بالجانب الثقافي، ويمكن أن تفيد في هذا المجال. وهو رهان صعب يحتاج إلى وضع تصور شامل ودقيق لخلق ثقافة تسهم في دينامية الفعل الثقافي وفي الأمن الثقافي للمواطنين، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بإشراك المثقفين والكفاءات، في طرح القضايا الخاصة بالجهات، في إطار تصور وطني. وبخلق آليات مؤسسية تبلور تلك المشاريع في إطار سياسة ثقافية واضحة، وذات بعد مستقبلي.